إن زيارة الأربعين، بما تحمله من طاقة إيمانية وروحية هائلة، قادرة أن تكون منبرًا عالميًا ليس فقط للحرية والعدالة، بل أيضًا للوعي البيئي. ولن يكون غريبًا أن تتحول كربلاء، التي تستقبل كل هذه القلوب، إلى مدينة تستقبل أيضًا الأفكار الخضراء، والمبادرات المستدامة...

تُعد زيارة الأربعين واحدة من أكبر التجمعات البشرية في العالم، إذ يمشي ملايين الزائرين من شتى بقاع الأرض باتجاه كربلاء، إحياءً لذكرى الإمام الحسين (عليه السلام). هذا الحدث السنوي الهائل يحمل في طيّاته رسائل دينية وروحية واجتماعية عظيمة، لكن هناك زاوية أخرى غالبًا ما يتم تجاهلها، وهي الزاوية البيئية.

قد لا يبدو الحديث عن البيئة في سياق ديني أمرًا شائعًا، لكن الواقع يفرض نفسه. ففي ظل التحديات المناخية والتلوث البيئي المتزايد، لم يعد من المقبول النظر إلى أي تجمع بشري بهذا الحجم من دون تحليل أثره البيئي. السؤال هنا ليس للتقليل من أهمية الزيارة، بل لطرح تساؤل بنّاء: هل تشكّل زيارة الأربعين عبئًا بيئيًا ضخمًا؟ أم أنها فرصة لتحويل القيم الحسينية إلى ممارسات بيئية واعية؟

لنفكّر في الأرقام: ملايين الزائرين، آلاف المواكب، أطنان من الطعام، ملايين قناني المياه البلاستيكية، نفايات عضوية وغير عضوية تُنتج على مدار أيام. الطرق تمتلئ بالأكياس البلاستيكية، العلب، الصحون، والمخلفات المختلفة. ومع أن الخدمة الحسينية تعبّر عن نُبل وعطاء لا يُقاس، إلا أن أثرها البيئي يحتاج إلى وقفة مراجعة جادة.

النفايات البلاستيكية تحديدًا تشكّل تحديًا كبيرًا. معظم الأواني المستخدمة في المواكب هي من البلاستيك الأحادي الاستخدام، والذي يحتاج إلى مئات السنين ليتحلل. تخيّل كم صحنًا وكأسًا وملعقة بلاستيكية تُستهلك يوميًا خلال أيام الزيارة! هذه المواد لا تُعاد تدويرها في الغالب، بل تُرمى في الشوارع، الأنهار، أو تُحرق، ما يضيف عبئًا آخر على البيئة.

لكن ما يثير الأمل هو أن زيارة الأربعين، ببعدها القيمي والأخلاقي، تتيح لنا فرصة عظيمة للتحول نحو الاستدامة. فالإمام الحسين (عليه السلام) لم يُجسّد فقط قيم الشجاعة والتضحية، بل كان أيضًا نموذجًا للوعي والمسؤولية. هذا الوعي يمكن أن يُترجم اليوم إلى سلوك بيئي ينسجم مع روح الثورة الحسينية.

هناك نماذج بدأت بالفعل تظهر على استحياء. بعض المواكب شرعت باستخدام أوانٍ قابلة للتحلل أو أدوات معدنية يعاد استخدامها. مواكب أخرى بدأت تعتمد على تقليل الهدر في الطعام عبر تنظيم التوزيع، والتخطيط المسبق للعدد. شباب متطوعون ينظفون الطرق يوميًا بعد انصراف الزائرين. هذه المبادرات رغم بساطتها تُعد بداية لتشكيل ثقافة بيئية دينية جديدة.

كما يمكن استثمار الخطاب الديني نفسه لتعزيز هذه القيم. خطباء المنبر الحسيني قادرون على إيصال رسائل توعوية ترتبط بالسلوك البيئي، من منطلق ديني وأخلاقي. فالاعتناء بالأرض، وعدم الإسراف، والنظافة، كلها قيم أصيلة في الإسلام، ويمكن ربطها مباشرة بسلوكيات الزائر والخادم خلال الأربعين.

الدولة أيضًا لها دور مهم، إذ يمكنها إطلاق حملات وطنية تحت شعار "زيارة خضراء"، توفر من خلالها أكياساً قابلة للتحلل، وتضع حاويات فرز النفايات، وتدعم المواكب التي تعتمد مواد صديقة للبيئة. كما يمكن أن تُدرج الزيارة ضمن خطة وطنية لرفع الوعي البيئي، على اعتبارها نموذجًا للتعاون المجتمعي يمكن تطويره نحو الاستدامة.

البيئة ليست طرفًا محايدًا في حياتنا. إنها الوعاء الذي يحتضن كل تفاصيلنا، حتى شعائرنا. وإذا كنا نريد أن تبقى هذه الزيارة حيّة في ضمائر الأجيال القادمة، فعلينا أن نحافظ على البيئة التي تحتضنها.

إن زيارة الأربعين، بما تحمله من طاقة إيمانية وروحية هائلة، قادرة أن تكون منبرًا عالميًا ليس فقط للحرية والعدالة، بل أيضًا للوعي البيئي. ولن يكون غريبًا أن تتحول كربلاء، التي تستقبل كل هذه القلوب، إلى مدينة تستقبل أيضًا الأفكار الخضراء، والمبادرات المستدامة.

فهل سننتظر حتى تختنق الأرض بنفاياتنا، أم نبدأ اليوم بثورة خضراء… تُشبه ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)؟

اضف تعليق