الرأي العام هو الذي تحتاجه بلادنا، وتحديداً؛ العراق الذي يعيش الازمة الثقافية قبل الازمة السياسية او الاقتصادية، فهو بحاجة الى جرعات وعي بمواصفات عالية، مع توسيع مساحة هذه الشريحة في المجتمع ليكون لدينا رأي عام واعي ذو حصانة منيعة ضد الاكاذيب والحقائق المشوهة، ومحاولات إثارة المشاعر والغرائز...
مفردة "قضية" مستعارة من القضاء، فهي مصطلح قانوني يشير الى وجود مخالفة قانونية يستدعي من الفرد أو الجماعة –مؤسسات او هيئات او نقابات- لرفع "دعوى قضائية على مرتكب المخالفة او الجريمة بغية إصدار الحكم العادل، وربما لاسباب لغوية تتعلق بسهولة اللفظ، او نفسية تتعلق بقوة المفردة و وقعها على المخاطب والطرف الآخر، نجد لها رواجاً في الاستخدام الإعلامي والثقافي رغم عدم توفر علاقة وثيقة لها بالقضاء والقانون، مثل؛ "قضية الفقر"، و"قضية التعليم"، وما اشبه.
وفي الوقت الحاضر نشهد –في العراق- توظيفاً جديداً لهذه المفردة عندما يقع حادث على صفيح سياسي ساخن كالانتخابات التي نترقبها، و تكون الحاجة لتعبئة جماهيرية عامة ضد طرف لمصالحة طرف آخر، نسمع بـ "قضية رأي عام"، لنقل الحدث من أبعاده المحدودة؛ شخصياً، او عائلياً، الى دائرة أوسع تشمل اكبر عدد من الناس، بما يشبه نوعاً من فرض التضامن –إن جاز التعبير- لإعطاء الحدث أبعاداً أوسع، ومن ثم؛ تأثيرات و مردود أكبر.
ومن الناحية النفسية، فان أي انسان يتعرض لغبن في دائرة حكومية، او إهمال في مستشفى، او إزالة بيوت عشوائية (تجاوز)، او عدم حصوله على وظيفة حكومية، فانه يرغب بتعميم حالته على الجميع طلباً للتضامن لتحقيق ما يريد، فيقول "إن قضيتي هي قضية رأي عام".
وقد أجمع أساتذة الإعلام على تعريف الرأي العام بما مجمله؛ أنه تفاعل او اتفاق مجموعة من الناس حول فكرة أو قضية واحدة يعدونها ذات مدخلية في حياتهم، وربما تكون مصيرية، و يرى باحثون تأثيراً لمستوى الوعي والتعليم لدى هذه المجموعة المتفاعلة على قوة رأيهم العام في تحقيق المطلوب، او مواجهة مشكلة ما.
ولعل مفهوم الرأي العام يكون رديفاً لمفهوم الخبر في الإعلام بأنه "الحدث الذي يحظى بأهمية لدى أوسع شريحة من المخاطبين"، وإلا يكون حدثاً شخصياً يتعلق بفرد في المجتمع، وفي اليوم والليلة تقع آلاف الحوادث في الشوارع والبيوت وأماكن العمل دون أن تتحول الى خبر صحفي تتناقله وسائل الاعلام.
بالمقابل نجد ثمة أحداث تقع في جميع أنحاء العالم لها آثار على جماعات واسعة من الناس، مثل الوباء بسبب التلوث من مخلفات المصانع، أو العنف الأسري، او قضايا كبرى مثل؛ الأمن ومواجهة مخاطر خارجية، أو تهديد الأمن الغذائي والاقتصادي بسبب شروط مجحفة على القروض من البنك الدولي او صندوق النقد الدولي، هذه وغيرها تشكل محوراً لالتقاء أفكار ومواقف الناس ويكون لدينا رأياً عاماً، لذا نجد التظاهرات الاحتجاجية او الاضرابات لمواجهة قرارات جائرة او الحصول على حقوق معينة.
بيد أن ما يشغل الباحثين في هذا الشأن؛ مستوى الوعي والثقافة لدى الجمهور المتفاعل وصاحب الرأي الموحد على قضية ما، فكلما كان منسوب الوعي أعلى كانت الضمانة اكثر لتحقيق واحدة من وظائف الرأي العام وهي: "رعاية المثل الأخلاقية في المجتمع، والوقوف ضد انتهاكها، ومن شأنه ايضاً التأثير في سن القوانين او إلغائها كونها ضماناً للنظم الاجتماعية، وتعبيراً عن رغبات الرأي العام، وهو ما نشهد في البلاد الملتزمة بالنمط الديمقراطي للحكم". (علم الاتصال- الدكتور فلاح كاظم المحنة)
ومن اجل هذا فقد حدد صاحب المؤلف المشار اليه، الثقافة كأحد أنواع ومعايير الرأي العام نظراً لمدخلية الثقافة في عنونة الجماعات والافراد، او ما يسمى بـ "الهيكل الاجتماعي" الذي يرى علماء الاجتماع أنه "مرتبط ارتباطاً عضوياً بالحياة الثقافية ويشكل تعبيراً عن القيم الثقافية المعترف بها".
والرأي العام الثقافي بدوره يتفرع الى ثلاث أنواع: "الرأي العام القائد، ويمثله قادة الرأي من زعماء سياسيين ورؤساء قبائل، ورجال دين، والنوع الثاني: الرأي العام المنقاد، وتمثله الاكثرية الساحقة من الامة لكونه ينقاد من قبل النوع الأول، ويخضع لسيطرة وسائل الاعلام والدعاية، أما النوع الثالث: فهو الرأي العام القارئ، او المثقف، ويمثله المتعلمون والمثقفون"،
وهذا النوع من الرأي العام هو الذي تحتاجه بلادنا، وتحديداً؛ العراق الذي يعيش الازمة الثقافية قبل الازمة السياسية او الاقتصادية، فهو بحاجة الى جرعات وعي بمواصفات عالية، مع توسيع مساحة هذه الشريحة في المجتمع ليكون لدينا رأي عام واعي ذو حصانة منيعة ضد الاكاذيب والحقائق المشوهة، ومحاولات إثارة المشاعر والغرائز بما يجعله مؤثراً في اجراءات حكومية، أو في أحكام قضائية تهم شريحة واسعة من الناس.
وجديرٌ ذكره؛ أن الرأي العام الناجح هو الممتد مع الزمن، ولن تخبو جذوته حتى تغيير الواقع الفاسد، او حل المشكلة الكبيرة في البلد مثل مشكلة الأمن، والسيادة، والمياه، وهي قضايا لا تختص بفئة او شريحة خاصة في المجتمع، بقدر ما تهمّ جماهير الشعب بأكمله، لذا تستحق أن تكون "قضية رأي عام" يرفع رايتها المثقفون والعلماء والحكماء.
اضف تعليق