التغيير المطلوب يبدأ من إعادة تعريف وظيفة الدولة: فهي ليست مجرد سلطة أمر ونهي، بل مؤسسة تربوية بالمعنى العميق للكلمة، مسؤولة عن توجيه المجتمع وبناء وعيه. على الحكومة أن تستثمر في الإعلام الوطني الجاد، في المناهج الدراسية، في الشراكة مع الجامعات والمراكز البحثية، في دعم المنظمات المدنية...

هل من المقبول او المعقول فرض نمط حياة موحد على الجميع، دون استثناءات أو تدرج، حتى لو كان الهدف نبيلاً، كالحفاظ على الصحة العامة، او حياة المواطنين؟

بالتأكيد لا... 

من المفرح ان تقرأ خبرا يؤكد ان دولة ما خالية من التدخين بشكل نهائي، ولا إراديا تُرجع الامر الى وعي مجتمعي بمضار التدخين عليه قرر الجميع الإقلاع عن التدخين والتخلص من مضاره.

فيما بعد تبين ان هذه الدولة خالية من التدخين نتيجة لعوامل عديدة، تبتعد جميعها عن الوعي الفردي او الاجتماعي، اذ اعتمدت السلطات الرقابية أسلوب رقابي حازم، يبدأ من فرض رسوم كمركية كبيرة على استيراد السكائر، بما يجعل أسعارها مرتفعة في الأسواق.

ومن الطبيعي ان يكون ثمن شراءها من المضرات بجيب الفرد، في ظل الأوضاع الاقتصادية الحالية، ففي بعض الدول الاوربية يصل سعر علبة السكائر الى أكثر من 50 دولارا، ما يترتب على الفرد رصد مبلغ 1500 دولار شهريا، هذا إذا افترضنا انه يدخن علبة يوميا.

لكن قبل الخلاص الى هذه النتيجة او الاجراء الحكومي الذي يراه العض اجراءًا صارما، كانت هناك برامج توعوية وندوات ارشادية وضح مضار التدخين على الفرد والمجتمع من الناحية الصحية والاقتصادية، وقد تستغرق مثل هذه الحملات سنين طوال.

فضلا عن صرف مبالغ مالية لإنتاج المواد الإعلامية المحفزة على ترك التدخين، بينما الحال يختلف كثيرا بالنسبة للبلدان النامية لاسيما العراق، يبدو أن المنع قد تحوّل في الوعي الإداري والسياسي العراقي إلى الخيار الأول، وربما الوحيد، في التعامل مع القضايا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

 فكلما برزت مشكلة، أو ظهرت ممارسة غير مقبولة، سارعت الجهات الرسمية إلى إصدار قرارات منع وحظر، من دون أن تسبقها خطوات تمهيدية تقوم على التوعية والإرشاد، ومن دون أن تتبعها برامج عملية تعالج الأسباب العميقة للمشكلة.

 وهكذا تتحول السلطة التنفيذية إلى "شرطي مرور" لا يعرف سوى صافرة التوقيف، فيما يُهمل دورها التربوي والإصلاحي، وتتخذ من أسلوب المنع عكازة إدارية تمارس من خلالها سلطتها التعسفية بعيدا عن الرؤية الاستراتيجية التي من المفترض ان تنعكس على قراراتها الهادفة الى بناء فرد واعي.

غير أن الاكتفاء بالمنع يشي بغياب هذه الرؤية، وكأن السلطة تعترف ضمنيا بعجزها عن إقناع المواطن بخياراتها، فبدل أن تُبنى علاقة ثقة متبادلة، تُفرض علاقة قسرية تجعل المجتمع في موقع المتلقي للأوامر، لا الشريك في صناعة القرار.

وهذا الاستسهال في إصدار قرارات المنع يكشف أن الحكومات تميل إلى الحلول السريعة، التي تُظهر قوة شكلية وتمنحها شعورا زائفا بالسيطرة، لكنها حلول مؤقتة، أشبه بإغلاق الحنفية جيدا لمنع هدر المياه، من دون إصلاح العطل في أنابيب المياه المثوبة.

من البديهي أن أي مجتمع متنوع ومليء بالتحديات كالمجتمع العراقي لا يمكن ضبطه بالعقوبات وحدها، فقبل العقوبة تأتي مسؤولية الدولة في التثقيف والإرشاد وإطلاق الحملات الإعلامية التي تعالج جذور الظواهر، خذ مثلا ملف المخدرات أو حوادث السير أو حتى ظاهرة العنف الأسري، فهذه قضايا لا يمكن حسمها بقرارات منع متكررة، بل بتخطيط طويل الأمد يشمل التعليم، الإعلام، المؤسسات الدينية والثقافية، والقطاع المدني.

بينما التجارب العالمية الناجحة تؤكد أن العقوبة وحدها لا تكفي، فالدول التي نجحت في الحد من التدخين أو الحوادث المرورية، سبقت قوانينها بحملات إعلانية واسعة، ووفرت بدائل صحية، وأطلقت برامج تعليمية، ثم جاءت العقوبات كمرحلة أخيرة لتعزيز السلوك الصحيح.

من التراث العربي عبارة مأثورة تقول "آخر الدواء الكي"، وهذه الحكمة تصلح أن تكون مبدأً في إدارة الدولة، العقوبة يجب أن تكون آخر خيار، لا أول وسيلة. فالمواطن الذي لم تُمنح له فرصة لفهم خطورة سلوك ما، أو لم يُوفَّر له البديل المناسب، سيعتبر العقوبة ظلما وتعسفا، لا إجراءا إصلاحيا.

ولعل أخطر ما في ثقافة المنع أنها تخلق مجتمعا خانعا ظاهريا، متمرّدا باطنيا، فالمواطن قد يطيع القرار خوفا من الغرامة أو العقوبة، لكنه في الوقت نفسه يتحين الفرصة للالتفاف عليه، وهذا ما يفسر انتشار التحايل والفساد الصغير، لأن العلاقة بين المواطن والدولة تقوم على القوة لا على الاقتناع.

التغيير المطلوب يبدأ من إعادة تعريف وظيفة الدولة: فهي ليست مجرد سلطة أمر ونهي، بل مؤسسة تربوية بالمعنى العميق للكلمة، مسؤولة عن توجيه المجتمع وبناء وعيه. على الحكومة أن تستثمر في الإعلام الوطني الجاد، في المناهج الدراسية، في الشراكة مع الجامعات والمراكز البحثية، في دعم المنظمات المدنية، لتكون جميعها أدوات لخلق وعي جماعي.

وحين يُبنى هذا الوعي تدريجيا، تصبح العقوبة مقبولة وفاعلة، لأنها تأتي كتتويج لمسار طويل من الإقناع والتثقيف، وعندها يدرك المواطن أن العقوبة ليست انتقاما من السلطة، بل حماية له ولمجتمعه.

ثقافة المنع، بصورتها الحالية، تعكس أزمة ثقة بين الدولة والمجتمع، وأزمة عجز في ابتكار حلول جذرية، وما لم تُستبدل هذه الثقافة بثقافة الوعي والتربية، فإننا سنبقى ندور في حلقة مفرغة من القرارات الفوقية وردود الأفعال الشعبية، فالدولة الرشيدة هي التي تجعل من المواطن شريكا واعيا، لا متهمًا دائما.

اضف تعليق