تشهد الساحة السياسية العراقية ظاهرة لافتة تتمثل في الكثرة المفرطة للأحزاب السياسية، مع تشابه كبير في أسمائها وشعاراتها. للوهلة الأولى قد يبدو هذا الأمر علامة على حيوية ديمقراطية وتعدد في الخيارات، غير أن القراءة المتأنية من منظور علم الاجتماع السياسي تكشف عن أبعاد مغايرة تجعل من هذه الظاهرة أحد مظاهر الأزمة البنيوية في الاجتماع السياسي العراقي...

تشهد الساحة السياسية العراقية ظاهرة لافتة تتمثل في الكثرة المفرطة للأحزاب السياسية، مع تشابه كبير في أسمائها وشعاراتها. للوهلة الأولى قد يبدو هذا الأمر علامة على حيوية ديمقراطية وتعدد في الخيارات، غير أن القراءة المتأنية من منظور علم الاجتماع السياسي تكشف عن أبعاد مغايرة تجعل من هذه الظاهرة أحد مظاهر الأزمة البنيوية في الاجتماع السياسي العراقي.

أولاً: انعكاس لضعف الاندماج الاجتماعي

في المجتمعات المستقرة، تتشكل الأحزاب عادةً لتمثيل مصالح اجتماعية واقتصادية محددة، كالأحزاب العمالية أو الليبرالية أو البيئية. أما في العراق، فإن تعدد الأحزاب غالبًا ما يعكس الهويات الفرعية: طائفية، مذهبية، عشائرية أو جهوية، او حتى شخصية أكثر مما يعبر عن مشروع وطني جامع. وهو ما يعني أن السياسة أصبحت امتدادًا للانقسامات الاجتماعية لا وسيلة لتجاوزها.

ثانياً: تشابه الأسماء والشعارات

كثرة الأحزاب العراقية تترافق مع تشابه لافت في العناوين: “الوطنية”، “الإصلاح”، “العدالة”، “الديمقراطية”، وغيرها. هذا التشابه لا يدل على تقارب في الرؤى بقدر ما يعكس فقراً في الخيال السياسي وعجزاً عن إنتاج مشاريع وبرامج متميزة. وهكذا يجد المواطن نفسه أمام طيف واسع من الأحزاب التي تبدو نسخاً متكررة بلا فروق جوهرية.

ثالثاً: غياب التمايز البرامجي

من سمات التعددية الحزبية الصحية وجود تمايز برامجي واضح: هذا حزب ينادي بالعدالة الاجتماعية، وذاك يركز على حرية السوق، وثالث يتبنى أجندة بيئية أو حقوقية. غير أن الأحزاب العراقية – في معظمها – تفتقر إلى مثل هذا التمايز. فهي أدوات للحصول على النفوذ والموارد أكثر مما هي مؤسسات للتعبير عن مصالح اجتماعية واقتصادية محددة.

رابعاً: انعكاسات على النظام السياسي

هذه الظاهرة ليست تفصيلاً تنظيمياً بل تؤثر مباشرة في أداء النظام السياسي:

تصعّب على الناخب مهمة الاختيار الواعي.

تشتت البرلمان وتضعف إمكانيات تشكيل حكومات مستقرة.

تدفع نحو اعتماد المحاصصة والتسويات الهشة بدلاً من التنافس الديمقراطي القائم على البرامج.

تعمق أزمة الثقة بين المواطن والنخب السياسية.

خامساً: مقارنة تاريخية

التجارب التاريخية في أثينا القديمة، أو جمهوريات المدن الإيطالية، أو الموجة الأولى للديمقراطية الأوروبية، أظهرت أن كثرة الأحزاب هناك كانت تعبيراً عن تحولات اجتماعية وفكرية كبرى. أما في العراق، فالكثرة ليست تعبيراً عن “تعددية” بل عن تشظي سياسي ناجم عن انقسام اجتماعي وضعف هوية وطنية جامعة.

الخلاصة

إن كثرة الأحزاب وتشابهها في العراق لا يشكلان علامة صحة ديمقراطية، بل هما مظهر من مظاهر الأزمة البنيوية في الاجتماع السياسي العراقي. فبدلاً من أن تكون الأحزاب جسوراً للاندماج الوطني والتنافس البرامجي، تحولت إلى أدوات للتفكك والمحاصصة، الأمر الذي يجعل من الإصلاح السياسي شرطاً لازماً لتجاوز حالة الانسداد المزمن في الحياة السياسية العراقية.

اضف تعليق