الثقافة كمصطلحٍ واجه كثيراً من الاستلهامات الظنيَّة مما حدا بالكُتَّاب تشخيص الثقافة بحسب أذواقهم ومشاربهم، ومنهم مَن أسقط مفاهيمه وعقائده وأهواءه في تحديد ماهيَّتها، وإلى ذلك تنبَّه مالك بن نبي والإمام الشيرازي إلى المشكلات الرئيسة التي أدَّت إلى تخلُّف المجتمعات الشرقية والإسلامية، وهذا لا يمنع من أنَّ التشخيص...

راج مصطلح الثقافة في القرنين الماضيين على نطاقٍ، واسع وحمل في طيَّاته التعكُّز على ركائز مهمَّة يحملها الفرد في ذاته أو يكتسبها من مجتمعه، إلّا أن هذا المصطلح لم يُتَّفق على حدِّه (تعريف محدد له)، إذ جاء مفهومه في كتب اللغة بمعنى الحذاقة، وهي من " ثَقُفَ الرجل ثَقْفاً وثَقافَةً، أي صار حاذقاً خفيفاً فهو ثَقْفٌ. ومنه المُثاقَفَةُ. والثِّقافُ: ما تُسَوَّى به الرماحُ. وتَثْقيفُها: تسويتها. وَثَقِفْتُهُ ثَقْفاً، أي صادفتُهُ."(الصحاح في اللغة:1/71)، وهذا المفهوم بعيد عن القصدية الثقافية المتداولة في اصطلاح اليوم.

مشكلة التعريف

 وردت تعريفات عدَّة في الاصطلاح؛ إذ قال بعضهم: إنَّ المُثقَّف هو الذي يعرف كلَّ شيء عن شيء، وشيئاً عن كلِّ شيء.

 وقال آخر: "الثقافة هي مجموعة معقدة وشاملة من السمات المادية والروحية التي تميز مجتمعًا معينًا أو مجموعة من الناس، وتشمل المعتقدات والقيم والفنون والآداب والقوانين والعادات والتقاليد وطرق العيش والمعرفة المشتركة والقدرات المكتسبة. إنها نظام متكامل يشكل سلوك الأفراد والمجتمعات، ويُنقل عبر الأجيال ليُشكّل هوية الجماعة ويربط أفرادها معًا"(كلايد كلوكهون:12).

 وقال ثالث: "الثقافة على أنّها وسيلة تحسّن من وضع الإنسان، حيث يستطيع مواكبة التغيُّرات الحاصلة في مجتمعه أو بيئته عند تلبية حاجاته الأساسية." (مالينوفسكي: 22). وغيرها من التعريفات التي حاولت أن تُضيِّق المفهوم لتقدَّم معنى عاماً شاملاً عن هذا المصطلح الحديث.

 في حين يعرِّفها مالك بن نبي في قوله: "الثقافة (فكرة) ذات وجوه كثيرة ينبغي أن نطبق في تعريفها منهج الشيء المعقد الذي لا يمكن أن يُدرك في صورة واحدة، فليس يكفي أن تكون صورتها لدينا مجموعة من الأفكار، أو مجموعة من الأفكار والأشياء... كما لا تكفي أن تكون انعكاساً للمجتمع... وهي مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يتلقاها الفرد منذ ولادته"(ابن نبي: 51-53)، فالثقافة عند بن نبي هي نتيجة تفاعل بين الإنسان -بوصفه كائن فاعل قابل للنشوء والارتقاء والتغيير- وبيئته، وتشمل جميع المكتسبات -المجتمعية وغيرها- والانجازات النظرية والعملية التي أنتجها الإنسان في تاريخه الاجتماعي.

 والمرجع الراحل السيد محمد الشيرازي يذهب في تعريفه للثقافة على أنَّها: "هي مجموعة من القيم والمعتقدات التي تشكل هوية المجتمع وتؤثر على سلوك أفراده" (السبيل، الشيرازي:27)، فالسيد الشيرازي يرى الثقافة كعنصر أساس في بناء المجتمع وتطويره، ويركز على أهمية الثقافة في تشكيل الهوية والوعي الاجتماعي، ويشدد على دورها في تعزيز القيم الدينية والاجتماعية.

 والثقافة كمصطلحٍ حديث -من حيث المفهوم- واجه كثيراً من الاستلهامات الظنيَّة مما حدا بالكُتَّاب تشخيص الثقافة بحسب أذواقهم ومشاربهم، ومنهم مَن أسقط مفاهيمه وعقائده وأهواءه في تحديد ماهيَّتها، وإلى ذلك تنبَّه مالك بن نبي والإمام الشيرازي إلى المشكلات الرئيسة التي أدَّت إلى تخلُّف المجتمعات الشرقية والإسلامية، وهذا لا يمنع من أنَّ التشخيص يُعبِّر عن وجهة نظر كلٍّ منهما.

تشخيص مشكلة الثقافة

 يُشخص مالك بن نبي المشكلة الرئيسة في تخلُّف البلدان الإسلامية وهي الابتعاد عن المجتمع، والثقافة هي جزء لا يتجزَّء من المجتمع؛ لذا نشأت -بمفاهيمها المتعددة- في أحضان علم الاجتماع، فهي من المجتمع وإليه، وأشار إلى الإنزواء وإلقاء الحبل على الغارب ما هو إلا قتل للثقافة، وهذه الفكرة يبدو أنَّه استقاها من قول النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) "كلُّكم راعٍ وكُلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّته"، وقد أسمى هذا الإنزواء الذي يعني (عليَّ بنفسي) بالكلمة القتَّالة، فعلى الإنسان أن ينغمس في مجتمعه ويدخل في أتون الأعمال ويصحب المسؤوليات ليكون جزءاً من الحل والتطور.

 في حين يرى السيد الشيرازي أن التشخيص يكمن في ابتعاد الفرد عن دينه ومعتقده، وأن الغرب إنَّما وصلوا لما وصلوا إليه بالتمسك في التبشير تارة -بطريقة القوَّة الناعمة من نشر الصليب في كل مكان وفي الأعلام الرسمية للدول وكذلك استغلال المؤسسات الخدمية لنشر ذلك كالصليب الأحمر وغيره- والمضي بالتعاون على إنهاض المجتمع من سباته تارة أخرى"، وقد أغفل المسلمون أهمية التثقيف وتناسوه في الوقت الذي أدرك الغربيون والشرقيون أهميته وراحوا يعملون بكل طاقاتهم في هذا السبيل"(الشيرازي: 24)، وبهذا تنبَّه السيد الشيرازي إلى أن الجهل ليس فقط بالانطواء الفردي -كما اعتقده ابن نبي- وإنَّما الفردانية والابتعاد عن الدين.

خصائص الثقافة بين ابن نبي والسيد الشيرازي

 خصائص الثقافة تختلف من ناقدٍ لآخر، فهي تخضع للذوق وللملاحظة وللمعرفة، وعلى الرغم من أنَّ المفهوم الثقافي يتمحور داخل بوتقة علم الاجتماع؛ إلَّا أنَّه يتوسَّع ليمثل العلوم الأُخرى، ومتى ما علم الكاتب بأكثر من علم؛ تتوسع لديه دائرة المعرفة الثقافية، وعلى هذا الأساس نجد خصائص الثقافة عند مالك بن نبي تختلف عن الخصائص التي يراها الإمام الشيرازي، من ذلك على سبيل التمثيل:

1- يرى ابن نبي من الخصائص الرئيسة للثقافة هو (التمايز)؛ فعنده تنماز كل ثقافة بخصائصها الفريدة التي تميزها عن الثقافات الأخرى، فالتمايز ظاهرة صحيَّة يجب على الثقافات أن تؤمن بها عند مالك بن نبي.

 في حين يرى السيد الشيرازي أن الخصيصة الرئيسة للثقافة هي (الأهمية الدينية)، فالثقافة عند الشيرازي ترتبط بالقيم الدينية وتأثيرها على المجتمع بحسب الرؤية الدينية التي يمتلكها المجتمع، وبها تُقاس ثقافة المجتمع علوّها من دنوِّها.

2- يُشير مالك بن نبي إلى خصيصة أخرى وهي (التأثير المتبادل)، إذ تتأثر الثقافة بالبيئة الاجتماعية والحضارية، وتؤثر بدورها على سلوك الأفراد والمجتمعات.

 ويوافقه السيد الشيرازي في هذه الخصيصة التي أسماها بــ(التأثير الاجتماعي) فالثقافة المجتمعية تؤثر وتشكل اتجاهات المجتمع وتزيد من وعيه. 

3- والخصيصة الثالثة عند ابن نبي هي (التراكم) وهو الخزين المعرفي لدى الفرد، فالثقافة هي نتاج تراكمي تاريخي يتشكل عبر تفاعل الأجيال ومنها إلى المجتمعات.

 إلَّا أنَّ السيد الشيرازي يُشير إلى (الدور التربوي) في إنماء الثقافة؛ لأنَّ الثقافة تلعب دورًا تربويًا في تشكيل وعي الأفراد وتوجيه سلوكهم، لما للتربية من تأثير في غرس مفهوم الإنماء لدى الأفراد.

مراحل التثقيف بين مالك بن نبي والسيد الشيرازي

 ينظر مالك بن نبي إلى الثقافة من منظار اجتماعي فلسفي لا يتجاوز حدود الملاحظة، فهو يبدأ بالإشارة إلى تثقيف (الفرد) عبر شعوره بالمسؤولية، وعليه أن يتصدَّى إلى مناصب التغيير ولا يخضع للكلمة (القتَّالة)، ومن ثَمَّ إلى (التركيب) الذي أراد منه التثقيف المشترك والثقافة المشتركة بوساطة الفرد مع المجتمع، وينتقل بعد ذلك إلى (تعايش الثقافات) وهي إشارة إلى توسيع الثقافة بين الدول لتعبر القارّات بإشارته إلى (طنجة و جاكارتا)؛ لأنّ مشكلة الثقافة عنده تخضع لمشيئة الإنسان مباشرة؛ ولكن "الأحداث هي التي تُملي أحياناً محاولة الإنسان في هذا الميدان تحدد مغزاها"(ابن نبي: 104). وصار يُركِّز على التعايش الثقافي بين المحاور المختلفة بين دول القارات المختلفة في اللغة والعادات والتقاليد، لأنَّ المحورية تكمن في تحديد مصير الشعوب المتخلِّفة التي تمتد رقعة سكانها على محور جغرافي من قارة إلى أخرى.

 ومن ذلك ينطلق إلى التثقيف عبر العالمية مستهجناً الحروب والاقتتال الدولي؛ ويؤكد على أنَّ الاقتتال يجب أن يكون في إطار السياسات الدولية ولا دخل للشعوب في الصراعات السياسية؛ وأن لا تتأثر الوشائج الاجتماعية بين الدول.

 بينما يرى السيد الشيرازي أنَّ مرحلة التثقيف تبدأ من توعية الأبوين ليكون الجنينُ صالحاً وغرس المودَّة والحب عبر الابتعاد عن لقمة الحرام، فالفرد تبدأ الثقافة فيه منذ الولادة؛ لأنّ الثقافة هي التي تعيِّن اتجاه الإنسان، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وهذه النظرة نجدها نظرة ثاقبة أفضل من تثقيف الفرد بعد أن شبّ على مفاهيم معيَّنة، فإعادة برمجته على مفاهيم أخرى من الصعب تطبيقها، هذا على سبيل الفرد.

 أمَّا على سبيل المجتمع؛ فيرى السيد الشيرازي أنَّ التثقيف المجتمعي عبر بناء الأسرة المسلمة؛ لأنَّ الإسلام دين الثقافة ودين التسامح ودين المودَّة، وهو دين ينبذ العنف والاستبداد والدكتاتورية والتخلُّف، إذا ما نشأت الأسرة نشأة صحيحة؛ نضع بوساطتها اللبنة الأولى لتثقيف المجتمع؛ بيد أنَّها أصغر وحدة مجتمعية.

 كذلك عند السيد الشيرازي تتم انتشار الثقافة في الخارج عبر تثقيف المسلمين المتواجدين في بلدان الغرب، لأنَّ التثقيف أمرٌ بالغ الأهميَّة؛ إذ إنَّه سبب التغيير إلى الأحسن أو إلأسوأ، وقد غفل المسلمون أهميَّة التثقيف وتناسوه في الوقت الذي أدرك الغربيون والشرقيون أهميته وراحوا يعملون بكل طاقاتهم في هذا السبيل.

الاستنتاجات

 مما تقدَّم نستنتج ما يأتي:

1- لم يُحدد مالك بن نبي تعريفاً متكاملا لمفهوم الثقافة؛ على الرغم من أنَّه نقل ما ذكره السابقون من تعريفات في حدِّ الثقافة، لكن وجدنا أنَّ السيد الشيرازي أشار إلى التعريف بشكلٍ مباشر ولم يتعكَّز على مَن سبقه.

2- أشار مالك بن نبي إلى أنّ التثقيف يجب أن يبدأ من الفرد بغض النظر عن عمره وزمانه ومكانه، في حين دعا السيد الشيرازي إلى التثقيف المبكر للفرد يبدأ من الأجنَّة، وهذه نظرة إسلامية صرفة، تدعو إلى الابتعاد عن المحرمات التي تجعل من الإنسان لا يستقبل الممدوحات أو الرافعات الثقافية.

3- كتب بن نبي كتاباته عن الثقافة بلغة فلسفية يصعب على المبتدئين حفظها وإدراكها؛ والسيد الشيرازي كتب الثقافة بلغة مبسطة يدعمها بالقصص القصيرة لترسخ في الأذهان.

4- مالك بن نبي والسيد الشيرازي اتفقا على خصيصة التأثير الاجتماعي وإنَّه من الخصائص المهمَّة في التثقيف المجتمعي.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2025

http://shrsc.com

اضف تعليق