في فضاء هذا التحول العاصف، يظهر جليًا أن اللغة التي تواصل الحياة، وتنتشر في العالم، هي اللغة التي تواكب صيرورة الواقع، وتتناغم مع معطيات الذكاء الاصطناعي، من دون أن تتنازل عن جوهرها الإنساني، وثرائها الدلالي، وطاقتها الرمزية. هكذا تفرض علينا هذه التحولات المتعجلة أن نعيد تأمل اللغة، ونحررها من أسر الأداء التقني...
اللغة مفتاح دراسة أديان المجتمعات وقيمها ورؤيتها للعالم، وهي المرآة التي تتجلى فيها هوياتها وطرائقها في تمثل ذاتها وتمثل الآخر المختلف عنها. تختزن اللغة ثقافات المجتمعات وأساطيرها وأحلامها وصورها المتخيلة عن العالم، ومنها يتشكل وعيها بذاتها وبما يحيط بها. من هنا يتبدد الوهم القائل بحياد اللغة، إذ لا تقتصر وظيفتها على نقل المعاني فحسب، وإنما تنطوي على رؤية الناطقين بها للعالم، وتفصح عن خلفياتهم الثقافية وأحكامهم المسبقة التي تسقطها الكلمات على الواقع.
تعيش اللغات في العالم اليوم ومنها العربية تحديًا غير مسبوق، يتمثل في قدرتها على التكيّف مع ما يفرضه الذكاء الاصطناعي عليها. الذكاء الاصطناعي يتغلغل في كل مجال، ويغزو مختلف الفضاءات، فارضًا إيقاعه السريع على العلم والمعرفة والتقنية، والسياسة والاقتصاد، والتربية والتعليم، والثقافة والإعلام، والفنون والآداب، وفهم الدين وأنماط التدين، والعلاقات الاجتماعية والدولية، وكل حقول حياة الإنسان. لم يعد ممكنًا لأي من هذه الحقول أن يظل بمنأى عن هذا الزحف العاصف، بعدما بات الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل الواقع، وينتج عوالم غير مألوفة للإنسان من قبل، ويبدل ظروف عيشه، وطرائق تفكيره، وأساليب تعبيره، وكيفيات تواصله.
في ضوء الرؤية التي تتعامل مع اللغة بوصفها أفقًا لرؤية العالم، وموطنًا للذات، وتجليًا للتجربة الروحية، والحالة العاطفية والشعورية، ووعي الإنسان بما حوله، لا مجرد أداة للتخاطب، يبتكر الذكاء الاصطناعي نمطًا من التعبير يختزل المعنى في الأداء والوظيفة، ويهمّش الأبعاد الوجودية والعاطفية والشعورية والجمالية والرؤيوية للغة، إذ تنزع لغة هذا الذكاء نحو الرقمنة والتكميم والتنميط، وتخضع دلالات الكلمات لمقتضيات الخوارزميات، فتغيب الإيحاءات التي تنبعث من التأمل، والأحاسيس الباطنية، والتجارب الروحية، ويخفت وهج الرمز والإشارة والعلامة.
يعيد (تشات جي بي تي) وسائر نماذج الذكاء الاصطناعي تشكيل اللغة خارج حدود المعجم المألوف، مستجيبًا لحاجات الاستعمال المتجددة، بما يحدثه من ألفاظ ورموز تعبيرية تنسجم مع السياق، فارضًا أشكالًا جديدة لتوليد المعاني، وصياغة مفردات لا تقيدها دائمًا طرائق الاشتقاق أو القواعد والأدوات المعهودة في اللغة. ويبرز أثره في إنتاج أساليب غير مألوفة للبيان، وطرائق بديلة للتعبير، يعكسها تدفق إجاباته الغزيرة التي تنهال كالشلال، لتغطي مساحات واسعة من الأسئلة الممتدة إلى مختلف ميادين الحياة، فتفتح للغة آفاقًا لم تختبرها من قبل، وتمنحها قدرة على تشكيل صيغ جديدة من الدلالة والتأويل.
تتراكم كل ساعة كميات هائلة من المفردات للغات العالم المختلفة، فتثري قاعدة بيانات الذكاء الاصطناعي (Database). هذه الإضافات لا تقتصر على كلمات النصوص المدونة في معاجم تلك اللغات، بل تضخ في قاعدة البيانات مادة غزيرة من الكلام الشفاهي للندوات والمحاضرات وأحاديث البودكاست، باللهجات المتنوعة في كل لغة. فتمتص اللغة كلمات جديدة، ويولِّد الذكاء الاصطناعي من المفردات الأكثر تداولًا ألفاظًا خارج معاجم اللغات المعروفة، ثم يرسخها بكثرة الاستعمال، ويقلل حضور كلمات أخرى قليلة التداول، ويهمل مفردات نادرة في الاستعمال.
وتظهر بصمة الذكاء الاصطناعي التوليدي بسرعة في اللغة الشفاهية والمدونة، "وبحسب دراسة للأوراق الأكاديمية المنشورة عام 2024 عبر العالم، فإن 13.5 في المئة من ملخصاتها تحمل بصمات معالجة أو صياغة بأدوات ذكاء اصطناعي، لتصل النسبة في بعض التخصصات والمؤسسات إلى 40 في المئة... ويحيلنا القائمون على الدراسة حول التساؤل المستحق عن تأثير هذه البصمة اللغوية للآلة إلى منطق (الدائرة الثقافية المغلقة)؛ حيث النماذج اللغوية للذكاء الاصطناعي تتغذى على اللغة البشرية، ثم تعيد إنتاجها وفق تفضيلاتها، فيتبناها البشر، فتعود هذه اللغة المعدّلة لتغذية النماذج اللاحقة.
ومع كل دورة، تضيق فسحة التنوع الأسلوبي، وتتراجع اللهجات والأنماط الهامشية أمام مركز لغوي واحد، فائق النعومة، شديد الانضباط، كثير الشبه بنفسه. وهذه بالطبع ليست فروضًا قسرية، بل هيمنة ناعمة. فالنماذج مثل (تشات جي بي تي) لا تفرض على المستخدم أن يتبنى أسلوبها للتواصل، لكنها تمنحه - من خلال الإيحاء الاجتماعي والمكافآت النفسية غير الملحوظة - شعورًا بالرضا عن الذات للظهور بشكل أكثر احترافية، وأكثر وضوحًا، وربما أكثر ذكاء حين يتحدث بلغتها. وهكذا، يصبح أسلوب الآلة معيارًا غير معلن، يقاس عليه (جمال) النص و(قيمة) الخطاب، بينما يدفع من يكون مغايرًا بشكل تدريجي إلى الهامش نحو مساحات تصنف ضمنيًا على أنها أقل رصانة، أو أقل مهنية". (حطيط، ندى، "كيف يُعيد «تشات جي بي تي» تشكيل اللغة؟"، جريدة الشرق الأوسط، الصادرة يوم 25 أغسطس 2025).
تغدو فرادة الإبداع الأدبي مهددة بالاحتجاب خلف بصمة الذكاء الاصطناعي التوليدي، إذ يتلاشى تميز لغة الكاتب المبدع وسط ركام المفردات والأساليب المتشابهة، فيفقد الأدب خصوصيته التي تنبع من حساسية الكلمة، وتشرق بجمال العبارة، وتضيء بصور مبتكرة تتفجر من أعماق التجربة الروحية والعاطفية والجمالية. تفاقم عملية التنميط بنحو تتحول فيه الكتابة إلى صوت يكرر لحنه بنغم واحد، وتذوب ملامح التعدد والتفرد في سيل من نصوص متماثلة.
كلما تقدمت الأجيال المتطورة للنماذج الذكية، ترسخت حالة التنميط أشد، حتى تبدو الكتابة كأنها بقلم كاتب واحد، تحاكي نصوصه نصوص غيره، وتنسكب رؤاه في قوالب صماء، ينطفئ فيها بريق التميز، ولا يستمع القارئ إلى إيقاع كلمات الكاتب وهمس لحنه، وتنكمش رحابة الخيال المبدع.
هكذا تضمحل في اللغة قدرتها على الكشف عن فرادة الإنسان، وتغترب عن ذاتها، حين تتحول إلى أداة تعيد خلق أساليب بيانية مكررة، لا يُسمع منها صوت الشعور، ولا تتجلى فيها بصمة القلب، ولا تنبض بإيقاع الحياة الباطنية. فيمسي الأدب هيكلًا بلا روح، ويخفت صوت المعنى العميق الذي لا يضيئه سوى الإنسان في لحظة حضوره الوجودي. احتجاب فرادة الكتابة خلف التنميط الآلي ليس خطرًا على الأدب وحده، بل هو نذير بانطفاء شعلة الإبداع، حيث تتحول اللغة من فضاء للمعنى إلى مرآة باهتة، تنعكس فيها كلمات خالية من وهج القلب وأشواق الروح.
تخوض اللغة العربية كغيرها من اللغات اليوم هذا التحدي، وتكشف مظاهر التحول عن تبدل تدريجي في بنيتها التعبيرية، وتحول في معجمها، واندفاع نحو السرعة والرمزية الرقمية. تحل التعابير الموجزة محل الجمل البلاغية المتعارفة، ويتقدم الرمز التعبيري، أو الوسم الرقمي، أو العبارة الهجينة التي تصوغها تطبيقات التواصل على التعبير المكثف. فمثلًا تذوب مشاعر الحزن العميق في رمز تعبيري لوجه دامع، وتتقلص مشاعر الحب في صورة قلب أحمر، وتضمحل الأشواق في التداول العاطفي الرقمي، فتتقدم عليها كلمات برمجية مكررة تستعير الإشارة للمشاعر، كأنها تحاكي حضورها، من دون أن تعبّر عن إشراق الأشواق، وكنايات الإيحاء بها.
وتنطفئ الصور البلاغية المضيئة، وتفقد الاستعارات الأدبية توهجها، حين يستعاض مثلًا عن بيت شعر المتنبي: "إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ، فلا تقنع بما دونَ النجومِ"، في رمز لصاروخ أو سهم متجه للأعلى. وبيت الجواهري: "أتعلَمُ أم أنتَ لا تعلَمُ، بأن جِراحَ الضحايا فمُ" بكلمة خاطفة مثل "صامد"، وتبهت الصورة الناطقة بالحرية وكرامة المقهورين، ويتقلص أثر الكلمة التي توقظ وعيًا، ويستفيق بها الضمير، وتلتهب بها مشاعر الشعب وشهامته.
في مثل هذا الانكماش، تتوارى اللغة عن وظيفتها، وتتخلى عن أثرها الشعوري، وتتحول إلى رموز وصور باردة لا تمس القلب، ولا تستفز العقل، فتفقد العبارة ما يحمله الشعر من شعور جارف، وما تشعه الصورة من أفق للعزة والشموخ.
تختفي المفردات التي كانت تضيء الوجدان، وتضيق مساحة المجاز والتأمل، حين تذوب المعاني الكثيفة في رموز مفرغة من دلالتها، إثر استنزاف معناها بتكرار استعمال الكل لها، وتتبخر حرارة الكلمة التي ظلت قرونًا تصوغ وعيًا، وتوقد شعلةً في القلب. وتغيب صور تحفيز الخيال، وتختصر في أيقونة جامدة لا تتسرب إلى وجدان القارئ، ولا توقظ تأملًا أو انفعالًا.
كذلك تنطفئ لغة التدفق العاطفي المؤثرة، وموسيقى كلمات العشاق، بعد أن تزيحها عبارات نمطية منطفئة، مثل: "وحشتني" أو "وينك"، بلا دفء الحنين أو صورة ترسم الاشتياق بكلمات ساحرة. حتى مفردات المدح والهجاء في التراث الأدبي، الزاخرة بالتوريات والمجازات والكنايات، تُختزل في كلمة واحدة، مثل: "يجنن"، أو "مزيف"، حين تطلق من دون سياق، وتستهلك بلا تذوق.
كما يغيب وهج التعبير القرآني الذي يتدفق بلغة القلب وأشواق الروح، فتختفي عبارات، مثل: "ربِّ لا تذرني فردًا وأنت خير الوارثين"، ويحل محله قول مستعجل مثل: "يا رب عوضني"، أو تتوارى كلمات الرجاء، مثل: "وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ"، ليأخذ مكانها نداء مقتضب مثل: "يا الله كفاية". كذلك تستنفد الكلمة طاقتها الدلالية، ويخفت صوت المناجاة، عندما تغيب لغة التضرع عن فضائها الروحي، ويفقد البوح صدقه وقدرته على ملامسة أعماق القلب، ويتوارى صوت النبي أيوب الذي انبعث من أعماق الألم، وصدى أنين النبي يونس وهو ينادي في الظلمات: "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"، ويتقدم بدلًا من هذه الاستغاثات نداء مستعجل، مثل: "يا الله فرّجها" أو "طفح الكيل"، يُكتب على عجل، ويرمى بمستودع رقمي مكتظ، من غير خشوع، ومن دون أثر لتجربة الانكسار، ولا صدى لنداء يخرج من أعماق الروح.
وتضمحل في الوقت نفسه شحنة أدعية تنسكب من القلب، مثل: "إلهي، ما عبدتك خوفًا من نارك، ولا طمعًا في جنتك، لكن وجدتك أهلًا للعبادة فعبدتك"، ويحل محلها نداء متعجل، مثل: "يا رب سهلها"، نداء لا يتجاوز الشفتين، ولا يمس الشعور، ولا يعكس تجربة وجودية مشبعة بالوجد، بل يعكس حالة استعجال، تغيب فيها الأبعاد الجمالية والعاطفية والروحية، التي تتوهج بمناجاة العارفين. وتتقلص مساحة الدعاء، ويضيق أفق التضرع، وتخفت حرارة البوح، عندما تنكمش الكلمة في عبارة قصيرة تخلو من خشوع القلب، وبوح المشاعر، وتدفق التجربة الروحية.
فرق بين كلمات يستقي بها القلب وترتوي بها الروح، وكلمات يتأمل دلالتها الذهن. ينحسر النوع الأول من الكلمات في عصر الذكاء الاصطناعي، إذ يتبدل نمط الدعاء، وتخسر لغة القلب طاقتها الروحية والعاطفية، عندما تقيدها وهي تخاطب الله القوالب الجاهزة، وتحبسها الأنساق الجامدة، فيتلاشى أثر التجربة الوجودية التي تضيء الحياة بكلمات مشبعة بوهج الروح وابتهالاتها. وتغيب صور التضرع والتبتل التي كانت تنبع من أدعية الأمهات والآباء، وتتراجع أمام نسق جاف يستمد لغته من محرك بحث آلي أو تطبيق أدعية على الإنترنت، من غير حرارة داخلية، ولا نبض شعوري.
في فضاء هذا التحول العاصف، يظهر جليًا أن اللغة التي تواصل الحياة، وتنتشر في العالم، هي اللغة التي تواكب صيرورة الواقع، وتتناغم مع معطيات الذكاء الاصطناعي، من دون أن تتنازل عن جوهرها الإنساني، وثرائها الدلالي، وطاقتها الرمزية. هكذا تفرض علينا هذه التحولات المتعجلة أن نعيد تأمل اللغة، ونحررها من أسر الأداء التقني، ونصون تنوعها، ونحمي عمقها الوجودي، حتى تواصل أداء وظيفتها، بوصفها كيانًا حيًا تتجلى فيه الرؤية للعالم، وطرائق التفكير، وأشواق الروح، وتعلن فيها الذات عن حضورها.
اضف تعليق