في عراق ما بعد 2003، عادت الوراثة السياسية بوجهٍ فجّ، وإن اختلفت شعاراتها. ما بين أحزاب إسلامية تزعم أنها تدافع عن القيم، وأحزاب علمانية ترفع راية الحداثة، تتكرر الصورة ذاتها: أبناء وأصهار وإخوة وزوجات يعتلون المناصب، أو يسيطرون على مفاصل القرار، لمجرّد أنهم ينتمون إلى “العائلة الحاكمة” داخل الحزب أو الكيان السياسي...
الوراثة السياسية ليست مجرّد خلل في التداول السلمي للسلطة، بل هي جريمة كبرى بحق المجتمع، واعتداء سافر على جوهر الفكرة السياسية الحديثة التي تقوم على الإرادة الشعبية، والكفاءة، والمساءلة. في العراق، كما في معظم العالم العربي، تحولت الوراثة السياسية إلى مرض عضال ينهش جسد الدولة، ويتغذى على دماء الشعب وثرواته.
من معاوية إلى أحفاد السياسة
أول من دشّن هذا النهج المسموم في التاريخ الإسلامي هو الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان، الذي حوّل الخلافة من نظامٍ يقوم على الشورى والاختيار – مهما كانت شوائب تطبيقه – إلى مُلكٍ عضوض قائم على التوريث العائلي. بهذا الفعل، فتح بابًا واسعًا أمام الاستبداد، وجعل السلطة ميراثًا شخصيًا يُورَّث كما تُورَّث العقارات والمزارع، لا أمانةً تُحمَّل على الكتف لأداء الحق وخدمة الناس.
منذ تلك اللحظة، سارت أجيال من الحكّام في ركاب الوراثة، حتى صارت قاعدةً غير مكتوبة: من يحكم اليوم يورّث غدًا، ولو على أنقاض وطنٍ كامل.
الوراثة السياسية في العراق المعاصر
في عراق ما بعد 2003، عادت الوراثة السياسية بوجهٍ فجّ، وإن اختلفت شعاراتها. ما بين أحزاب إسلامية تزعم أنها تدافع عن القيم، وأحزاب علمانية ترفع راية الحداثة، تتكرر الصورة ذاتها: أبناء وأصهار وإخوة وزوجات يعتلون المناصب، أو يسيطرون على مفاصل القرار، لمجرّد أنهم ينتمون إلى “العائلة الحاكمة” داخل الحزب أو الكيان السياسي.
بهذا، تحوّلت بعض الأحزاب إلى إقطاعيات سياسية، تحكمها روابط الدم بدل الكفاءة، وتُدار بقرارات العائلة بدل البرامج الوطنية.
لماذا الوراثة السياسية خطر حضاري؟
1. تدمير مبدأ المساواة: الوراثة تجعل السلطة امتيازًا وراثيًا بدل أن تكون حقًا عامًا لكل مواطن.
2. إلغاء المنافسة السياسية: حين تحكم العائلة، تُقصى الكفاءات وتُهمَّش الأصوات الجديدة.
3. إعادة إنتاج الفساد: الوراثة تخلق شبكات مغلقة تحمي المصالح العائلية على حساب المصلحة العامة.
4. قتل الأمل بالتغيير: حين يدرك المواطن أن الحاكم سيورّث السلطة لابنه، يزول الإيمان بالتداول السلمي.
الخروج من الحلقة الجهنمية
القضاء على الوراثة السياسية يتطلب:
دستور واضح يمنع التوريث السياسي والحزبي.
قوانين أحزاب ديمقراطية تفرض الانتخاب الداخلي الحرّ والشفاف.
وعي شعبي يرفض التصويت لأي مرشح يركب حصان العائلة بدل حصان الكفاءة.
الوراثة السياسية ليست قدرًا محتومًا، لكنها ستبقى جاثمة ما لم تُكسر بالوعي، والقانون، والموقف الشعبي الحاسم. فلا معاوية جديد، ولا ملكًا عضوضًا آخر، ولو غلّف نفسه براية الدين أو قناع الحداثة.
اضف تعليق