المؤسسات الرسمية العراقية، برغم الضغوط الشعبية والإعلامية، تبدو أكثر حذرًا وعقلانية. فهي تدرك أن انهيار سوريا او استمرار فوضاها سينعكس سلبًا على العراق، أمنيًا واقتصاديًا، وسيفتح الأبواب أمام مشاريع تقسيم المنطقة على أسس طائفية وعرقية، بما يخدم الرؤية الإسرائيلية لمستقبل الشرق الأوسط...

تاريخيًا، لم تعرف العلاقات العراقية السورية فترات استقرار طويلة، فقد اتسمت معظم مراحلها بالتوتر وسوء الفهم والصراع الأيديولوجي، خصوصًا خلال الحقبة البعثية التي سيطر فيها حزب البعث –بنسختيه العراقية والسورية– على السلطة في كلا البلدين. والمفارقة أن هذا التوتر كان سائدًا رغم التماثل العقائدي، والتشابه الاجتماعي، والانتماء إلى منظومة إقليمية واحدة. السبب الجوهري يعود إلى إدراك النخب الحاكمة –والأنظمة التي أنتجتها– لخطورة التأثير المتبادل على شرعية الحكم واستقرار الكيان السياسي في البلدين. 

فما يحدث في دمشق كان يُرى تهديدًا لبغداد، والعكس بالعكس، مهما بدت الشعارات واحدة والمواقف متقاربة ظاهريًا. بين تاريخين فارقين: 9 نيسان 2003، يوم الانهيار السياسي للنظام العراقي السابق، و8 كانون الأول 2024، يوم التحول الجذري في سوريا، تقاطعات عديدة تستحق التأمل. في العراق، أدى التدخل الخارجي إلى إسقاط نظام صدام حسين، لكن النتائج فاقت حدود إسقاط النظام، إذ تفككت بنية الدولة: من الهوية الوطنية، إلى وحدة القرار، إلى المؤسسة العسكرية والأمنية، ناهيك عن هشاشة الاقتصاد والانقسام الاجتماعي العميق. سوريا، التي تشبه العراق من حيث التعددية الطائفية والإثنية، تخوض اليوم صراعًا مشابهًا في إعادة بناء دولتها بعد انهيار النظام العلوي الذي حكمها لعقود.

أثار سقوط نظام بشار الأسد ردود أفعال متباينة في العراق. فقد قابلت النخب السياسية الشيعية التغيير بقلق عميق، في حين أبدت الأوساط السنية ارتياحًا، متأثرة بخلفيات مذهبية وطائفية متجذرة. هذه الانفعالات لم تكن عقلانية بل تعبير عن ذاكرة متخمة بالصراع المذهبي وبتراكمات سياسية وإعلامية غذّتها منابر التواصل الاجتماعي وخطابات بعض المتحدثين المتطفلين على الشأن العام، الذين زادوا من تأجيج المخاوف والهواجس المتبادلة.

من وجهة نظر قطاع عريض من الشيعة العراقيين، فإن سيطرة “هيئة تحرير الشام” بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) على السلطة في سوريا الجديدة، تُعدّ تطورًا مقلقًا. فالجولاني الذي بدأ في تنظيم “القاعدة” ثم “جبهة النصرة”، متهم بفكر تكفيري إرهابي رغم محاولاته الانفتاح السياسي. الانفتاح الإقليمي والدولي على سلطته الجديدة لم يفلح في تبديد هذه المخاوف العراقية. 

فالذاكرة المثقلة بالعنف الطائفي، لا تنسى تاريخًا من المجازر وسلوكيات الانتقام، خاصة مع خطابات “النظام الجديد” في سوريا التي تتحدث بوضوح عن نهاية “الحكم العلوي الأقلوي” وعودة “دولة بني أمية”، ما يعمق المخاوف الطائفية ويستحضر سرديات الصراع القديمة.

الهجمات على الطائفة العلوية في الساحل، والممارسات العنيفة في السويداء، والخطاب المعادي لحزب الله وإيران والفصائل الشيعية، التي قاتلت إلى جانب النظام السابق، كل ذلك يجعل من إمكانية إقامة علاقات ودية بين العراق وسوريا الجديدة أمرًا بالغ الصعوبة في الظرف الراهن، رغم محاولات الانفتاح المحدودة، مثل اللقاء الذي جمع الجولاني برئيس الوزراء العراقي في الدوحة.

في الحسابات الواقعية، من الطبيعي أن يخشى العراق على أمنه القومي ومصالحه المباشرة وغير المباشرة. فأمن الأقليات السورية –من العلويين والدروز والشيعة الإسماعيليين والمسيحيين والأكراد– يشكل امتدادًا جغرافيًا واجتماعيًا لمصالح العراق، كما أن التعامل العدائي مع المحور الإيراني (محور المقاومة سابقًا) من قبل السلطة الجديدة في دمشق يُنظر إليه كتهديد مباشر من قبل النخب الشيعية العراقية. 

في المقابل، ترى الجماعات السنية المتحالفة مع المعارضة السورية أن ما جرى هو “تحرر” من حكم طائفي، بينما ينظر أنصار المحور الإيراني إليه على أنه “مؤامرة دولية – إقليمية” تستهدف تفكيك قوى المقاومة ومنع التواصل بين أطرافها.

من هذا المنظور، يعدّ البعض في العراق أن ما جرى في سوريا خسارة استراتيجية لمحور المقاومة، وانتصارًا جيوسياسيًا لتركيا وإسرائيل والولايات المتحدة، مما يعمّق شعور الشيعة –في العراق ولبنان وسوريا وإيران– بأنهم الطرف الخاسر، ويؤجج نزعة الريبة والرفض لأي تفاهم مع النظام الجديد في دمشق.

هذا التناقض في الخطاب السياسي يُظهر هشاشة التحليل الطائفي: فالدفاع عن “مظلومية” الأكثرية في سوريا يقابله التجاهل او حتى العداء لـ”حقوق” الأكثرية العراقية، والاحتجاج على الاحتلال الأميركي للعراق يتناقض مع الصمت تجاه الاحتلال الإسرائيلي للجولان. 

كما أن استيعاب السلطة السورية الجديدة لآلاف المقاتلين الأجانب من الإيغور والطاجيك والقوقازيين ضمن بنيتها العسكرية، دون اعتراض دولي يُذكر، يكشف عن معايير مزدوجة في فهم شرعية القتال والمواطنة والانتماء، ويُظهر كيف يتم توظيف الدين والمذهب في سرديات سياسية متناقضة.

المؤسسات الرسمية العراقية، برغم الضغوط الشعبية والإعلامية، تبدو أكثر حذرًا وعقلانية. فهي تدرك أن انهيار سوريا او استمرار فوضاها سينعكس سلبًا على العراق، أمنيًا واقتصاديًا، وسيفتح الأبواب أمام مشاريع تقسيم المنطقة على أسس طائفية وعرقية، بما يخدم الرؤية الإسرائيلية لمستقبل الشرق الأوسط. ولعل هذه القناعة كانت وراء انخراط بعض فصائل المقاومة في الدفاع عن النظام السوري منذ 2012، انطلاقًا من خشية فراغ السلطة لصالح مشروع تكفيري او صهيوني.

لكن، وبحسب تعبير سباستيان غوركا، مسؤول مكافحة الإرهاب السابق في البيت الأبيض، “لم يحدث أن تحول جهادي سلفي إلى براغماتي حقيقي”، وبالتالي يشكك كثيرون –في العراق وخارجه– في إمكانية تحول هيئة تحرير الشام من تنظيم متشدد إلى سلطة سياسية مسؤولة. ورغم ذلك، يرى بعض العراقيين الرسميين والناشطين أن القطيعة المطلقة مع سوريا الجديدة لا تصب في مصلحة العراق، وأن التفاهم المشروط قد يكون أكثر جدوى من العداء المفتوح.

من هذا المنطلق، فإن العقلانية السياسية تفرض تجاوز المواقف الأيديولوجية الجامدة والانطلاق من منطق المصالح الوطنية. فكلا البلدين، سوريا والعراق، بحاجة إلى علاقات مستقرة، وتعاون اقتصادي، وتفاهمات أمنية، وشراكات في ملفات المياه والطاقة والتجارة، بدل الغرق في اوهام الاصطفافات المذهبية وخطابات الكراهية القديمة. إن المطلوب اليوم هو خطاب سياسي جديد، يتجاوز مفردات “التهديد الوجودي”، ويعترف بتعقيدات الواقع، ويتعامل مع المتغيرات ببراغماتية واقعية لا تنسف الثوابت، لكنها لا تعيش في أسر الماضي.

اضف تعليق