الواقع اليوم يُـلـزِمُـنا بتبني إصلاحات أوسع وأعمق كثيرا لحل الأزمة الآنية التي تؤثر على البلدان المنخفضة الدخل، وعدد كبير من البلدان المتوسطة الدخل أيضا، ومنع اندلاع الأزمات في المستقبل، وتعزيز النمو، وخلق فرص العمل، وضمان الازدهار. وبينما نتطلع إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول، ينبغي لنا أن نركز...

نيويورك ــ في أعقاب المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية الذي عقد في يونيو/حزيران، وصلنا إلى لحظة فارقة. فالحكومات والمؤسسات المالية الدولية ومنظمات المجتمع المدني، التي تدرك الحاجة إلى التصدي لأزمتي الديون والتنمية في الوقت الراهن، مستعدة للعمل قبل انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول.

أثبتت التقارير الأخيرة التي شارك كل منا في تأليفها ــ الديون السليمة على كوكب سليم، وتقرير اليوبيل، وتقرير فريق الخبراء التابع للأمين العام للأمم المتحدة بشأن الديون ــ إلى جانب أعمال عدد كبير من الخبراء الآخرين، بشكل قاطع خطورة وإلحاح هاتين الأزمتين المتشابكتين وعواقبهما المدمرة. في عام 2024، دفعت البلدان النامية لدائنين خارجيين زيادة قدرها 25 مليار دولار أميركي عن كل ما تلقته من مدفوعات جديدة. هذا يعني أن 3.4 مليار شخص ــ أو أكثر من 40% من سكان العالم ــ يعيشون في بلدان تنفق على مدفوعات الفوائد أكثر مما تنفق على الصحة أو التعليم. ومع انخفاض تدفقات المساعدات، وتسارع وتيرة تغير المناخ وخسارة الطبيعة، وتباطؤ النمو العالمي، سوف تشتد العُـرضة لمخاطر الديون في البلدان النامية، وكذا المخاطر التي تهدد رفاهة الناس، والكوكب، والاستقرار العالمي.

يعترف كثيرون بخطورة المشكلة وإلحاحها، بل ويتفقون أيضا على الكيفية التي وصلنا بها إلى هنا. فالنظام المالي العالمي غير مصمم لتلبية احتياجات الناس والكوكب. ونظرا لأوجه التفاوت التاريخية وتدني القدرة على المساومة، تواجه البلدان النامية على نحو مستمر تكاليف اقتراض مرتفعة فضلا عن التفاوت التنظيمي الاحترازي. في غياب تدابير تضمن الشفافية والمساءلة والتخطيط الاستراتيجي للاستثمار، فشلت سياسات الاقتراض والإقراض في حشد الاستثمارات الإنتاجية التي تدفع عجلة النمو المستدام. علاوة على ذلك، تتسم تدفقات رأس المال بالتقلب الشديد، حيث تتدفق الأموال إلى البلدان النامية أثناء فترات الازدهار وتتدفق إلى خارجها في أعقاب الصدمات. من ناحية أخرى، دأبت القوانين والسياسات التي تحكم عمليات إعادة هيكلة الديون على تشجيع الإرجاء وليس الحل.

في السنوات الأخيرة، ازداد الوضع سوءا. في الاستجابة لجائحة كوفيد-19، أنفقت البلدان القادرة مبالغ ضخمة لدعم مواطنيها، لكن الافتقار إلى شبكة أمان عالمية كان يعني أن البلدان النامية تعجز عن القيام بأي شيء من هذا القبيل. وفي حين ساعدت المخصصات الجديدة من حقوق السحب الخاصة التي يصدرها صندوق النقد الدولي إلى حد ما، فإنها لم تكن كافية.

علاوة على ذلك، كانت الجهود الأخيرة لمعالجة ضائقة الديون، مثل إطار عمل مجموعة العشرين المشترك، غير كافية بدرجة شديدة. وتستمر عمليات إعادة الهيكلة في التحرك ببطء وتظل مبهمة، حيث تتحدد النتائج إلى حد كبير من خلال الفوارق في القدرة التفاوضية بين البلدان ودائنيها. تتطلب إعادة الهيكلة الآن التنسيق بين مجموعة أوسع من القوى الفاعلة ــ بما في ذلك نادي باريس للدائنين السياديين، والمقرضين الثنائيين الأحدث عهدا مثل الصين، فضلا عن عدد متزايد من الدائنين من القطاع الخاص. وهذا يجعل عمليات إعادة الهيكلة أشد تعقيدا. وحتى عندما تأتي الإغاثة، فإنها تصل غالبا متأخرة للغاية ولا تحقق سوى أقل القليل.

نظرا للتعقيد الذي تتسم به الأزمة، فلا يوجد حل سحري. ولكننا لسنا في حيرة من أمرنا فيما يتعلق بالحلول الفعالة والعملية. لمعالجة الأسباب الجذرية وراء الأزمة، ينبغي لنا أن نعمل على تسريع الجهود الرامية إلى إصلاح الطريقة التي يُـجري بها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تحليلات القدرة على تحمل الديون. فالنهج الحالي ليس شاملا، ولا يضع في الحسبان بشكل كامل المخاطر المرتبطة بالمناخ والطبيعة، ولا ينظر في كيفية استخدام الأموال. قد تبدو معالجة هذه القضايا وغيرها من القضايا مسألة تقنية، لكن تأثيرها سيكون كبيرا. لفترة طويلة للغاية أعاقت الأطر المعيبة هذا النوع من الاقتراض المثمر اللازم لتحسين رأس المال البشري، وزيادة الاستثمار في البنية الأساسية، وتعزيز القدرة على التكيف مع المناخ.

من ناحية أخرى، نجد أن الحجة قوية لصالح إنشاء هياكل ومؤسسات جديدة، بدءا من تأسيس ناد للمقترضين. وبما أن المقرضين ينسقون فيما بينهم منذ عقود من الزمن، فلا أمل للمقترضين في المنافسة إلا إذا فعلوا الشيء ذاته. من شأن هذا التنسيق أن يعزز قوتهم التفاوضية الجماعية ويضمن مراعاة مصالحهم. ومن الممكن أيضا أن يعمل على توفير منصة لكل شيء بدءا من التعلم المتبادل بين بلدان الجنوب إلى المساعدة الفنية وتحسين إدارة الديون.

كانت المحاولات السابقة للتنسيق بين المقترضين تتسم بالافتقار إلى العزم. لكننا إزاء زخم جديد. الآن، يجب أن نمضي قدما من خلال وضع أهداف استراتيجية مشتركة، وهيكل حوكمة، فضلا عن توفير التمويل الكافي.

لتحسين عملية إعادة الهيكلة، نحتاج أيضا إلى تغيير الحوافز لكل من الدائنين والمدينيين. يتمثل أحد الخيارات في دمج الإطار المشترك في تجميد خدمة الديون التلقائي لصالح البلدان التي تواجه أعباء ديون لا يمكنها تحملها. وبوسع صندوق النقد الدولي أن يستخدم أيضا سياسته في الإقراض في إدارة المتأخرات لضمان تمكين التمويل المتعدد الأطراف من خدمة الغرض منه، بدلا من استخدامه لسداد سندات متعثرة تحتاج إلى إعادة هيكلة. فليس من المنطقي اقتصاديا ــ وليس من العدل ــ أن تتدفق الأموال الشحيحة بعد إعصار مدمر إلى دائنين بعيدين بدلا من التدفق إلى أولئك الذين هم في حاجة ماسة إلى الغذاء والمأوى.

يجب أن يكون إصلاح التشريعات التي تحكم عمليات إعادة الهيكلة لردع الدائنين الممتنعين عن المشاركة على رأس الأجندة المشتركة. ويشمل هذا تغيير سعر الفائدة "التعويضية" الصادر قبل الحكم في ولاية نيويورك للديون المتأخرة، والذي جرى تثبيته عند 9% منذ عام 1981 (عندما كان التضخم 8.9%)، وإدخال حدود قصوى للاسترداد. ليس لغزا لماذا لا يهرع الدائنون حاليا إلى طاولة المفاوضات.

بين هذه الحلول الرئيسية ــ إصلاح تحليلات القدرة على تحمل الديون، وإنشاء ناد للمقترضين، وتحسين وقت وعمق إعادة الهيكلة ــ ما يهم بقدر أهمية الفكرة ذاتها هو قوة الالتزام بها. في عام 2000، ساعدت الجهود التي بذلها تحالف عالمي قوي في تقديم إغاثة كبيرة للبلدان المنخفضة الدخل. بيد أن الواقع اليوم يُـلـزِمُـنا بتبني إصلاحات أوسع وأعمق كثيرا لحل الأزمة الآنية التي تؤثر على البلدان المنخفضة الدخل، وعدد كبير من البلدان المتوسطة الدخل أيضا، ومنع اندلاع الأزمات في المستقبل، وتعزيز النمو، وخلق فرص العمل، وضمان الازدهار. وبينما نتطلع إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول، ينبغي لنا أن نركز على دفع عجلة التقدم في تطبيق هذه الحلول العملية.

..............................................

* بقلم: مارتن غوزمان، وزير اقتصاد أرجنتيني سابق، وأستاذ في كلية الشؤون الدولية والعامة بجامعة كولومبيا.

محمود محيي الدين، المبعوث الخاص للأمم المتحدة المعني بتمويل خطة التنمية المستدامة لعام 2030 والرئيس المشارك لفريق الخبراء المعني بالديون.

فيرا سونغوي، زميلة أولى غير مقيمة في برنامج الاقتصاد العالمي والتنمية في مؤسسة بروكينغز.

https://www.project-syndicate.org/

اضف تعليق