كيف تنشأ هذه الشبكة الإنسانية المعقدة، التي تبدو وكأنها تعمل بقانون خاص بها؟ وما هي الأسس غير التقليدية التي ترتكز عليها، والتي تجعلها تتفوق في تنظيمها وفعاليتها على كثير من المبادرات الحكومية أو المؤسساتية الرسمية؟ والأهم من ذلك، هل يمكن أن تكون هذه الظاهرة نموذجاً نستلهم منه دروساً حقيقية...

في عالمٍ تتنازع فيه المصالح، وتتكسر فيه أواصر الروابط الاجتماعية أمام أمواج الفردانية العاتية، يبرز مشهدٌ فريدٌ من نوعه كل عام. إنه ليس مجرد حدثٍ دينيٍّ عابر، بل يتحول إلى معجزة إنسانية وإدارية تُحير كبار المنظمين وتُدهش خبراء التنمية المجتمعية على حد سواء. 

نتحدث هنا عن مشهد المواكب الحسينية الذي يتجلى بأبهى صوره خلال ذكرى الأربعين، حيث يتدفق الملايين سيراً على الأقدام نحو كربلاء، وتستقبلهم على طول الطريق شبكة هائلة من الخدمات الطوعية، تُقدم بكرمٍ منقطع النظير. هذه المنظومة العفوية العظيمة تُشكل ما يمكن وصفه بـ"أعظم تكافل شعبي" و"إدارة مجتمعية تتجاوز كل التوقعات". فكيف تنشأ هذه الشبكة الإنسانية المعقدة، التي تبدو وكأنها تعمل بقانون خاص بها؟ وما هي الأسس غير التقليدية التي ترتكز عليها، والتي تجعلها تتفوق في تنظيمها وفعاليتها على كثير من المبادرات الحكومية أو المؤسساتية الرسمية؟ والأهم من ذلك، هل يمكن أن تكون هذه الظاهرة نموذجاً نستلهم منه دروساً حقيقية في بناء مجتمعات أكثر تماسكاً وتكافلاً، في زمنٍ نحن فيه أحوج ما نكون إلى مثل هذه الروح؟

دوافع خفية لثورة التكافل 

قد يميل البعض إلى النظر للمواكب الحسينية على أنها مجرد تعبير عن الولاء الديني التقليدي، لكن خلف هذا الظاهر المألوف تكمن أسباب عميقة، بل وغير تقليدية، تُفسر هذا الحجم الهائل من التكافل البشري والكفاءة التنظيمية المذهلة. الأمر ليس مجرد طقوس، بل هو تجسيد لآليات عمل فريدة من نوعها:

1. الإيمان كقوة تنظيمية لا مركزية: بعيداً عن الهياكل الإدارية الهرمية والتعقيدات البيروقراطية، يُعد الإيمان بمشروع الإمام الحسين عليه السلام هو المحرك الأساسي لهذه المنظومة المتفردة. إنه يخلق دافعاً ذاتياً قوياً يدفع الأفراد إلى العطاء والتنظيم والعمل التطوعي دون انتظار مقابل مادي، أو حتى توجيه مباشر من سلطة عليا. هذا الإيمان لا يقتصر على كونه شعوراً روحياً، بل يُشكّل قوة تنظيمية لا مركزية حقيقية، حيث يصبح كل فرد وكل موكب بمثابة خلية نشطة تعمل بتناغم ضمن رؤية موحدة تتناقلها الأجيال. وهذا ما يُفسر سرعة الاستجابة ومرونة التكيف مع المتطلبات المتغيرة بشكل يفوق قدرة أي جهاز إداري تقليدي.

2. التراث الشفهي والتقليد الاجتماعي كـ"دليل إجراءات" حي: ما يُميز هذه المواكب حقاً هو أنها لا تعتمد على كتيبات إرشادات رسمية أو بروتوكولات مكتوبة ومعقدة. بدلاً من ذلك، تُورث الخبرة والتجربة المتراكمة جيلاً بعد جيل عبر التراث الشفهي والتقليد الاجتماعي المتجذر. الآباء يعلمون الأبناء كيفية إقامة الموكب، وكيفية إدارة الموارد المتاحة، وكيفية التعامل مع الزوار القادمين من كل حدب وصوب، وحتى كيفية حل المشكلات الطارئة التي قد تظهر. هذا التقليد ليس مجرد عادة متوارثة، بل هو بمثابة "دليل إجراءات" حي، يتطور ويتكيف بمرور السنين، مما يضمن استمرارية وفعالية التنظيم دون الحاجة إلى هياكل إدارية معقدة أو تدريب رسمي.

3. العطاء كقيمة وجودية لا مجرد صدقة: في المواكب الحسينية، يتحول مفهوم العطاء من مجرد فعل خيري عابر إلى قيمة وجودية عميقة تُعبر عن جوهر الانتماء والولاء. العطاء هنا ليس فضلاً يُقدم أو تبرعاً يُرجى منه الشكر، بل هو واجب أخلاقي وروحي راسخ، يتم ممارسته بشغف ورغبة عارمة في خدمة "زوار الحسين". وهذا يفسر لماذا يتسابق الناس لتقديم أقصى ما لديهم من جهد ومال وموارد، حتى وإن كانوا من الفئات محدودة الدخل أو ذوي الإمكانيات البسيطة. فالعطاء هنا لا يُنظر إليه كنقص في المورد المادي، بل كفيض في الروح والعزيمة.

4. تجاوز الانقسامات الاجتماعية لصالح هدف أسمى: في ظل مجتمعات تعاني من انقسامات طبقية وعرقية ومذهبية حادة، تُقدم المواكب الحسينية نموذجاً فريداً من نوعه في تجاوز هذه الفوارق الظاهرية. يذوب الغني والفقير، المتعلم والأمي، ابن المدينة وابن الريف، في بوتقة واحدة هدفها الأسمى هو خدمة الزائر. هذه الوحدة المؤقتة، لكن العميقة في جوهرها، تُظهر قدرة الإيمان المشترك على لم شمل القلوب وتوجيه الجهود نحو هدف أسمى يتجاوز المصالح الفردية الضيقة، مما يعطينا بصيص أمل في إمكانية بناء مجتمعات أكثر تآلفاً وتراحماً.

الإدارة المجتمعية في الأربعين

إن وصف "إدارة مجتمعية تتجاوز التوقعات" ليس مجرد تعبير عاطفي يصف المواكب الحسينية، بل هو حقيقة ملموسة تُثير تساؤلات جدية في علم الإدارة والتنظيم الحديث. فكيف يمكن لهذه المنظومة العملاقة أن تُدار بكفاءة مذهلة دون وجود تخطيط مركزي بيروقراطي مُحكم؟

منظمة "لا ربحية" بامتياز، بفلسفة مغايرة: يمكننا بحق اعتبار المواكب الحسينية منظمات لا ربحية عملاقة، لكنها تعمل بفلسفة مختلفة جذرياً عن المعهود. فبينما تسعى معظم المنظمات غير الربحية إلى جمع التبرعات وتوزيعها وفق خطط محددة وميزانيات معتمدة، فإن المواكب تعتمد على مبادرة الأفراد التلقائية، وعلى تقديم الخدمات مباشرة دون أي وسيط. هذا النهج يقلل من النفقات الإدارية إلى الحد الأدنى، ويضمن وصول الدعم للمستحقين فوراً وبلا تأخير. تشير تقديرات غير رسمية إلى أن حجم الإنفاق على خدمات الزوار خلال زيارة الأربعين قد يتجاوز المليارات سنوياً، وكل هذا يتم بتمويل شعبي بحت ومنظم ذاتياً، وهو رقم يُدهش المتابعين الاقتصاديين.

بنية شبكية بدلاً من هرمية تقليدية: على عكس الشركات الكبرى أو المؤسسات الحكومية التي تعتمد على هياكل هرمية صلبة ومحددة، تعمل المواكب ضمن بنية شبكية مرنة وغير رسمية. كل موكب يُعد كياناً مستقلاً يتخذ قراراته، لكنه يتناغم بشكل عضوي مع غيره من المواكب ضمن "بروتوكولات" غير مكتوبة، قائمة على المساعدة المتبادلة وتوزيع الأدوار العفوي .فإذا ما نقص الماء في موكب، يتسارع موكب مجاور لتزويده. وإذا تعطلت حافلة تحمل زواراً، يتسابق أصحاب السيارات الشخصية لنقل الركاب بلا تردد. هذه المرونة المذهلة تسمح باستجابة سريعة وفعالة لأي طارئ، بعيداً عن تعقيدات الموافقات الإدارية الروتينية.

الموارد البشرية المتحفزة ذاتياً: يعتبر تحفيز العاملين التحدي الأكبر الذي يواجه أي منظمة في العالم. لكن في المواكب الحسينية، لا توجد رواتب تُدفع ولا مكافآت مادية تُقدم. الدافع الأساسي هنا هو الثواب الأخروي، والإيمان العميق بالخدمة، والشعور الجياش بالانتماء لمشروع الإمام الحسين (ع). هذا التحفيز الذاتي يخلق جيشاً لا يُحصى من المتطوعين يعملون لساعات طويلة، ويقدمون أقصى جهدهم بإخلاص وتفانٍ قل نظيره في أي عمل آخر. هذا النموذج يتناقض بوضوح مع نظريات الإدارة الحديثة التي تركز بشكل كبير على الحوافز المادية، ويُقدم نموذجاً فريداً من نوعه للتحفيز غير المادي الذي يحرك الملايين.

لوجستيات تُحير العقول وتُذهل الخبراء: تتطلب زيارة الأربعين نقل وإطعام وإيواء الملايين من البشر في فترة زمنية قصيرة. فلوجستياً، يُعد هذا تحدياً هائلاً يفوق قدرات العديد من الدول. بينما تستعين الجيوش الكبرى وشركات الإغاثة العالمية بأحدث التقنيات وخطط الطوارئ المعقدة لإدارة حشود أقل بكثير، فإن المواكب الحسينية تُدير هذه اللوجستيات ببراعة شبه تلقائية. توزيع المياه والطعام، توفير أماكن الراحة، الخدمات الطبية الأولية، وحتى تنظيف الطرقات وإزالة النفايات، كلها تتم بتنسيق عفوي بين آلاف المواكب والأفراد. هذا التنظيم الذاتي يُمكن مقارنته بـ"اقتصاد الظل" الكبير الذي يعمل بكفاءة غير مرئية للعين البيروقراطية الرسمية.

دروس من المواكب نحو مجتمع أكثر تكافلاً

إن دراسة ظاهرة المواكب الحسينية بعمق تُقدم لنا استنتاجات نوعية وفلسفية يمكن أن تُضيء مسارات الإصلاح المجتمعي في واقعنا المعاصر:

1. قوة الإيمان في بناء الكفاءة التنظيمية: تُظهر المواكب بشكل جلي أن الإيمان الحقيقي، عندما يتحول إلى دافع راسخ للخدمة والعطاء، يمكن أن يُنتج مستويات غير مسبوقة من الكفاءة التنظيمية والتكافل الاجتماعي، متجاوزاً بذلك عوائق البيروقراطية والنقص المادي الذي يعيق الكثير من المشاريع.

2. اللامركزية والإدارة الشبكية كنموذج للمستقبل: في عالم يتجه بشكل متزايد نحو اللامركزية والتخصص، تُقدم المواكب نموذجاً حياً للإدارة الشبكية الفعالة. حيث تتوزع المهام والمسؤوليات والمرونة على الوحدات الأصغر، مما يُعزز من قدرة الاستجابة السريعة ويُقلل من مخاطر الفشل الذي قد ينجم عن المركزية المفرطة.

3. العطاء كبديل للاستهلاك في مجتمعاتنا: في مجتمعاتنا التي تعاني من هيمنة الثقافة الاستهلاكية، تُقدم المواكب الحسينية ثقافة بديلة قائمة على العطاء غير المشروط والتضحية بالذات، مما يُعيد الاعتبار للقيم الإنسانية النبيلة ويُجدد أواصر التراحم والتآزر بين أفراد المجتمع.

4. إمكانية تجاوز الانقسامات عبر الأهداف المشتركة: تُثبت المواكب بشكل قاطع أن المجتمعات، مهما بدت انقساماتها الظاهرية (سواء كانت طبقية، عرقية، أو مذهبية)، يمكن أن تتحد وتتكاتف حول أهداف إنسانية أو روحية مشتركة ذات معنى أعمق، مما يفتح الباب أمام إمكانيات غير مستغلة لبناء الوحدة الوطنية وتعزيز التماسك الاجتماعي.

رؤية استشرافية

للاستفادة القصوى من هذه الظاهرة الفريدة واستثمار دروسها العميقة، يمكننا تقديم المقترحات التالية:

1. دراسات بحثية متعمقة ومتعددة التخصصات: يجب تشجيع الجامعات ومراكز البحث العلمي على إجراء دراسات متعمقة ومتعددة التخصصات للمواكب الحسينية. يجب ألا تقتصر هذه الدراسات على الجانب الديني فحسب، بل تمتد لتشمل الإدارة المجتمعية، اللوجستيات، التمويل الشعبي، والتحفيز غير المادي، للخروج بدروس تطبيقية قابلة للاستفادة في مجالات أخرى من الحياة العامة.

2. توثيق الخبرات والتجارب المتراكمة: العمل الجاد على توثيق الخبرات العملية المتراكمة لدى أصحاب المواكب والقائمين عليها، ليس فقط من الجانب الشعائري، بل من الجانب الإداري والتنظيمي واللوجستي، لإنشاء "بنك معرفي" غني بهذه التجارب الفريدة، يمكن الرجوع إليه والاستفادة منه.

3. تطبيق مبادئ التكافل في إدارة الأزمات: يجب استلهام نموذج المواكب في إدارة الأزمات والكوارث الطبيعية. يمكن تفعيل شبكات الدعم الشعبي اللامركزية التي تتجلى في الأربعين لتقديم المساعدة الإنسانية بفعالية وسرعة فائقة عند الحاجة، بدلاً من الاعتماد الكلي على الجهات الرسمية.

4. تعزيز ثقافة العطاء والعمل التطوعي: العمل على تعزيز ثقافة العطاء والعمل التطوعي في المناهج التعليمية والمبادرات الشبابية والمجتمعية، مستلهمين الروح الإيثارية النبيلة التي تتجلى في المواكب الحسينية كنموذج يحتذى به.

5. دمج القيم الروحية مع التخطيط الحديث: تشجيع دمج القيم الروحية والإنسانية العالية التي تُحرك المواكب مع مبادئ التخطيط والإدارة الحديثة، لخلق نماذج تنموية مستدامة تجمع بين الروحانية العميقة والكفاءة العملية الفائقة.

إن المواكب الحسينية ليست مجرد حدث سنوي يتكرر، بل هي قصة نجاح ملهمة في الإدارة المجتمعية، وتكافل شعبي يتجاوز كل الحدود الجغرافية والمادية. إنها تذكير قوي بأن أعظم الإنجازات يمكن أن تُصنع عندما يتحد الإيمان، والإيثار، والعمل الجماعي التلقائي، لتُقدم للعالم نموذجاً حياً على أن "المستحيل" يمكن أن يصبح حقيقة ملموسة عندما تُسخر القلوب والعقول لخدمة قضية نبيلة ومعنى أسمى.

اضف تعليق