تغيرت أشياء كثيرة في منطقة الشرق الأوسط بسرعة غير محسوبة. وأكثر ما كان غير متوقع هو عودة الولايات المتحدة إلى التعامل مع المنطقة من منظور استراتيجي جديد، وفقًا لمعطيات فرضتها وقائع ما بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وبالشراكة العضوية مع الكيان الصهيوني...
تغيرت أشياء كثيرة في منطقة الشرق الأوسط بسرعة غير محسوبة. وأكثر ما كان غير متوقع هو عودة الولايات المتحدة إلى التعامل مع المنطقة من منظور استراتيجي جديد، وفقًا لمعطيات فرضتها وقائع ما بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وبالشراكة العضوية مع الكيان الصهيوني.
قبل هذا التاريخ، كانت جميع المؤشرات، بما في ذلك وثائق وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) واستراتيجيات الأمن القومي، تشير إلى توجه واشنطن نحو خفض وجودها العسكري وانخراطها الأمني في الشرق الأوسط. وقد تجلى ذلك منذ انسحابها من أفغانستان عام 2021، ومن ثم انشغالها بالحرب الروسية-الأوكرانية، ما جعل منطقة المحيطين الهندي والهادئ (Indo-Pacific) أولوية في استراتيجيتها، لمواجهة التهديد الصيني بوصفه المنافس الأكبر لها، حسب ما ورد في "استراتيجية الأمن القومي الأميركية" الصادرة في أكتوبر 2022.
تزامن هذا التراجع في الأهمية النسبية للشرق الأوسط مع تحول الولايات المتحدة من أكبر مستورد للنفط إلى مصدر للطاقة، بفضل طفرة النفط الصخري.
كما ساهم تراجع شهية الصين وروسيا للدخول في صراع مباشر في المنطقة، إلى جانب الإرهاق الأميركي من الحروب الطويلة، في الدفع نحو "الانسحاب المسؤول"، كما أسماه فريق بايدن.
مع ذلك، ظلت هناك ثلاثة اعتبارات تمنع الانسحاب الكامل:
1. أمن إسرائيل، الذي ما زال يمثل أولوية استراتيجية ثابتة لواشنطن.
2. مواجهة التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها "داعش".
3. احتواء النفوذ الإيراني الإقليمي، خاصة عبر الفاعلين غير الدوليين كحزب الله والفصائل العراقية والحوثيين.
لكن ما لم يكن محسوبًا – حتى من قبل دوائر صنع القرار في البيت الأبيض – هو الهجوم المفاجئ الذي شنته حماس والفصائل الفلسطينية على مستوطنات غلاف غزة في 7 تشرين الأول 2023، والذي شكل لحظة مفصلية أعادت تشكيل ملامح الاستراتيجية الأميركية – الإسرائيلية في المنطقة.
المتغير الأبرز بعد الهجوم تمثل في الانتقال من سياسة الدعم الأميركي المشروط لإسرائيل إلى شراكة استراتيجية تكاد تصل إلى حالة اندماج وظيفي. لم تعد واشنطن مجرد ضامن لأمن إسرائيل، بل شريك مباشر في تنفيذ الرؤية الإسرائيلية للأمن الإقليمي.
لقد تبنت واشنطن، خاصة مع عودة ترامب للبيت الأبيض، وجهة النظر الإسرائيلية المتشددة حيال المنطقة: لا حديث عن "حل الدولتين"، ولا قبول بأي قوة إقليمية أو غير دولية تعارض التطبيع، ولا تسامح مع النفوذ الإيراني، بل تبن كامل لنهج "السلام من موقع القوة" لا "السلام مقابل الأرض" الذي كان عماد المبادرات العربية سابقًا.
وقد عبر عن هذا التحول الجنرال مايكل كوريلا، قائد القيادة المركزية الأميركية (CENTCOM)، في جلسات استماع أمام الكونغرس في مطلع 2024، وقبيل ثلاثة أيام من العدوان على إيران، حين تحدث عن "تكامل العمل الميداني والعملياتي بين الجيشين الأمريكي والإسرائيلي في ملفات غزة وإيران وسوريا وحتى اليمن".
لم يعد الكيان مجرد "حليف متقدم" في المنطقة، بل تحول إلى ذراع هجومية ومعلوماتية يؤدي وظيفة استراتيجية نيابة عن الولايات المتحدة، وهو ما تجلى في: الضربات المشتركة على منشآت نووية إيرانية في الأسبوع الثاني بعد بدء العدوان على طهران. ومحاولات هندسة سياسية لشرق أوسط جديد بزعامة إسرائيلية وغطاء أميركي. وفرض التطبيع بالقوة، كما تلمح التحركات تجاه لبنان وسوريا، سواء عبر التهديدات أو العقوبات والإغراءات.
بات واضحًا أن لا قوة إقليمية قادرة (ولا حتى راغبة) في الوقوف أمام هذا التغول. لقد عادت الولايات المتحدة إلى المنطقة، ولكن ليس لضمان التوازن، بل لترجيح كفة إسرائيل بالكامل.
إنها لحظة مشابهة، إلى حد ما، لمبدأ مونرو عام 1823، الذي منع أي قوة أوروبية من التدخل في المجال الحيوي للولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية، لكن بصيغة جديدة: الشرق الأوسط كحديقة خلفية لإسرائيل، بضمانة أميركية.
في هذا السياق، يبدو أن المشروع الإسرائيلي-الأميركي يقوم على: سحق القوى الرافضة للتطبيع، كسر الفواعل غير الدولتية المقاومة، إعادة تشكيل النسيج الأمني والسياسي للمنطقة، كل ذلك تحت لافتة "الأمن الإقليمي".
بعد الضربات على إيران، وبعد التدمير واسع النطاق في غزة، يطرح الواقع أسئلة حارقة: كيف سيتم التعامل مع الفاعلين الإقليميين غير المندمجين في هذا التصور؟، ما إمكانات الرد أو المقاومة؟ وهل ثمة توازن جديد ممكن؟، ما طبيعة الخطاب السياسي القادر على ترميم هذا الواقع بعد الجراحات والخراب؟.
قد تكون العودة "الترامبية" إلى الحكم أكثر جذرية من سابقتها. إذ يربط ترامب بين عظمة أميركا وتفوق حلفائها، وخاصة إسرائيل، في تنفيذ سياسة هجومية، ليس فقط في المنطقة بل على مستوى عالمي. فشعار "لنجعل أميركا عظيمة مجددًا" يلتقي تمامًا مع شعار نتنياهو بإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط، لا وفق حل سياسي، بل عبر موازين القوة والتفوق والترويع.
وهكذا، تبدو المرحلة المقبلة وكأنها تأسيس لنظام إقليمي جديد، قائم على الهيمنة المطلقة، لا الشراكة أو التوازن، زمن الاستعلاء والغطرسة والتوحش – كما تسميه الوقائع – بات هو الإطار الغالب في العلاقات الدولية… ثم يحدثونك عن السلام؟
اضف تعليق