السلوك ليس وحده كافيًا لتشخيص حقيقة الإنسان، بل لا بدّ من النية والإدراك الواعي وراء السلوك، وهنا تلتقي معطيات علم النفس الاجتماعي الحديث مع مبادئ الإسلام التربوية، حيث يؤكد الطرفان أنّ الإنسان ليس مجرد انعكاس سلبي للبيئة، بل هو فاعل أخلاقي مسؤول يستطيع أن يتحرر من الضغوط الخارجية...
إنّ التعمّق في فهم العقل البشري، وتحليل أساليب تفكيره وإدراكه للعالم المحيط به، هو مسعى معقّد ومتشعّب، لكنه في الوقت نفسه ممتع وضروري، لا سيّما حين نبحث عن رؤية تُقارب هذه القضايا من خلال منظورٍ إيمانيّ يتكامل فيه العلم الحديث مع نور الوحي.
لقد أثبتت الدراسات التجريبية التي أُجريت في بيئات اجتماعية مشابهة لمجتمعاتنا، أن العوامل والظروف المحيطة بالإنسان تمارس تأثيرًا جوهريًا في تكوين شخصيّته وسلوكه، من مرحلة الطفولة إلى المراهقة، ومن ثم إلى الرشد وما بعده. وهذه الحقيقة لم تكن غائبة عن الوحي، فالقرآن الكريم حين أشار إلى مراحل تدرّج الإنسان في الحياة، بيّن أن النشأة الأولى وما يليها من أطوار، تخضع لسننٍ إلهية تحكم تطور الإدراك والسلوك:
(ٱللَّهُ ٱلَّذِی خَلَقَكُم مِّن ضَعۡفࣲ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ ضَعۡفࣲ قُوَّةࣰ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةࣲ ضَعۡفࣰا وَشَیۡبَةࣰ ۚ یَخۡلُقُ مَا یَشَاۤءُ ۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِیمُ ٱلۡقَدِیرُ) [الروم: 54].
كما تشير الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) إلى أهمية البيئة والأسرة والمجتمع في صناعة شخصية الإنسان. فقد ورد عن الإمام علي عليه السلام:
"العلم في الصغر كالنقش في الحجر"
في إشارة إلى أن الطفولة مرحلة تأسيسية تترك آثارًا بعيدة المدى في تكوين الذهن والسلوك.
ولا غرابة أن تؤثر البيئة في الإنسان، فإن وجوده مزيج من قابليات فطرية وواقع اجتماعي يطبع شخصيته بما يزرعه فيه. وقد أشار علماء الاجتماع والنفس إلى أن الأفراد كثيرًا ما يتفاعلون مع الواقع المحيط بما يناسب ضغط المجتمع لا قناعاتهم الذاتية، وهو ما نلاحظه في بعض التصرفات التي لا تعبّر بدقة عن المعتقد أو الميل الحقيقي، بل تمثل استجابة ظرفية أو لاواعية.
وفي ضوء هذه الرؤية، يبرز تساؤل مهم:
هل سلوكنا ومواقفنا وكلماتنا تعكس حقيقة شخصيّتنا الداخلية؟
هل نعي معتقداتنا ومشاعرنا وميولاتنا بوضوح، أم أنّنا نتحرّك في كثير من الأحيان بشكل لا إرادي وتلقائي؟
إن هذه التساؤلات ليست مستحدثة، بل نجد جذورها في دعوة القرآن الكريم إلى التفكر في النفس:
(وَفِیۤ أَنفُسِكُمۡ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ) [الذاريات: 21].
فالقرآن يلفت نظر الإنسان إلى ضرورة أن يتأمّل في ذاته، ليكشف حقيقة ما فيه، لا ما تُمليه عليه الضغوط أو المؤثرات الخارجية. كما أن السنّة الشريفة تحث على محاسبة النفس ومراقبة الباطن، فقد ورد عن الإمام الكاظم (عليه السلام):
"ليس منّا من لم يُحاسب نفسه في كلّ يوم، فإن عمل خيرًا استزاد، وإن عمل شرًا استغفر الله وتاب إليه."
وبذلك يتكامل البُعد النفسي مع البُعد الإيماني: فالسلوك ليس وحده كافيًا لتشخيص حقيقة الإنسان، بل لا بدّ من النية والإدراك الواعي وراء السلوك، وهنا تلتقي معطيات علم النفس الاجتماعي الحديث مع مبادئ الإسلام التربوية، حيث يؤكد الطرفان أنّ الإنسان ليس مجرد انعكاس سلبي للبيئة، بل هو فاعل أخلاقي مسؤول يستطيع أن يتحرر من الضغوط الخارجية إذا ما وعى نفسه وربّى إرادته
الذات بين الإدراك والواقع
١- فهم المشاعر والرغبات في ضوء الإسلام وعلم النفس الاجتماعي:
تُعدّ النفس الإنسانية أعقد المخلوقات في بنائها الداخلي، حيث تتداخل في تكوينها الأبعاد العقلية والوجدانية والغريزية والروحية. ولهذا، فإن ما يؤمن به الإنسان من أفكار، وما يشعر به من مشاعر، وما يسعى إليه من رغبات، لا يعكس بالضرورة حقيقة ذاته الكاملة أو جوهر شخصيته الواقعية.
٢- الإدراك الذاتي بين الحقيقة والوهم:
كثيرًا ما يتوهّم الإنسان أنه يعرف نفسه معرفة تامة، في حين أن الإسلام والعلوم النفسية الحديثة يؤكدان وجود فجوة بين الإدراك الذاتي والواقع النفسي. قد يرى الإنسان نفسه قويًّا، سعيدًا، متحررًا، في حين أنه يرزح في داخله تحت أثقال من الهمّ والاضطراب أو التناقضات النفسية التي لم يواجهها بعد. يقول الإمام علي (عليه السلام):
"من لم يعرف نفسه، بعد عن سبيل النجاة" [نهج البلاغة، الحكمة 126].
وهذا يحفّز الإنسان على التفكر الذاتي كطريق لاكتشاف حقيقة النفس، لأن إدراك الذات مقدّمة أساسية لإصلاحها وتزكيتها.
٣- السعادة: المعنى الحقيقي في ضوء القرآن والسنة:
من أبرز ما يشغل النفس البشرية هو السعي نحو السعادة، لكن المفهوم نفسه محاط بالغموض والتنوع في الفهم. يرى البعض أن السعادة في المال، أو السلطة، أو المتعة الحسية، بينما يربطها آخرون بالرضا الداخلي والسكينة الروحية.
في المنظور الإسلامي، ترتبط السعادة الحقيقية بالطمأنينة القلبية والرضا بالله، لا بالمظاهر أو المتع الزائلة. قال تعالى:
(أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28]،
فهذا الذكر ليس مجرد ألفاظ تُردد، بل حالة وجودية من الارتباط الدائم بالمطلق، مصدر الأمن والسلام.
وقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):
"إن من نعم الدنيا سعة الرزق، وأعظم منها صحة الجسد، وأفضل من ذلك تقوى القلب" [غرر الحكم: 10241].
فالسعادة إذًا ليست غاية مستقلة، بل ثمرةٌ من ثمار التقوى والرضا الإلهي.
٤- الرغبات والانفعالات: بين الفطرة والانحراف:
جعل الله في الإنسان ميولًا فطرية نحو الخير والجمال والحب، وهذه الميول –إذا وُجهت بشكل سليم– تصبح وسيلة للتكامل، لكنها قد تنقلب إلى دافع نحو التدمير الذاتي إن استُغلّت بشكل منحرف.
قال تعالى:
(فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) [الشمس: 8–10]،
فالذات الإنسانية قابلة للتزكية كما هي قابلة للتدسية، والفيصل هو وعي الإنسان بمصدر انفعالاته ومرجع رغباته.
٥- أثر الذكريات والتجارب في تشكّل الذات:
علم النفس الاجتماعي يُشير إلى أن الذاكرة العاطفية تؤثر بشكل مباشر على القرارات والسلوكيات. والمثير أن الإسلام نبّه إلى هذا الأمر في سياق الحث على مراجعة النفس ومحاسبتها، بل جعل التفكر والتذكر من وسائل النجاة.
عن الإمام الصادق (عليه السلام):
"تفكر ساعة خير من عبادة سنة" [الكافي، ج2، ص55]،
أي أن استدعاء التجارب وتحليلها بوعي وهدوء يساعد على فهم الذات وتطهيرها من آثار الصدمات.
ويقول تعالى في موضع آخر:
(وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [إبراهيم: 5]،
فالتذكّر في ضوء الإيمان يُشكل أداة علاجية تعيد للإنسان توازنه النفسي.
٦- المعالجة النفسية في الإسلام: الدعاء والتوكل والتأمل:
يرى الإسلام أن التوازن النفسي لا يتحقق إلا بربط القلب بالله تعالى، والتوكل عليه، وطلب المعونة منه. فالنفس المطمئنة ليست هي التي خلت من الألم، بل هي التي وجدت في الله عزاءها وسندها.
قال الإمام زين العابدين (عليه السلام):
"إلهي لا تؤدبني بعقوبتك، ولا تمكر بي في حيلتك... ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدًا" [دعاء أبي حمزة الثمالي]،
وفيه تعبير دقيق عن حاجة النفس المستمرة إلى الهداية والرعاية الإلهية كي لا تضل عن حقيقتها.
الخلاصة:
إنّ علم النفس الاجتماعي الإسلامي لا يفصل بين الإدراك الذاتي والتزكية، ولا بين الانفعال والفطرة، ولا بين الذاكرة والوعي. بل ينظر إلى الإنسان ككائن مركّب، لا تتحقق سعادته إلا بمعرفة نفسه وربه معًا. فالفصل بين الإدراك والواقع يتطلّب وعيًا وتفكرًا دائمين، ويُعالج بذكر الله، والتأمل، والمراجعة الصادقة، والدعاء، والمجاهدة.
قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) [الحديد: 28].
اضف تعليق