في عاشوراء لم يتنازل أَو يُغيِّر أَحدٌ رأيهُ وموقفهُ عندما تكاثرَ عدد الشُّهداء حتَّى أَتت السُّيوف على آخرهِم. وفي عاشوراء فإِنَّ كُلَّ شيءٍ كانَ مُتميِّزاً فتحوَّل إِلى نموذجٍ وإِلى قدوةٍ وأُسوةٍ يُحتذى. وفي عاشوراء أَدَّى الحُسين السِّبط (ع) دَوراً واحداً فقط هوَ دَور الشَّهيد. وفي عاشوراء بدأَت رسالة الكلِمة...
عندما تقولُ بأَنَّك تُؤمنُ أَو تعتقدُ بشيءٍ وأَنَّك مُلتزِمٌ بنهجهِ وسيرتهِ فذلكَ أَمرٌ بحاجةٍ إِلى إِثباتٍ على قاعدةِ [البَّيِّنةُ على مَن ادَّعى] والإِثباتُ لا يتحقَّق بالكلامِ والخطابِ والمقالِ وإِنَّما بما يلي؛
- أَن يظهرَ إِيمانُكَ بالشَّيء في سلوكيَّاتك اليوميَّة وفي نهجكَ العملي أَينَ ما كُنتَ وفي أَيِّ مَوقعٍ تكون، فيلمسهُ القريبُ والغَريبُ في حركاتكَ وسكناتِكَ وخُططِكَ وسيرتِكَ ومسيرتِكَ، وإِلَّا…فأَنت كذَّابٌ.
يقولُ تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ).
- وأَن يظهرَ اعتقادُكَ بمنهجيَّةٍ ما في ثقافتِكَ وطريقةِ تفكيرِكَ وفهمِكَ للأُمورِ وتعاطيكَ مع الواقعِ والأَحداثِ والتحدِّياتِ، وإِلَّا…فأَنتَ كذَّابٌ.
فإِذا قلتَ بأَنَّكَ تعمل للحقِّ ولا تقبل بالباطلِ وهيَ مُعادلةٌ دقيقةٌ جدّاً قد لا تتجلَّى يوميّاً وإِنَّما يقعُ فيها الإِختبار رُبما في لحظةٍ واحدةٍ فقط وفي مَوقفٍ مُفاجئٍ، عندما تقِف على المحكِّ ويخيِّركَ الظَّرفُ الصَّعب والقاسي بينَ الحقِّ والباطلِ.
يقولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) (إِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّه مَنْ كَانَ الْعَمَلُ بِالْحَقِّ أَحَبَّ إِلَيْهِ (وإِنْ نَقَصَهُ وكَرَثَهُ) مِنَ الْبَاطِلِ وإِنْ جَرَّ إِلَيْهِ فَائِدَةً وزَادَهُ).
ويضربُ (ع) مثلاً بإِبليس الذي اختبرهُ الله بلحظةٍ وليسَ بعامٍ أَو عامَينِ، يقولُ (ع) (فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّه بِإِبْلِيسَ إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ وجَهْدَهُ الْجَهِيدَ وكَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّه سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ لَا يُدْرَى أَمِنْ سِنِيِّ الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِيِّ الآخِرَةِ عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللَّه بِمِثْلِ مَعْصِيَتِه؟!).
وإِلى نفسِ هذا المعنى يُشيرُ الحُسين السِّبط (ع) بقولهِ (النَّاسُ عَبيدَ الدُّنيا والدِّينُ لعِقٌ على أَلسنتِهِم، فإِذا مُحِّصُوا بالبَلاءِ قلَّ الدَّيَّانُونَ) والتَّمحيصُ لا يأخُذ وقتاً طويلاً في حساباتِ الله عزَّ وجلَّ وإِنَّما قد يكونُ (كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ).
عاشوراء واحدةٌ من أَبرزِ وأَعظمِ المحطَّات في تاريخ البشريَّة التي يتغنَّى ببطولاتِها النَّاس ويفتخرُونَ ويتباهَونَ بقيمِها ومبادئِها ومواقفِها بغضِّ النَّظر عن خلفيَّاتهِم الدينيَّة ومدى قُربهِم أَو بُعدهِم عن الله تعالى ومقدارِ التزامهِم الدِّيني من عدمهِ.
وهُم على نَوعَينِ؛
- نوعٌ يفتخرُ بها كحدثٍ إِنسانيٍّ لا مثيلَ لهُ في كُلِّ شيءٍ، فيكتبُ فيها الشِّعر والأَدب والقصَص والكُتب والأَسفار والأَفلام والمُسلسلات وغَيرها.
وهوَ بكُلِّ هذا لا يُفكِّر في أَن يتقمَّصَ شخصيَّتها وقيمَها ومبادئها أَو ينتهِجَ دينها وإِنَّما يسعى ليُساهِم في أَن يجعلَها خالدةً في ذاكرةِ الإِنسان لجمالِ قِيمِها فقط ولعظمةِ مواقفِها وللبطولاتِ التي سطَّر ملامحَها رجال عاشوراء.
ونكتفي بمثلِ هذا من مثلِ هؤُلاء وجزاهُم الله عن الحُسين السِّبط (ع) وأَهلِ بيتهِ وأَصحابهِ خيرَ جزاءِ المُحسنين.
- نوعٌ آخر هو الذي يفتخر بعاشوراء بكُلِّ ما فيها ثمَّ يدَّعي بأَنَّهُ يمثِّلها في سيرتهِ ومسيرتهِ وأَخلاقهِ وفي [حركتهِ إِلى الله تعالى] لدرجةِ [المُصادرةِ] وكأَنَّهُ لا أَحدَ سواهُ يُمثِّلُ عاشوراء وكأَنَّهُ [المُمثِّل الشَّرعي الوحيد] لعاشوراء!.
فهوَ يرى في [الزَّعيم] شخصيَّة الحُسين السِّبط (ع) فيُطلق عليهِ لقب [حسينَ زمانهِ] وعلى المرأَةِ في حزبهِ بأَنَّها [زينبُ زمانِها] ويُشبِّه قيامهُ وقعودهُ بقيامِ وقعودِ السِّبط (ع) وأَنَّ جبهتهُ ومحورهُ هو جبهة ومُحور [الحق وكربلاء وعاشوراء] أَمَّا الذين يختلفُونَ معهُ ولو بشقِّ كلمةٍ فهؤُلاء [يزيد ومُعسكر الأَمويِّينَ وشِمراً وحرمَلة والأَزرق الشَّامي وابنَ سعدٍ]!.
هذا النَّوع المُتطرِّف يبذُل كُلَّ جُهدِ ليُصادر الحقائق ونسبتَها لهُ حصراً واحتكارِ الجبهاتِ لنفسهِ مع رفضٍ تامٍّ لكُلِّ مَن يختلِف معهُ في قولٍ أَو رأيٍ أَو خِصلةٍ أَو خطوةٍ مهما كانت بسيطَة.
وبرأيي فإِنَّ أَفضلَ طريقةٍ لفضحِ زيفهِم والكشفِ عن دجلهِم وأَكاذيبهم وتطرُّفهِم ومن أَجلِ قياسِ بعدِ المسافةِ بينهُم وبينَ كربلاء، هو أَن نواجههُم بحقائقِ عاشوراء ثُمَّ نترُك المُقارنةَ بينهُم وبينها للمُغفَّلينَ وإِن كان ذلكَ [المُقارنة] لا يجوزُ أَبداً فهو ظلمٌ لعاشوراء، ولكن لا بأس فالضَّرورات تُبيح المحظورات.
فمثلاً؛
- في عاشوراء استُشهدَ الحُسين السِّبط (ع) ومَن معهُ فلم يبقَ منهُم أَحدٌ، والقائدُ لم يوفِّر واحداً من أَبنائهِ وأَهلِ بيتهِ في ساحةِ المعركةِ.
- وفي عاشوراء واجهَ القائِدُ ومَن معهُ الموتَ وجهاً لوجهٍ فلم يُقاتلُوا من وراءِ جُدرٍ أَو اكتفى بإِصدارِ الأَوامرِ من فوقِ بُرجهِ العاجي تحتَ شِعار [سيرُوا ونحنُ من ورائِكُم ندعو لكُم].
- وفي عاشوراء كُلُّهُم استُشهِدُوا فَوقَ الأَرضِ فلم يستشهِد أَحدٌ تحتَ الأَرضِ في مخبأٍ أَو في نفقٍ.
- وفي عاشوراء لم يُفاوض أَحدٌ بعدَ انتهاءِ المعركةِ.
- وفي عاشوراء لم يتورَّط أَحدٌ بأَيِّ نَوعٍ من الفسادِ المالي والأَخلاقي.
- وفي عاشوراء لم يتنازل أَو يُغيِّر أَحدٌ رأيهُ وموقفهُ عندما تكاثرَ عدد الشُّهداء حتَّى أَتت السُّيوف على آخرهِم.
- وفي عاشوراء فإِنَّ كُلَّ شيءٍ كانَ مُتميِّزاً فتحوَّل إِلى نموذجٍ وإِلى قدوةٍ وأُسوةٍ يُحتذى.
- وفي عاشوراء أَدَّى الحُسين السِّبط (ع) دَوراً واحداً فقط هوَ دَور [الشَّهيد].
- وفي عاشوراء بدأَت رسالة الكلِمة التي حملَتها العقيلة زَينب بنت عليٍّ (ع) لتهوي بها كمطرقةِ الحديدِ على رؤُوسِ الفاسدينَ والظَّالمين والمُتخاذلينَ لتُحطِّمها من دونِ مجاملةٍ أَو تمييزٍ وبِلا أَدنى شكٍّ أَو تردُّدٍ أَو خَوفٍ أَو وجلٍ أَو تبديلٍ أَو إِنقلابٍ.
- وفي عاشوراء مثَّلت العقيلةُ (ع) الطُّهر والصَّفاء والنَّقاء إِلى جانبِ الشَّجاعة والثَّبات والصَّبر والتحدِّي والإِستقامةِ.
- وفي عاشوراء لم نشهَد في جبهتِها إِنشقاقاً أَو إِختلافاً أَو تمرُّداً أَو إِنقلاباً، أَو أَيِّ نوعٍ من التَّصفياتِ الداخليَّةِ والحقدِ والكراهيَّةِ والبغضاءِ والصِّراعِ على السُّلطةِ ونشرِ الغسيلِ القذرِ وعمليَّاتِ اغتيالِ الشَّخصيَّةِ والغمزِ واللَّمزِ وإِشاعةِ الفاحِشةِ بينَ المُؤمنينَ.
- وفي عاشوراء لم يكتشِف القائد جاسُوساً أَو عميلاً يسرِّب المعلُومات والأَسرار للعدوِّ.
- وفي عاشوراء لم يكتفِ القائد بالخُطبِ الناريَّة والشِّعارات البرَّاقة والكلمات الرنَّانة وإِنَّما تحوَّلَ الكلامُ إِلى فعلٍ والخطابُ إِلى إِنجازٍ.
فأَينَ [المتطرِّفونَ المُدَّعونَ] من واحدةٍ من هذا؟!.
ولذلكَ خاطبَ الحسنُ السِّبط (ع) أَخيهِ الحُسين السِّبط (ع) بقَولهِ (لا يَوم كيَومِكَ يا أَبا عبد الله).
فيا أَيُّها الكذَّابونَ الدجَّالونَ لا تسرقُوا عاشوراء فلقد فضحَت كربلاء أَخلاقكُم ونهجكُم الأَموي!.
اضف تعليق