إن العراق اليوم بأمسّ الحاجة إلى نظرية في بناء الدولة، لا كخيار فكري إضافي، بل كشرط وجودي لاستمرار كيانه وتجاوز أزماته المتراكمة. ويمثل طرح نظرية الدولة الحضارية الحديثة فرصة لإعادة تعريف الدولة العراقية على أسس جديدة، تجعلها دولة مواطنة وقانون وتنمية، لا دولة محاصصة أو شعارات فارغة...
منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة مطلع القرن العشرين، ظل سؤال الدولة ومعناها وأسسها مطروحًا بإلحاح، لكنه لم يجد إجابة راسخة تُترجم إلى مشروع تاريخي جامع. فقد تعاقبت أنظمة الحكم وتبدّلت الشعارات، من الملكية إلى الجمهوريات القومية والبعثية ثم نظام ما بعد 2003، لكن جميعها أخفقت في صياغة نظرية واضحة لبناء الدولة، أي رؤية متكاملة تحدد هوية الدولة، غاياتها، مؤسساتها، وأسس علاقتها بالمجتمع. ونتيجة لذلك بقي العراق أسير الأزمات البنيوية: ضعف الشرعية، هشاشة المؤسسات، غياب الهوية الجامعة، وهيمنة المحاصصة. من هنا تبرز الحاجة الملحّة اليوم إلى نظرية في بناء الدولة، لا كترف فكري، بل كشرطٍ لازم للنهوض الحضاري، وصيانة السيادة، وإطلاق التنمية. وهنا يطرح البعض “نظرية الدولة الحضارية الحديثة” كإطار مرجعي يمكن أن يشكّل الجواب التاريخي عن سؤال الدولة في العراق.
ما معنى نظرية بناء الدولة؟
نظرية بناء الدولة ليست برنامجًا حكوميًا مرحليًا، ولا خطة تنموية آنية، بل هي إطار فكري ومرجعية شاملة تجيب عن ثلاثة أسئلة جوهرية:
1. ما هي الدولة؟ أي الكيان السياسي الذي يملك السيادة ويُعبّر عن الإرادة العامة.
2. لماذا نحتاجها؟ لضمان الأمن والعدل والحرية والتنمية وحماية الحقوق.
3. كيف تُبنى وتستمر؟ عبر قواعد دستورية راسخة، مؤسسات مستقلة، قيادة شرعية، وتنمية متوازنة.
أسس وعناصر نظرية بناء الدولة
أي نظرية جادة لبناء الدولة تقوم على مجموعة ركائز أساسية:
الشرعية: أن تستند الدولة إلى دستور واضح وإرادة شعبية.
المؤسساتية: استقلال المؤسسات عن نزوات الأفراد والأحزاب.
الهوية الجامعة: تجاوز الانقسامات الطائفية والإثنية في إطار وطني شامل.
سيادة القانون: خضوع الجميع للقانون بلا استثناء.
التنمية الحضارية: ربط الاقتصاد بالتعليم والثقافة والقيم.
القيادة الواعية: نخب تمتلك رؤية حضارية لا مجرد رغبة في السلطة.
القدرة على الاستمرار: نظام مرن يتكيف مع الأزمات ولا ينهار عند أول اختبار.
هل امتلكت القوى الحاكمة في العراق نظرية لبناء الدولة؟
الملكية (1921–1958): اعتمدت النموذج البريطاني، فأنشأت جهاز دولة شكليًا لكنه ظل بعيدًا عن المشاركة الشعبية الحقيقية.
الجمهوريات والانقلابات (1958–2003): رفعت شعارات قومية أو اشتراكية، لكنها بقيت أيديولوجيات سلطوية أكثر منها نظرية مؤسساتية.
مرحلة ما بعد 2003: تأسس النظام على مبدأ المحاصصة الطائفية والقومية، أي اقتسام الدولة بين مكوّنات، لا بناء دولة وطنية حديثة.
الخلاصة أن القوى المتعاقبة لم تملك نظرية وطنية جامعة، بل مارست الحكم كإدارة وقتية أو سلطة أيديولوجية أو غنيمة موزعة.
نحو نظرية الدولة الحضارية الحديثة
أمام هذا الواقع، برزت فكرة نظرية الدولة الحضارية الحديثة كإطار نظري يسعى إلى دمج:
قيم الحضارة: العقل، العلم، الحرية، الكرامة الإنسانية.
آليات الدولة الحديثة: الديمقراطية، المؤسسات، سيادة القانون.
خصوصية الواقع العراقي: التعددية الدينية والقومية، الثروة النفطية، والموقع الجغرافي.
هذه النظرية تقدم بديلاً عن دولة المكوّنات الطائفية، والدولة الشمولية الأيديولوجية، والدولة الريعية الفاشلة، وتطرح بدلاً عنها دولة حضارية حديثة قادرة على جمع المكوّنات في هوية مشتركة، وإطلاق مشروع نهضة شامل.
خاتمة
إن العراق اليوم بأمسّ الحاجة إلى نظرية في بناء الدولة، لا كخيار فكري إضافي، بل كشرط وجودي لاستمرار كيانه وتجاوز أزماته المتراكمة. ويمثل طرح “نظرية الدولة الحضارية الحديثة” فرصة لإعادة تعريف الدولة العراقية على أسس جديدة، تجعلها دولة مواطنة وقانون وتنمية، لا دولة محاصصة أو شعارات فارغة. بذلك فقط يمكن للعراق أن ينتقل من مرحلة إدارة الأزمات إلى مرحلة بناء التاريخ وصناعة المستقبل.
اضف تعليق