إذا انتهت الحال بشركات الذكاء الاصطناعي إلى سباق نحو القاع، فأي أمل قد يبقى في حماية حقوق الإنسان الأساسية؟ إذا كان الفوز في سباق الذكاء الاصطناعي يعني التخلي عن القيم التي تميزنا عن المنافسين الاستبداديين مثل الصين، فسوف يكون انتصارا باهظ الثمن. ولن يكون مستقبلنا آمنا لمجرد أن التكنولوجيا أميركية...
واشنطن، العاصمة ــ في شهر يوليو/تموز، عقدت إدارة ترمب فعالية بعنوان "الفوز بسباق الذكاء الاصطناعي"، حيث كشفت النقاب عن خطة عمل الذكاء الاصطناعي. ومثلها كمثل صفقات مراكز البيانات وقيمتها مليارات الدولارات التي أُعلن عنها أثناء رحلة الرئيس دونالد ترمب إلى الخليج العربي في مايو/أيار الماضي، فإن المقصود من هذه الخطة تعزيز الريادة الأميركية في مجال الذكاء الاصطناعي. ولكن بما أن لا هذه الخطة ولا الإعلانات السابقة ذَكَرَت حقوق الإنسان، فمن المعقول أن نتساءل: ماذا قد يعني "فوز" الولايات المتحدة بسباق الذكاء الاصطناعي.
يفترض كثيرون في واشنطن ووادي السيليكون ببساطة أن التكنولوجيا الأميركية تتماشى بطبيعتها ــ بحكم التعريف تقريبا ــ مع القيم الديمقراطية. كما قال رئيس شركة OpenAI التنفيذي سام ألتمان أمام الكونغرس في مايو/أيار الماضي: "نريد أن نكون على يقين من فوز الذكاء الاصطناعي الديمقراطي على الذكاء الاصطناعي الاستبدادي". ربما يكون هذا شعورا طيبا، لكن الأنظمة التكنولوجية الجديدة لا تحمي حقوق الإنسان بشكل تلقائي. يتعين على صُـنّـاع السياسات والشركات اتخاذ خطوات استباقية لضمان وفاء جهود نشر الذكاء الاصطناعي بمعايير وشروط بعينها ــ كما يحدث بالفعل في صناعات أخرى عديدة.
لفتت تقارير حديثة صادرة عن فريق عمل الأمم المتحدة المعني بالأعمال التجارية وحقوق الإنسان، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وتحالف الحرية على الإنترنت الانتباه إلى حقيقة مفادها أن الحكومات والشركات على حد سواء تتحمل المسؤولية عن تقييم كيفية تأثير أنظمة الذكاء الاصطناعي على حقوق الناس. تُـلزِم الأطر الدولية القائمة جميع الشركات باحترام حقوق الإنسان وتجنب التسبب، أو المساهمة، في انتهاكات حقوق الإنسان من خلال أنشطتها. لكن شركات الذكاء الاصطناعي، في الأغلب الأعم، تقاعست عن الاعتراف بتلك المسؤوليات والتأكيد عليها.
هذه الدعوات إلى التحرك تؤكد من جديد على التزامات تتحملها بالفعل صناعات أخرى. الواقع أن معظم الشركات الكبرى تعلم أنها ملزمة بإجراء تقييمات الأثر على حقوق الإنسان قبل شراء أو نشر أنظمة جديدة؛ ودمج العناية الواجبة بحقوق الإنسان في تصميم المنتجات والقرارات التجارية؛ وإدراج ضمانات تعاقدية لمنع إساءة الاستخدام؛ وتوفير سبل انتصاف مجدية عند وقوع الضرر.
التحدي في التعامل مع الذكاء الاصطناعي لا يكمن في عدم وضوح المعايير. بل في حقيقة مفادها أن كثيرا من الشركات ــ والحكومات ــ تتصرف كما لو أن المعايير لا تنطبق عليها. لنتأمل هنا صفقات الذكاء الاصطناعي التي عقدها ترمب في الخليج. إذا أُبرِمَت هذه الاستثمارات بشكل نهائي فقد تعمل على ترسيخ طموح المنطقة للتحول إلى مركز عالمي للذكاء الاصطناعي، وهذا يثير تساؤلات مقلقة حول ما إذا كان قادة الولايات المتحدة وقادة التكنولوجيا هناك ينبذون الآن التزامات طالما تمسكوا بها.
في الإمارات العربية المتحدة، وافقت الولايات المتحدة على نقل رقائق إلكترونية متقدمة إلى شركة G42، وهي شركة ذكاء اصطناعي إماراتية، كجزء من خطة أوسع لبناء حرم جامعي ضخم للذكاء الاصطناعي في أبو ظبي. وفي المملكة العربية السعودية، كشفت شركة جديدة مدعومة من الدولة للتو عن اتفاقيات بمليارات الدولارات مع شركات أميركية كبرى للحصول على الرقائق الإلكترونية وتشييد بنية أساسية. كما حصلت شركة إيلون ماسك، Starlink، على تصريح بالعمل في المملكة. لم تذكر أي من هذه الإعلانات أي تدابير حماية لضمان عدم استخدام التكنولوجيا للمراقبة أو القمع.
هذا الخطر ليس افتراضيا. فمن المعروف أن الإمارات العربية المتحدة استخدمت برامج تجسس ضد صحفيين ومعارضين، كما انخرطت المملكة العربية السعودية في مختلف أشكال القمع العابر للحدود، بالإضافة إلى تورطها العميق في الأزمة الإنسانية في اليمن. الواقع أن قدرات الذكاء الاصطناعي الجديدة تزيد بشكل كبير من قدرة الحكومات على سحق الحقوق الأساسية، على سبيل المثال من خلال تجميع معلومات مفصلة عن المعارضين، والمراقبة اللحظية، وتحليل منشورات الناس واتصالاتهم على وسائط التواصل الاجتماعي، والتحكم في مخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي.
على النقيض من السلع التقليدية أو البنية الأساسية التقليدية، من الممكن نقل أنظمة الذكاء الاصطناعي رقميا ونشرها بأقل قدر من التدقيق العام. وبموجب خطة الذكاء الاصطناعي السيادية، حيث تعمل الحكومة على تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي المتاحة لشعبها والتحكم فيها، من الممكن أن تتحول هذه الأنظمة بسرعة إلى أدوات لترسيخ سلطة الدولة. وبينما تعمل الشركات الأميركية على تكثيف عمليات إبرام الصفقات الدولية ــ بدعم قوي من إدارة ترمب ــ فإن التقاعس عن إدراج التزامات حقوق الإنسان في هذه الجهود يمثل منعطفا خطيرا.
إنها أيضا فرصة ضائعة. فمن الممكن استخدام الوصول إلى التكنولوجيات الأميركية الرائدة عالميا كوسيلة ضغط، سواء لتعزيز تطبيقات تحترم حقوق الإنسان أو لحماية التكنولوجيا من إساءة الاستخدام. نحن لسنا في احتياج إلى البدء من الصفر. ذلك أن مبادئ الأمم المتحدة التوجيهية بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان ــ التي أقرتها الولايات المتحدة وعدد كبير من حلفائها ــ تُـلزِم الشركات بتجنب انتهاك حقوق الإنسان ومعالجة أي أضرار قد تتسبب في إحداثها.
وتذهب المبادئ التوجيهية للشركات المتعددة الجنسيات في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أبعد من ذلك، فتُـلزِم الشركات ببذل العناية الواجبة في مختلف العمليات وسلاسل التوريد. كما أرست مبادرة الشبكة العالمية (GNI)، التي أطلقتها شركات التكنولوجيا الرائدة قبل 17 عاما، مبادئ لحماية خصوصية المستخدمين وحرية التعبير في الأسواق العالية المخاطر، حيث يجري تقييم امتثال الشركات الأعضاء بانتظام (كانت منظمتنا شريكا مؤسسا).
تطبق شركات مثل كوكا كولا، وفولكس فاجن، وEstée Lauder بالفعل هذه الأطر أو تخضع لرقابة مستقلة، كما تفعل بعض شركات التكنولوجيا. بيد أن صناعة التكنولوجيا، في الأغلب الأعم، فشلت في إقرار هذه المسؤوليات صراحة فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي، حتى برغم أن الاحتياج إلى هذا أكبر في هذا المجال. كخطوة أولى، من الممكن أن تستفيد شركات الذكاء الاصطناعي الرائدة التي لم تنضم بعد إلى مبادرة الشبكة العالمية من إطار عملها وشبكتها.
مؤخرا، سُرِّبت مذكرة من الرئيس التنفيذي لشركة Anthropic، داريو أمودي، تظهر ما أصبح الآن على المحك. ففي معرض إعلانه عن نية الشركة قبول استثمارات الدول الخليجية بعد أن كانت أشارت في السابق إلى أنها لن تفعل، قال أمودي: من المتسق تماما أن ندعو إلى سياسة لا تسمح لأحد بأن يفعل "كذا أو كذا"، ولكن إذا فشلت هذه السياسة وفعل الجميع "كذا أو كذا"، فسوف نضطر كارهين إلى أن نفعل "كذا أو كذا" بأنفسنا.
إذا انتهت الحال بشركات الذكاء الاصطناعي إلى سباق نحو القاع، فأي أمل قد يبقى في حماية حقوق الإنسان الأساسية؟ إذا كان الفوز في سباق الذكاء الاصطناعي يعني التخلي عن القيم التي تميزنا عن المنافسين الاستبداديين مثل الصين، فسوف يكون انتصارا باهظ الثمن. ولن يكون مستقبلنا آمنا لمجرد أن التكنولوجيا أميركية.
لم يفت بعد أوان التزام الحكومات والشركات بتطبيق معايير حقوق الإنسان الراسخة منذ أمد بعيد على الذكاء الاصطناعي. فالأدوات متاحة بالفعل؛ ولا يوجد عذر للتقاعس عن استخدامها.
اضف تعليق