تفردت قصائد الحاسوب ليس بوصفها قصائد تقوم جميعا على تأمل جهاز الحاسوب وإنما استلهام القصيدة عن طريقه.. بوصفها قصائد تنم عن انشغال الشاعر بجهاز حي يرافقه في طائرة كان على متنها تنقله من الأردن إلى مطار العقبة، كما يشير الشاعر، ولم يكن ليجد مرافقا جامدا يرقد إلى جانبه...
التهمة الباطلة التي يسددها عدد من النقاد إلى الأدباء والمتعلقة بمفهوم بساطة المفردات التي تستخدم في الشعر أو السرد، تهمة لا تنم عن دراية أو فهم صحيح لمعنى "البساطة". أن يكون المرء بسيطا في كلماته وحواراته ومناقشاته وأحاديثه أو، بسيطا في شكله ومظهره، لا يعد دليلا على عجزه وضحالته وهامشيته أبدا.
البساطة.. انتقاء مفردة دالة، واضحة، مفهومة، يمكن إدراكها وتأملها ومعرفة معناها من دون السقوط في التقريرية والمباشرة.
يقول محمود درويش: "يبقى مكانك فارغا/ وفراغك أجمل الحاضرين". ويقول شمس الدين التبريزي: "المرء مع من لا يفهمه/ سجين". ويقول عبد العظيم فنجان: "تعالي ننقل الحرب إلى البيت/ أرميك بوردة/ ينفجر في وجهك الصباح". وننتقل إلى قصة قصيرة لهيمنغواي: "للبيع/ حذاء أطفال غير مستهلك". أو قصة "ارسكين كالدويل" وهو يكتب: "بلغت حرارة الشمس درجة/ جعلت طائرا يهبط ليتفيأ في ظلي".
كل هذه الأمثلة الشعرية والنثرية، مكتوبة بلغة بسيطة وليس فيها مفردة واحدة غير مفهومة أو غير واضحة للقارئ.. ولكنها جميعا تنم عن بساطة بالغة الدقة، صادقة المعنى، مستوفية للمفهوم، خالية من التقريرية والمباشرة والتسطيح والتقعر.
وهذه النماذج التي اخترناها، تشير إلى أن أصحابها يعرفون ويتقنون، وهم بارعون في انتقاء كلماتهم البسيطة التي تقدم بعدا جماليا وحسيا بالغ النباهة، عميق الدلالة، وكثافته تنم عن وعيه المتميز.
وعندما نقرأ المجموعة الشعرية: "قصائد الحاسوب" للشاعر عارف الساعدي، والصادرة حديثا عن مكتبة عدنان2025 .
يلفت نظرنا فيها، بساطة مفردات قصائد هذه المجموعة.. حتى ليجد فيها البعض أن صاحبها لا يملك سوى هذا القاموس اللغوي المتفرد في بساطة اللغة والظهور في عوالم يرصدها الشاعر عن طريق جهاز الحاسوب تحديدا. إن هذا خطأ فادح، أو عجز في فهم البساطة وبلاغتها ونباهة استخدامها. إن عبارة: "أمي كانت تحكي للرز فينضج". أو "القلب النابض بالحب/ امتلأت بطاريته الآن". أو "الحاسوب صديق كهولتنا/ جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين".
كل هذه النماذج، خلت، خلت من أي مفردة عمياء أو غير مدركة.. لكنها لم تكن عابرة ولا مسطحة ولا تقريرية، وإنما هي مفردة منتقاة بدقة.. والانتقاء في الإبداع/ شعرا ونثرا.. دالة على القدرة والنباهة والصفاء في اختيار المفردة وليس اختيارا عشوائيا أو مجرد ملء أو اشغال فراغ أو إيصال معنى عابر.
البساطة.. منطقة مضيئة في الأدب، شرط أن نعرف كيف ننتقيها ونضعها في الموقع المناسب لها، كما الأمر في حكمة حكيم أو نصيحة ناصح، كما ميزان صائغ ماهر، وليس مجرد ثرثرة عابرة.
يقول عارف الساعدي: "أتذكر أياما عبرت/ وأحاول أياما لا تكفي". ولو قال "أياما مضت" أو "الزمن قصير.." لكان قد أسقط القصيدة في العتمة وانطفأت عافية الكلمة وغاب ألق الصورة من الجمال. وفي موقع آخر يقول: "من يقنع هذي الشاشة/ إني اكتب شعرا؟/ وبأني أبكي فوق الأوراق طويلا/ كي يخرج سطر/ ممتلئ بالأطفال". هنا كان الشعر متألقا عندما انسن الشاعر جهاز الحاسوب وجعل من شاشته، كائنا حيا يصغي إلى شعره، يكتبه، ويتأمل الأوراق والسطور التي تحتشد بالطفولة.
إزاء ذلك كله، نتبين أن "قصائد الحاسوب" على كثافتها وايجازها وقصرها، لم تكن عابرة أو عاجزة عن المجيء بلغة أخرى متداولة أو خالية من الحياة.
إننا نعد مفردات هذه القصائد دالة جادة وجديدة على الشعر المصفى والخالي من الزوائد والأطناب الذي لا تحتاج إليه قصيدة نابهة ريد الوصول إلى قارئ واع، وليس إلى قارئ خامل يبحث عن التبسيط العاجز عن فهم معنى البساطة بوصفها قدرة لا يتقنها إلا قلة ممن تفوقت بلاغتهم وطاب عسل كلماتهم، حتى وجدت سبيلها إلى الفهم العميق والدراية الذكية.
لذلك تفردت "قصائد الحاسوب" ليس بوصفها قصائد تقوم جميعا على تأمل جهاز الحاسوب وإنما استلهام القصيدة عن طريقه.. بوصفها قصائد تنم عن انشغال الشاعر بجهاز حي يرافقه في طائرة كان على متنها تنقله من الأردن إلى مطار العقبة، كما يشير الشاعر، ولم يكن ليجد مرافقا جامدا يرقد إلى جانبه، وإنما عمل على إحياء وجوده وحوله إلى كائن يتنفس القصيدة تنفسا كليا، ويعمل خياله المتسع الأفق على خلق قصيدة تتنفس إرادة الحياة وتحيا على أنها وجود حر وعالم متحرك وتوق أثير إلى استلهام البساطة من أبسط الأدوات المحيطة بالشاعر وبنا كذلك.. ليتم تحويلها إلى وجود أسمى وإلى عالم مليء بالفتنة والجمال وألق الحياة.
اضف تعليق