بعد مرور ما يقرب من 250 عاما على تقديم سميث لمفهوم التخصص، لا يزال هذا المفهوم يشكل إحدى السمات الرئيسية التي تميز اقتصاداتنا. لكنه أيضا خضع لتغيير عميق. فهو في تراجع جزئي في الاقتصاد العالمي، مع تصاعد المخاطر المتصورة التي قد تترتب على الاتكالية المتبادلة. لن يقلل الذكاء الاصطناعي...
بقلم: مايكل سبنس
ميلانو ــ يصادف العام المقبل الذكرى الخمسين بعد المائتين للتصديق على إعلان الاستقلال، وثيقة الولايات المتحدة الأميركية التأسيسية. لكن وثيقة تأسيسية أخرى، أساسية لفهمنا للاقتصاد، ستصل إلى ذات الـمَـعـلَـم في عام 2026: كتاب آدم سميث "ثروة الأمم". وفي هذا الوقت الذي يشهد تحولا اقتصاديا وبنيويا سريعا، تستحق الرؤى الواردة في هذا الكتاب أن نعيد النظر فيها.
وهنا تبرز اثنتان من هذه الرؤى. الأولى مفادها أن "يد الأسواق الخفية" تخصص الموارد بكفاءة، طالما توفرت شروط معينة ــ بما في ذلك وجود عملة مستقرة، ودرجة من الثقة والاستقامة الأخلاقية بين القوى الاقتصادية الفاعلة، وحقوق ملكية يمكن التعويل عليها. أما العوامل الخارجية (الأثر غير المسعّر الذي تخلفه الأنشطة التي يزاولها كيان ما على الآخرين) والفجوات المعلوماتية وأوجه عدم التماثل، فتعمل على تقليص كفاءة اليد الخفية وأدائها.
تتلخص الرؤية الثانية، التي ربما تكون الأكثر أهمية، في أن كفاءة الاقتصاد وإنتاجيته تتعززان بفعل "تقسيم العمل"، المعروف اليوم بمسمى "التخصص". يجد الاقتصاد المتخصص الدعم والتمكين في جيوب مختلفة من المعرفة والخبرة، والتي تستفيد من اقتصادات الحجم الكبير، والتعلم، وحوافز الإبداع الـمُـعَـزّزة. وبما أن التخصص لا يعمل في غياب طريقة تبادل فَـعّالة بدرجة معقولة، فإنه يعتمد على يد سميث الخفية. ومع تقدم التخصص، يزداد أيضا تعقيد الاقتصاد.
ولكن، كما أشار سميث، فإن التخصص محدود بما يسمى "مدى السوق": فالسوق الصغيرة لا يمكنها خلق القدر الكافي من الطلب للحفاظ على مجموعة واسعة من الأعمال المتخصصة. لهذا السبب، عملت التحسينات التي طرأت على روابط النقل والاتصالات، والتي تقلل من تكلفة التعامل مع سوق آخذة في الاتساع، على تمكين قدر أعظم من التخصص.
يتمثل قيد محتمل مهم آخر على التخصص في المجازفة التي يولدها حتما. فبما أن أنماط التخصص في الاقتصاد بنيوية، فإنها تستغرق وقتا قبل أن تتغير. لذا، إذا تعطل النظام التجاري، أو أصبحت مهارات أو صناعات بعينها متقادمة (مثل الابتكارات التكنولوجية أو أنماط الطلب المتغيرة)، يجب أن يمر الأفراد، والشركات، وحتى اقتصادات بأكملها بمرحلة انتقالية، والتي قد تكون صعبة ومطولة.
في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، عندما أصبحت الاقتصادات أكثر تخصصا، ظهرت على نحو تدريجي سياسات، ومؤسسات، وشروط مختلفة ــ من مكافحة الاحتكار إلى شبكات الأمان الاجتماعي إلى صيانة استقرار الاقتصاد الكلي والاستقرار النقدي ــ للتخفيف من المخاطر المرتبطة بالأمر. لكن هذه الحلول كانت تُـدار إلى حد كبير على المستوى الوطني، وبعد الحرب العالمية الثانية، أصبح التخصص عالميا.
الواقع أن ما بدأ كوسيلة لدعم التعافي الاقتصادي في فترة ما بعد الحرب سرعان ما أصبح تحولا شاملا. فقد أصبحت الإمبراطوريات الاستعمارية وهياكلها الاقتصادية غير المتماثلة مهجورة، وأفسحت الإمبريالية التجارية المجال للتجارة الحرة. إذا أضفنا إلى ذلك التقدم في تكنولوجيا النقل والاتصالات، الذي تسارعت وتيرته بفعل الثورة الرقمية، فسوف نفهم كيف انحَـلّ القيد الأول على التخصص ــ "مدى السوق" ــ على هذا النحو الجوهري.
من منظور الاقتصادات النامية، كان ذلك مغيرا لقواعد اللعبة. فبسبب انخفاض نصيب الفرد فيها من الناتج المحلي الإجمالي، لم تستطع توليد القدر الكافي من الطلب المحلي للاستفادة من مكاسب الكفاءة والإنتاجية الناتجة عن التخصص. ولكن بمجرد أن تمكنت هذه الاقتصادات من الوصول إلى الأسواق والتكنولوجيات الأجنبية، استفادت من مزاياها النسبية وحققت نموا سريعا في الناتج المحلي الإجمالي. وهكذا اقترن التخصص المتزايد بتحول جغرافي في النشاط الاقتصادي.
تجاوزت الاضطرابات البنيوية الناتجة عن ذلك تطور هياكل الحوكمة القادرة على التخفيف من المخاطر المتنامية. ولفترة من الزمن، لم يكن هذا الأمر يبدو على قدر كبير من الأهمية: ذلك أن الاقتصادات المتقدمة، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية، ظلت تتولى الحوكمة الاقتصادية الدولية، فوضعت القواعد وقدمت الرعاية للمؤسسات التي أبقت على استمرار النظام. ولكن، في نهاية المطاف، بلغ تحول القوة الاقتصادية العالمية نقطة تحول: فقد خفّت قيود الطلب المفروضة على التخصص إلى الحد الذي دفع القيود المفروضة على المخاطر إلى الظهور. مع ازدياد وضوح الاضطرابات البنيوية، تعمق الإحباط الشعبي عبر مختلف الاقتصادات المتقدمة، فأفضى هذا إلى ردة فعل اجتماعية وسياسية عنيفة. ثم توالت بعد ذلك سلسلة من الصدمات المتكاثرة ــ تصاعد التأثيرات المناخية، وجائحة كوفيد-19، والحرب في أوكرانيا وغزة، وتصاعد التوترات الجيوسياسية ــ ليتعزز هذا التحول. ثم عملت عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، بسياسته الخارجية التي ترفع شعار "أميركا أولا" وتفضيله لعقد الصفقات الثنائية، على ترسيخه.
نتيجة لكل هذا، تنظر بلدان عديدة الآن إلى الأمن الاقتصادي على أنه مرتبط على نحو وثيق بالأمن الوطني: ففي حين لا يزال التخصص قائما داخل الاقتصادات، فإنه ينقلب جزئيا في الاتجاه المعاكس على المستوى الدولي. وعلى الرغم من استحالة معرفة إلى أين قد تقودنا هذه العملية على وجه التحديد، فبوسع المرء أن يتوقع عواقب سلبية تتحملها الإنتاجية والنمو ــ والتي تشكل في واقع الأمر ثمن زيادة المرونة وانخفاض المخاطر. وسوف تكون البلدان الأقل قدرة على توليد الطلب المحلي ــ سواء بسبب انخفاض نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي أو صغر حجم السكان ــ هي الأشد معاناة، وسوف يتوقف حجم خسائرها على مدى قدرتها على الوصول إلى الأسواق العالمية.
لكن نموذج التخصص الذي تحدث عنه سميث قد يواجه قريبا تحولا أكثر جوهرية. لنتذكر أنه يقوم على إنشاء جيوب من المعارف والخبرات المحددة التي لا يمكن اكتسابها أو نقلها بسهولة. ولكن يبدو أن نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي، بين تأثيراتها العديدة، في طريقها الآن إلى تقديم الخبرة في أي مجال تقريبا، لأي شخص يريدها، بتكلفة شديدة الانخفاض.
والعواقب المحتملة بعيدة المدى. فإذا أصبحت الخبرة أقل ندرة، سينخفض ثَـمَـنُـها. والمعرفة والمهارات التي يظل من الصعب نقلها ــ ولنقل لأنها لا يمكن وصفها أو توثيقها بسهولة ــ هي فقط التي ستزداد قيمة. بعبارة أخرى، قد لا تساوي حصة كبيرة من رأس المال البشري في مرحلة ما في المستقبل ما كانت عليه في السنوات الخمسين والمائتين الأخيرة، لكن حصة أخرى قد تصبح قيمتها أكبر كثيرا. والسؤال الذي يجب بحثه الآن هو إلى أي مدى قد يكون حجم كل من هذه الحصص كبيرا.
بعد مرور ما يقرب من 250 عاما على تقديم سميث لمفهوم التخصص، لا يزال هذا المفهوم يشكل إحدى السمات الرئيسية التي تميز اقتصاداتنا. لكنه أيضا خضع لتغيير عميق. فهو في تراجع جزئي في الاقتصاد العالمي، مع تصاعد المخاطر المتصورة التي قد تترتب على الاتكالية المتبادلة. لن يقلل الذكاء الاصطناعي من التخصص في الأرجح، لكنه من خلال تغيير معادلة نقل المعرفة، قد يتسبب في تغيير أسعار رأس المال البشري النسبية المرتبط بمختلف أنماط المعرفة المتخصصة.
اضف تعليق