الحماسة المفرطة لفرض الرؤى والعقائد على شعب تتجذر فيه ثقافات كثيرة متعايشة، تعني نسف وحدة البلاد وتدمير مبدأ التعايش بين أبناء الشعب، الذي صار يجد نفسه باستمرار وقد فُرضت عليه خيارات لا يتقبلها كل أبنائه، ولعلنا شهدنا نتائج هذه النزعة وما أوصلتنا إليه...

قرأت قبل سنين مادة للأكاديمي المعروف الأستاذ الدكتور سعيد عدنان، حكاية جميلة اقتبسها من التاريخ وعالجها بقلمه، فاستوقفتني لما فيها من عبرة تصلح أن تكون مقاربة لهذه السطور. تقول الحكاية: “مرّ أبو علي الفارسي بمسجد من مساجد الموصل فرأى صبيًا قد جلس مجلس الأستاذ وحوله صبية يتعلمون منه، فوقف مستمعًا فإذا بالصبي ينبئ عن ذكاء نافذ وذهن متقد، لكنه قد تعجل الأمر، وأراد الحصاد قبل أوانه، فخشي عليه أن يضيع، ورغب في إيقاظه، فتوجه إليه بأسئلة في الصرف لم يجب عنها، فقال له: لقد زبّبت يا فتى وأنت حصرم! ثم مضى. طوى الصبي مجلسه وسأل عن الشيخ، فقيل له: هذا أبو علي الفارسي، فلحق به، وصحبه سنين حتى عُرفت العربية فيه شيخًا جليلًا من شيوخها يُدعى ابن جنّي”.

من خلال قراءتي في تاريخ العراق وغيره من دول المنطقة، توقفت عند دول كانت حتى منتصف القرن الماضي متخلفة كثيرًا قياسًا بالعراق، وعلى مختلف المستويات، لكنها الآن تعد متقدمة عليه كثيرًا وعلى مختلف المستويات أيضًا، ونقصد هنا الخدمات والبنية التحتية. وقد أيقنت أن مشكلة العراق تكمن في أن الكثيرين من بين نخبه المتصدية للعمل السياسي أو الناشطين المدنيين، ومنذ عقود طويلة، يعملون وبحماسة على حصول تغيير سريع ومفاجئ، أي بلغة السياسة (تغيير راديكالي). 

وبما أن الساحة العراقية شهدت ظهور الكثير من التيارات السياسية المتعارضة التوجهات تمامًا، فكان هذا التعارض الحاد الممزوج بحدة الطبع عند العراقيين سببًا في الكثير من المصادمات التي طبعت حياتنا، لا سيما بعد العام 1958، ولعل ما قبله لم يكن استقرارًا عميقًا، بل كانت الكثير من النيران تتقد تحت رماد هذا الاستقرار الذي عصفت به (ثورة 14 تموز). 

وأصبحنا منكشفين ونعيش سلسلة صراعات دموية وبمعادلات صفرية، لاعتقاد كل جهة أنها تمتلك الحقيقة الكاملة، وتسعى لفرض رؤاها وقناعاتها على الشعب كله لتسعده وتجعله متقدمًا على غيره! أو هذا ما ظلت تبشر به طروحات المتصارعين جميعهم، سواء كانوا في السلطة أو خارجها! وبذلك فقد العراق عنصرًا مهمًا من عناصر بناء الدولة، بل من دونه لن تُبنى أصلًا، ألا وهو الاستقرار، الذي كان وما زال حلم العراقيين وهاجسهم اليومي.

لا نقول هذا من باب جلد الذات، لأني شخصيًا أكره هذا النوع من الطروحات، وأراه مدعاة للإحباط ولا يخلو من نزعة تعالٍ على الآخرين، لكننا نقول ذلك لنعيد قراءة المراحل التي عشناها ولماذا لم تسهم في إنعاش حياة الشعب بشكل يتناسب مع حجم ثرواته. وحين نشخص الأخطاء فهذا لا يعني أننا نريد أن نجرّم هذا أو ذاك، وإنما لنقول إن كل مرحلة مرّ بها العراق شهدت نوعًا من هذه الراديكالية وفائض الحماسة، الذي ما إن يخفت لأسباب معينة حتى يأتي خطاب أكثر راديكالية منه، ويستمر مأزق الشعب الذي ظل يبحث عن (أبي علي الفارسي) ليقول لنخبه والمتصدين فيه: كفى! وينهي هذه اللعبة. فالحماسة المفرطة لفرض الرؤى والعقائد على شعب تتجذر فيه ثقافات كثيرة متعايشة، تعني نسف وحدة البلاد وتدمير مبدأ التعايش بين أبناء الشعب، الذي صار يجد نفسه باستمرار وقد فُرضت عليه خيارات لا يتقبلها كل أبنائه، ولعلنا شهدنا نتائج هذه النزعة وما أوصلتنا إليه.

اليوم نجد أشخاصًا زبّبوا قبل أن يحصرموا في السياسة وغيرها، ولكنهم يعملون وبقوة لفرض خيارات تعسفية على حياة الناس الشخصية ويسعون إلى تطبيقها بطرق راديكالية، وكأنهم يريدون أن يسبقوا الزمن، لاعتقادهم أنهم يمتلكون الحقيقة التي تؤهلهم ليتصرفوا كأوصياء على البلاد وأهلها. ويبقى السؤال: متى ننتهي من هذا المسلسل المدمر والطويل؟ لا ندري.

اضف تعليق