فلو نظرنا إلى الموظف المعاقب فكما هو معروف إن آثار العقوبة تلازم الموظف زمناً طويلاً، وتنصرف إلى حقوقه وحرياته الوظيفية بل يكون لها أثار نفسية ومعنوية مدمرة في بعض الأحيان، ويخسر فرصاً إيجابية يمكن ان تنعكس إيجاباً على حياته الخاصة وحياة أسرته أيضاً. ولا ننسى ان الوقوع في الخطأ...

مما لاشك فيه ان الله سبحانه وتعالى فتح بحكمته باب الرحمة للمحسن، وبعدله أقر فتح باب العذاب للمخطئ أو المسيء من الناس، وبينهما ترك باب التوبة مفتوحاً لبني آدم لتدارك الأخطاء والعودة إلى الله والطريق السوي والصراط المستقيم، والمشرع الأرضي مدعو إلى انتهاج الفلسفة ذاتها لكونها السبيل إلى التصالح مع الذات والمجتمع.

 وكان للمشرع العراقي في قانون انضباط موظفي الدولة فلسفة موفقة إلى حد كبير حين أقر في قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم (14) لسنة 1991 المعدل في المادة الثامنة العقوبات التأديبية بحق الموظف المخطئ ممن الحق الضرر بالمصلحة العامة وسير المرفق العام بانتظام، وبالوقت عينه تفرد المشرع بإقرار نظام محو العقوبات الانضباطية بشكل مباشر من الرئيس الإداري أو بتوجيه التشكرات التي تمنح الموظف ميزة تقدمه على أقرانه من شأنها ان تمنحه قدماً وظيفياً ان لم يكن معاقباً أو تمحو عنه بعض صور العقوبات التأديبية سالفة الذكر، وفي ذلك فلسفة تشريعية محمودة فلو نظرنا إلى الموظف المعاقب فكما هو معروف إن آثار العقوبة تلازم الموظف زمناً طويلاً، وتنصرف إلى حقوقه وحرياته الوظيفية بل يكون لها أثار نفسية ومعنوية مدمرة في بعض الأحيان، ويخسر فرصاً إيجابية يمكن ان تنعكس إيجاباً على حياته الخاصة وحياة أسرته أيضاً.

 ولا ننسى ان الوقوع في الخطأ الوظيفي لا يكون دائما نتيجة تعمد أو إهمال جسيم بل يقع الكثير من الموظفين ضحية للشك وعدم اليقين في ارتكاب المخالفات، ويجهل قسم أكبر منهم الضمانات التي من شأنها ان تستنقذه من آثار العقوبة سواءً منها المعاصرة للتحقيق الإداري أو اللاحقة كالطعن أمام محكمة قضاء الموظفين وما تتطلبه الدعوى الإدارية من شكليات ومدد حتمية يؤدي التراخي بها إلى فقدان الفرصة في النجاة من أثر العقوبة، لهذا يكون واجباً إقرار نظام رد الاعتبار وهو يشبه إلى حد كبير التوبة في نطاق الشريعة الإسلامية، فإلغاء العقوبة من قبل الرئيس الإداري هو عفو إداري من شأنه ان يعيد الأمور إلى نصابها بالنسبة للموظف الجيد، اقتداء بإرادة السماء حين يقول الباري عز وجل (وَهُوَ اُلَّذِى يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ، وَيَعْفُواْ عَنِ اُلسَّيِّئَاتِ)، ويقول كذلك في نوطن آخر (وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، فان أحسن الموظف التصرف وحسنت سيرته ولم يرتكب فعلاً يعد اصراراً على المخالفة السابقة أو ارتكاباً لمخالفة أخرى يمكن ان تعرضه للعقاب فان الصفح والعفو أولى وأقرب إلى المصلحة العامة، فمن الثابت ان الآثار السيئة التي تحيق بالإنسان بعد توقيع الجزاء يمكن ان تدفعه إلى اليأس أو محاولة الانتقام لذا شاء المشرع ان يفتح له باباً لتدارك ما فرط منه.

 وإعادة النظر في الجزاءات الانضباطية الموقعة على الموظف العام للتخلص من الآثار الوظيفية التي تخلفها تلك الجزاءات كعدم الأهلية الأدبية أو المعنوية للترشح لوظائف أسمى بعينها أو استحقاق الترقية الوظيفية، أو ما يتصل بالحقوق المالية الدورية كالترفيع أو العلاوة السنوية مسألة مقررة في القانون وانتهى اجتهاد القضاء الإداري العراقي أو المقارن إلى أن توقيع العقوبة التأديبية على الموظف العام عندما يرتكب ذنباً إدارياً أو مالياً يتم التحقيق في الواقعة قبل اصدار القرار للتأكد من عدم توقيع الجزاءات الظالمة بحقه.

 وتأسيساً على ذلك ان بقاء الجزاء التأديبي في ملف خدمة الموظف دون محو قد يؤثر على تقارير الأداء السنوي الخاصة به، فالأصل هو الاعتداد بالأفعال التي يؤديها الموظف خلال السنة التي يوضع عنها التقرير أخذاً بمبدأ سنوية التقرير إلا أنه فيتعاقب الجزاءات واتصال ماضي الموظف في السنوات السابقة بحاضره في السنة التي وضع فيها التقرير قد ينعكس سلباً على مزاج الرئيس الإداري فيمنحه علامات متدنية، ما يمكن ان ينعكس على أداءه في السنة التالية، وما تقدم يمثل إهدار للجهود الشخصية ويخدش بلا شك حسن قيامة بعمله بكفاءة.

 وفضلاً عن ذلك فإن بقاء الجزاءات الموقعة على الموظف والمودعة بملف خدمته والثابتة بصحيفة خدمته يلقى ظلالاً على قابليته لتجاوز الماضي لذا انتهى النص في قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام بالمادة الثالثة عشر إلى أنه ((أولاً: للوزير ان يلغي العقوبات المفروضة على الموظف المنصوص عليها في الفقرات (أولاً: عقوبة لفت النظر) و(ثانياً: عقوبة الإنذار) و(ثالثاً: عقوبة قطع الراتب) و(رابعاً: عقوبة التوبيخ) عند توافر الشروط التالية:

1- مضي سنة واحدة على فرض العقوبة.

2- قيامة بأعماله بصورة متميزة عن أقرانه.

3- عدم معاقبته بأي عقوبة خلال المدة المنصوص عليها في النقطة رقم (1). 

وتعد المادة أعلاه وما تضمنته من شروط من أهم الضمانات التي من شأنها ان تمنع الإدارة من التعسف في استخدام السلطة إذ يمكن أن نحلل المادة أعلاه إلى نقاط لابد من توافرها لمحو العقوبة الانضباطية أهمها:

أولاً: المدة: من المنطقي ان يضع المشرع أجلاً معيناً لإلغاء العقوبة ورد الاعتبار للتأكد ان الموظف المعاقب قد استوعب الدرس وأنه حسن من سلوكه الوظيفي، والملاحظ أن المشرع العراقي في المادة الثالثة عشر أعلاه اشترط مضي سنة كاملة على فرض العقوبة وكان شرطه هذا تعوزه الدقة والموضوعية فليس من المنطقي المساواة بين أربع من العقوبات (لفت النظر والإنذار وقطع الراتب والتوبيخ) في المدة اللازمة لإلغاء العقوبة والمنطق ان تكون المدة متناسبة مع جسامة العقوبة وجسامة المخالفة ومقدار الضرر الذي تسبب به الموظف المخطئ، والأولى ان يكون للرئيس الإداري سلطة تقديرية بالنسبة للعقوبات البسيطة كلفت النظر أن يتمكن من إلغائها بمضي مدة ثلاثة أشهر كحد أدنى مثلا والعلة من وراء دعوتنا هذه ان مدة السنة طويلة وقد تتسبب باستنفاذ العقوبة لأثارها بمعنى ان الموظف يتأخر منحه للعلاوة السنوية أو الترفيع ويمضي موعد استحقاقه لأي من الامتيازات المتقدمة وبهذا لا يكون للمحو أي أثر مادي ويقتصر على الجانب المعنوي فحسب، وبهذا تتخلف الحكمة التشريعية من رد الاعتبار أصلاً لعدم إحداث أي تغيير في المركز المالي للموظف العام رغم ان المخالفة قد تكون بسيطة كما المعنى إلى ذلك سابقاً.

ثانياً: عدم معاقبة الموظف: بأي عقوبة انضباطية أخرى خلال مدة السنة، فالمشرع إنما قرر المدة قبل محو أو إلغاء العقوبة للتأكد من أن الموظف استقام سلوكه وانه استفاد من الخطأ الذي وقع فيه، أضف إلى ما تقدم ان عودة الموظف إلى المخالفات من جديد يستوجب تشديد العقوبة عليه وليس إلغائها وان المدد اللازمة لمحو العقوبات لا تتداخل أو تتوازى في الاحتساب بل تتساقط لعدم تحقق العلة التشريعية الهادفة إلى استفادة الموظف من سبق المعاقبة لتحسين سلوكه الوظيفي.

ثالثاً: تميز الموظف: وتقدمه على أقرانه ومن علامات ذلك حصوله على تقدير عال في التقييم السنوي ما يعني تفرده الوظيفي وانه بذل جهوداً مخلصة في العمل أو تكليفه بأعمال إضافية أو إنجازه لواجباته على نحو من الحرص والأداء المتميز مقارنة ببقية زملائه.

 كما ان المشرع العراقي أقر اسلوباً أخر لرد الاعتبار الوظيفي حيث ورد بالمادة (21) من قانون الانضباط ((أولاً: إذا وجه للموظف شكر من الرئاسة أو مجلس الوزراء أو الوزير أو من يخوله ولم يكن معاقبا أو كان معاقبا واستنفدت العقوبة أثرها فيمنح قدما لمدة شهر واحد عن كل شكر يوجه له وبما لا تتجاوز مدة القدم ثلاثة أشهر في السنة الواحدة. 

ثانياً: إذا كان الموظف معاقبا فان الشكر يلغي عقوبة لفت النظر وإذا حصل على شكرين فيلغيان عقوبة الإنذار المفروضة عليه وإذا حصل على ثلاثة تشكرات فأكثر وكان معاقبا بعقوبة أشد من الإنذار فتقلص مدة تأخير ترفيعه شهراً واحداً عن كل شكر وبما لا يزيد على ثلاثة أشهر في السنة)) والنص المتقدم يعد من النصوص القليلة التي تنصف الموظف المثابر والمتميز حيث ان حصوله على قرار إداري بصيغة الشكر لجهود وظيفية متميزة يتسبب بإلغاء ومحو العقوبة الموجهة إليه وتخلصه من أثارها السلبية التي تحيق بمركزه الوظيفي، ويترتب على رد الاعتبار الوظيفي جملة من الآثار القانونية المهمة بالنسبة لحاضر ومستقبل الموظف العام نجملها بالآتي:

أولاً: تعد العقوبة التأديبية كأن لم تكن بالنسبة للمستقبل، بمعنى توقف قرار فرض العقوبة عن إنتاج الآثار القانونية في المستقبل وعدم الاعتداد به عند منح الموظف الحقوق أو تقرير تمتعه بالحريات الوظيفية، وهنا يكون لرد الاعتبار بطريق المحو أو الإلغاء ميزة على الانتهاء بالتنفيذ حيث ان تنفيذ العقوبة يعني إلحاق الضرر المقصود بالموظف المخطئ وان العقوبة ستستقر في ملفه الشخصي وتؤخذ بنظر الاعتبار في المستقبل عند الترشح للترقية أو لتسنم المناصب أو الوظائف الأرفع وعند التقييم السنوي بينما رد الاعتبار يجعل العقوبة وكأنها لم تكن بمعنى يمكن تجاوز كل ما تقدم.

ثانياً: ان إلغاء ومحو العقوبة ينصرف بإثارة للمستقبل فحسب.

ثالثاً: يمكن للموظف الذي أعيد له اعتباره ان ينافس وعلى سبيل التكافؤ في الفرص زملائه في الحصول على الحقوق والمزايا الوظيفية.

..........................................

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2025

هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...

http://ademrights.org

ademrights@gmail.com

https://twitter.com/ademrights

اضف تعليق