رسم لوحة فريدة للقدوة المتكاملة، عنوانها اللطف، وركيزتها الإيمان، وميدانها البيت الذي تنبعث منه أنفاس الرَّحمة والسَّكينة. في ظلِّ ضجيج الماديات، حافظ على بيت ينبض بالقيم، تتعانق فيه الكلمة الطيِّبة مع البسمة الصَّادقة، ويتساوى فيه الكبير والصغير في الكرامة والمكانة. ولم يكن وجوده بين أفراد أسرته حضورًا عابرًا...
لم تكن الأسرة في حياة الرَّسول الأعظم محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) وأهل بيته الطَّاهرين (عليهم السلام) رابطة نسبيَّة تحفظ الأنساب فحسب، وإنَّما كانت موئلًا للرَّحمة، ومجالًا خصبًا لنموّ الإيمان، وتربيَّة القلوب على محبَّة الله (تعالى) والسَّير على صراطه المستقيم. ولقد رسم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في سلوكه العائلي أرقى لوحة للأبوة، التي لا تقوم على التَّسلُّط أو فرض الهيبة؛ بل على العطف الممزوج بالإجلال، والحنان الممزوج بالتَّوقير؛ فحين تدخل السيِّدة فاطمة الزَّهراء (عليها السلام) عليه، كان ينهض لها، ويقبِّل يدها الطَّاهرة، ويُجلسها في مجلسه. وحين يرى الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام)، لا يتردد في أن يقطع خطبته، وينزل من منبره، ليحتضنهما ويضمَّهما إلى صدره؛ ليروي عطش الأبوة، وليعلِّم الأجيال أنَّ الأسرة حضنٌ يُنشئ الأبطال ويُربِّي الأولياء والصَّالحين.
ومن اللافت للنظر أنَّ هذا الحضور العاطفي الكبير، وتلك المساحة الرَّحبة من الحنان والاحتواء، كانت جزءًا من منهجٍ تربويٍّ مدروس، أراد من خلاله النَّبي الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) أن يغرس الإيمان في القلوب، من خلال الحبِّ الذي يلامس الأعماق، والقدوة التي تُخاطب الفطرة؛ فالرسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) كان يصوغ بهذا الأسلوب المفعم بالمحبَّة ملامح أمَّة بأكملها، ليقول لها: هكذا تُبنى البيوت التي تنبثقُ منها أنوار الهداية. وأنَّ طريق الإيمان وبناء النُّفوس يبدأ من كلمةٍ طيِّبة، وسلوكٍ يجعل من البيت مدرسةً لبناء العظماء.
وقد سار الأئمة الطَّاهرون (عليهم السلام) على هذا النَّهج النبوي المبارك، فحملوا شعلة الرَّحمة في بيوتهم كما حملوا لواء الدِّين في الأمَّة. وكانت العلاقة بين الآباء والأبناء لغة الحبِّ التي تسري في كلماتهم، وإشراقة الإحساس النَّبيل التي تحيط بمواقفهم، كما تحيط الرَّحمة الإلهيَّة بعباده.
تأمَّلوا مثلًا، كيف يتحدَّث أمير المؤمنين (عليه السلام) مع ولده الإمام الحسن (عليه السلام) في وصيَّته الخالدة، فيقول: "وَجَدْتُكَ بَعْضِي بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي حَتَّى كَأَنَّ شَيْئاً لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي وَكَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي"(1).
ما أعجب هذه اللغة!
وأي أبوة هذه التي تنبع منها المحبَّة بكلِّ هذا الصَّفاء، وتفيض من كلماتها حرارة العاطفة الصَّادقة! أبوة ترى في الابن حياةً تمسُّ الحياة، وكأنَّ الألم إذا أصابه أصاب والده، وكأنَّ الموت إذا دنا منه زلزل كيان الأب من أعماقه.
وحين نفتح الصَّحيفة السَّجاديَّة للإمام زين العابدين (عليه السلام)، نجد دعاءً كاملًا خصَّصه لأولاده، يقطر من جوانبه الإحساس بالمسؤوليَّة، وتنبض به عبارات التضرع، وكأنَّ الأب يجعل صلاح ذريته جزءًا من عبادته، وسطرًا من سطور ولايته.
لقد أراد (عليه السلام) أن يُفهمنا من خلال ذلك الدُّعاء العميق، أنَّ الاهتمام بالأسرة هو عبادة قائمة، وطريق موصل إلى الله (تعالى)، ومدرسة تتربَّى فيها القلوب قبل أن تُربَّى فيها الأجساد.
والآن، دعوني أُطلُّ عليكم ببعضٍ من كلمات الدُّعاء المبارك، لنرى كيف تصوغ الإمامة شعور الأبوة بلغةٍ لا تشبه إلَّا النُّور: "أللَّهُمَّ وَمُنَّ عَلَيَّ بِبَقَاءِ وُلْدِي، وَبِإصْلاَحِهِمْ لِي، وَبِإمْتَاعِي بِهِمْ. إلهِي أمْدُدْ لِي فِي أَعْمَارِهِمْ، وَزِدْ لِي فِي آجَالِهِمْ، وَرَبِّ لِي صَغِيرَهُمْ وَقَوِّ لِي ضَعِيْفَهُمْ، وَأَصِحَّ لِي أَبْدَانَهُمْ وَأَدْيَانَهُمْ وَأَخْلاَقَهُمْ، وَعَافِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي جَوَارِحِهِمْ وَفِي كُلِّ مَا عُنِيْتُ بِهِ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَأَدْرِرْ لِي وَعَلَى يَـدِي أَرْزَاقَهُمْ، وَاجْعَلْهُمْ أَبْرَاراً أَتْقِيَاءَ بُصَراءَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ لَكَ وَلأَوْلِيَائِكَ مُحِبِّينَ مُنَاصِحِينَ، وَلِجَمِيْعِ أَعْدَآئِكَ مُعَانِدِينَ وَمُبْغِضِينَ آمِينَ..."(2).
قواعد تربويَّة من سيرة السيد الشيرازي
ومن هذه المدرسة الربَّانية، خرج رجال صدقوا الله (سبحانه)، واحتفظوا في علاقتهم بأسرهم. وفي مقدَّمة هؤلاء العظام في زماننا، يبرز سماحة المرجع الرَّاحل الإمام السيِّد محمَّد الحسيني الشيرازي (رضوان الله تعالى عليه)، الذي عُرف بقلبه الكبير، واهتمامه العميق بأسرته، من باب المحبَّة الأصيلة التي تفيض من روحه المتشبعة بسيرة جدِّه المصطفى (صلَّى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام).
ومن يتأمَّل في سيرته بعين المحبَّة والبحث عن الهداية، سيكتشف بين تفاصيلها الهادئة مجموعة من القواعد التربويَّة العميقة، التي قد تبدو في ظاهرها بسيطة؛ لكنَّها أثمرت أجيالًا من النُّور، وزرعت في القلوب أعظم القيم. ولعلَّ من أبرز هذه القواعد وأكثرها أثرًا في بناء النُّفوس:
القاعدة الأولى: التربية باللين والقدوة.
كان الإمام الشيرازي (قدس الله نفسه الزكية) يعيش بين أسرته بحضور تغمره الرَّحمة، وسلوك يحمل في ملامحه أخلاق جدِّه الرَّسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) في تعامله مع الأهل. وكان قلبًا نابضًا بالعطاء، يمنح كلَّ من حوله شعورًا بالأمان والاهتمام.
وأمَّا سلوكه مع أبنائه وبناته، ومع الأحفاد والصغيرات من حفيداته، فقد كان لوحة صادقة تعكس التربيَّة المحمديَّة، حيث كانت أجواء البيت مفعمة بالدفء، والقلوب تفيض اطمئنانًا، وكلُّ فرد يشعر أنَّ له مكانة خاصَّة في قلبه، تُشعره بالقرب والتَّقدير، من دون حاجة إلى كلمات كثيرة أو مظاهر متكلَّفة.
كان يحمل في قلبه محبَّةً عظيمة لأفراد أسرته، لا يخفيها ولا يقتصد في التَّعبير عنها، وكان يُشعرهم بها في كلِّ لحظة. وكان في إظهار المحبَّة لبناته خصوصًا، صورة مكرّرة لما كان عليه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) مع مولاتنا الزهراء (عليها السلام)؛ حنانٌ ظاهر، وتقديرٌ عالٍ، واحترامٌ يربِّي ولا يُدلل، يرفع من شأن المرأة في البيت بالفعل والسلوك، لا بالكلمات؛ فكان يُجالسهنَّ باهتمام، ويستمع إليهنَّ بكامل حضوره، من موقع المحبِّ الذي يرى في بناته نورًا يجب أن يُصان ويُحتفى به(3).
كان يحترم آراءهن، ويكرم وجودهن، وإذا طلبن النُّصح أعطى من قلبه، وإن سمع منهن رأيًا أنصت له كأنَّما يتلقَّى حكمة من صديق عارف، لا من ابنة صغيرة. ليعلِّم بفعله قبل قوله أنَّ البنت ركنٌ من أركان البيت(4).
ومن شدِّة محبته لأولاده وأحفاده، كان يُلحُّ في دعوتهم إلى زيارته، ولا ينتظر المبادرة، ويهيّئ لاستقبالهم بنفسه، بإصرار نابع من شوقٍ خالص ووجدانٍ حي، وكأنَّ البيت لا يكتمل إلَّا بحضورهم، ولا تكتمل بهجته إلَّا بحديثهم.
ولم يكن في بيته صراخ الغضب، ولا ارتفعت فيه يد للتأديب أو العقاب، فلم يعرف أحد من أطفاله -لا في صغرهم ولا حين كبروا- أنَّ والدهم رفع عليهم يدًا، أو عبَّر عن استيائه بعنف، مع أنَّ بيته كان عامرًا بالأبناء، ومتقاربين في الأعمار، بما قد يقتضي مشقَّة مضاعفة في التربيَّة.
لكنّ سماحة السيِّد، بروحه الرَّحيمة ونظرته النبويَّة، اختار أن يربِّي باللين لا بالشِّدة، وبالقدوة لا بالقسوة، فكان حضوره وحده كافيًا لأن يبثَّ في قلوب أطفاله الهيبة المقرونة بالمحبَّة، والانضباط المغلَّف بالاحترام. ولم يحتج إلى صراخ؛ لأنَّ صمته كان ناطقًا بالحكمة، ولم يحتج إلى عقاب؛ لأنَّ حنانه كان كافيًا ليزرع في نفوسهم الصَّلاح والطَّاعة(5).
القاعدة الثَّانية: مشاركة الحياة اليوميَّة.
ومن أجمل الذكريات التي بقيت حاضرة في وجدان أهله؛ ذلك العمل الذي لازمه حتَّى في شيخوخته وضعفه؛ إذ كان السيِّد (قدس سره)، على الرَّغم من كثرة مسؤولياته واتِّساع مشاغله، لم يكن يغفل عن أسرته، وكان يخصّهم بجزءٍ من يومه المزدحم، يشاركهم فيه الحضور والاهتمام، وربما أعانهم أحيانًا في إعداد الطعام داخل المطبخ، بيدٍ مشغولة بالعطاء وقلبٍ يفيض بالطَّمأنينة. وكان ما يقوم به تعبير صادق عن تواضعه، ووعيه العميق بأنَّ الخدمة تحمل في داخلها محبَّة، وأنَّ العطاء والتَّواجد في التَّفاصيل اليوميَّة للأسرة يمنح الحياة معناها الحقيقي(6). وكان حين يأتيه الضُّيوف، يشارك أهل بيته في إعداد ما يلزم، وحتَّى بعد أن ألمَّت به الجلطة القلبيَّة، قبل أربع سنوات من رحيله، لم يتخلَّ عن هذه العادة. وظلَّ يصرُّ عليها.
وكان إذا اعتلَّ أحد أبنائه، صغر سنُّه أو كبر، يصير هو الممرض والسَّند، والسَّاهر الذي لا ينام. وكان يعيش ألمهم كأنَّه ألم خاص به، ويتابع حالتهم بنفسه، وكأنَّ قلبه لا يهدأ إلَّا إذا رأى في أعينهم الطَّمأنينة(7).
القاعدة الثَّالثة: إشاعة الأجواء الإيمانية في داخل البيت.
من الملامح المضيئة التي تركها الإمام الشيرازي (أعلى الله تعالى مقامه) في مسيرته التربويَّة داخل الأسرة، تلك الخطوة المباركة التي اتَّخذها قبل قرابة عشر سنوات من رحيله، حين أسَّس مجلسًا أسبوعيًّا خاصًّا بنساء العائلة، وكان المجلس مشروعًا توعويًا هادفًا، أراد من خلاله أن يزرع في قلوب بناته وحفيداته وقريباته بذور الخطابة الهادفة، لا سيّما تلك المرتبطة بإحياء الشَّعائر الحسينيَّة المباركة(8).
وكانت هذه المجالس تُعقد في جوٍّ يملؤه الوقار، وتغمره مشاعر التَّشجيع والإيمان؛ حيث تلتقي فيه بنات الإمام وأحفاده وسائر قريباته، وكل من لهنَّ صلة به، في بيئة تُنمي الاستعداد، وتُشعل جذوة الحُبِّ لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام). وفي ختام كلِّ مجلس، كان يخصُّهن بكلمة توجيهيَّة هادئة، تمتزج فيها الحكمة باللطف، ويتلاقى فيها عمق العلم مع دفء المشاعر. وكانت كلماته تسلك إلى القلوب من دون حواجز، وتوقظ العزائم، وتنعش الإيمان، وتمنح السَّامعات زادًا من الوعي والمعرفة.
وكان حين يجلس بينهنَّ، يظهر كالأب الحنون الذي يحتضن أحلام بناته ويرويها بماء المحبَّة الحسينيَّة، محوّلًا كلَّ واحدة منهن إلى سفيرة للولاء، تحمل شعلة الولاء للإمام الحسين (عليه السلام)، نابعة من نبض حي يسري في كيانها، وينتقل بإخلاص إلى الأجيال القادمة.
وكثيرًا ما كان الإمام (رضوان الله تعالى عليه) يُشعل في قلوب أهل بيته الرَّغبة في الاجتماع على الدُّعاء أو ترتيل سور من القرآن الكريم، وكان يشاركهم تلك اللحظات المباركة، ولو لفترة قصيرة، ثمَّ يترك لهم أثر حضوره، وينصرف إلى بقيَّة أعماله، واثقًا أنَّ في مثل هذه المشاركات زرعًا لا يضيع، وتربيةً تبقى آثارها ممتدة(9).
ومن العبادات اليوميَّة التي لم يتخلَّ عنها حتَّى آخر عمره، إقامة صلاة الجماعة في منزله، حيث كان أهله وأولاده وأحفاده يحرصون على الاجتماع خلفه في كلِّ يوم. وكانت تلك اللحظات نور يتربَّى فيها الصغار، ويثبت فيها الكبار، وتتماسك بها الأسرة حول مرجع كان يهديهم في الدُّنيا بسمته وخشوعه، كما سيشفع لهم يوم اللقاء بربِّه، بإذنه (تعالى)(10).
القاعدة الرَّابعة: الحنان مع الأحفاد.
وأمَّا أحفاده الصغار، فكانوا يحتلُّون مكانةً خاصَّة في قلبه. يحبُّهم، ويلاطفهم، ويمازحهم، ويحفظ لكلِّ واحدٍ منهم قصَّة وذكرى، وكأنَّ لكلّ منهم بابًا خاصًا في قلبه لا يُغلق. وكان يُعاملهم من موقع الصَّديق الرَّفيق، ومن يتأمَّل في صوره معهم -المنتشرة في ذاكرة العائلة- سيستدل على تاريخٍ من الحنان، محفوف بالابتسامة، والكلمة الطيِّبة، واللحظة الصَّادقة التي تبقى في الوجدان.
وكان من شدَّة محبَّته للأطفال، لا يسمح لأحد أن يزعجهم أو يُشعرهم بأنَّهم عبء أو إزعاج. ولم يكن يرضى أن تُغلق الأبواب في وجوههم، أو يُنهروا؛ لأنَّهم دخلوا مجلسه. وكان يقولها بسلوكٍ واضح: "هؤلاء هم ضيوف القلب، لا يُغلق الباب دونهم"؛ فكانوا يدخلون ويخرجون عليه في حريَّة تامَّة، مطمئنين أنَّ صدر الجدِّ لا يضيق أبدًا.
ولم يُعرف عنه يومًا أنَّه نهر أحد أحفاده، أو وبَّخهم بصوت مرتفع، وعلى العكس تمامًا، كان إذا رأى أحدًا من الكبار يهمُّ بتأنيب طفل أو زجره، تدخل بلطف حازم، يمنعه عن ذلك، ويوجّهه إلى أسلوب أرق وأرحم. وكان يؤمن أنَّ الطفولة لا تُربَّى بالقسوة، ولا تنضج تحت التهديد؛ وإنَّما يكون ذلك تحت ظلال العطف والرعاية(11).
لقد تربَّى على مائدة أهل البيت (عليهم السلام)، في أجواءٍ كانت الرَّحمة فيها أصل التربيَّة، فكان يرى في كلِّ طفل روحًا طاهرة يجب أن تُصان، لا أن تُخدش بكلمة، أو تُطفأ بنظرة؛ لذلك لم يكتفِ بعدم النهر، وإنَّما جعل بيته مساحة آمنة للأطفال، ينعمون فيها بحريَّة الحركة، وأمان الكلمة.
ومما نقل كذلك أنَّ بيته كان يعجُّ بأفراد العائلة وكثرة الأطفال والزوار، فلا تتوفر غرفة خاصَّة لمطالعاته وكتبه وتأليفاته، وكان بعض كتبه ودفاتره وأقلامه في متناول الأطفال. ولم يكن هناك تمييز أو تشريفات في غرفة مطالعته، التي كانت في الوقت نفسه غرفة نومه؛ إذ كان يسير في بساطة وتواضع. وكان يردد مازحًا: "قلمي مشترك بيني وبين فلان وفلان"، وهو يشير إلى طفلين صغيرين كانا يختطفان قلمه أحيانًا ويمرحان به، وكأنَّ المكان لا يعرف قيودًا بين الكبير والصَّغير(12).
وفي أيَّامه الأخيرة، حين كان التَّعب يلفّ جسده تدريجيًا، جاء أحد أبنائه باقتراح عملي، يُرضي راحة الجميع، وهو إغلاق باب غرفته المؤديَّة إلى ديوانيَّة مجلسه، وفتح باب خاص للأطفال، ليمنعهم من استخدام غرفته كممرّ لهم بين أوقات اللعب والزيارة. لكن السيِّد وبكلِّ تواضع ورقة، رفض هذا الاقتراح قائلًا: "دَعوا الأمور كما هي"(13). وكان هذا الموقف يتجاوز الاعتراض على تغيير المكان، ليكشف عن رؤية ترى في بيت الجدِّ فضاءً مفتوحًا يحتضن الجميع، ويحقُّ لكلِّ طفل أن يشعر بالقرب، وأن يعبر من حيث يشاء، من دون حواجز أو قيود. وكان يرى في هذه البساطة سرًّا من أسرار الحنان الذي ملأ حياته، وأساسًا في بناء أسرة متماسكة تجمعها المحبَّة والودّ.
لقد رسم سماحة المرجع الدِّيني السيِّد محمَّد الشيرازي (رحمة الله تعالى عليه) لوحة فريدة للقدوة المتكاملة، عنوانها اللطف، وركيزتها الإيمان، وميدانها البيت الذي تنبعث منه أنفاس الرَّحمة والسَّكينة. استلهم من سيرة النَّبي الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) جوهر التربيَّة وأسرار القيادة، فكانت داره مأوى للقلوب المتعبة، ومصدر إلهام للمحبين، ومرفأً للباحثين عن الدفء في زمن تكدَّست فيه القسوة وتفرقت فيه العواطف.
في ظلِّ ضجيج الماديات، حافظ على بيت ينبض بالقيم، تتعانق فيه الكلمة الطيِّبة مع البسمة الصَّادقة، ويتساوى فيه الكبير والصغير في الكرامة والمكانة. ولم يكن وجوده بين أفراد أسرته حضورًا عابرًا، بل كان حياةً تفيض حنانًا وتواضعًا وحكمة. فصوته دعاء، ويده عطاء، وعينه رحمة، وخطاه نور يهدي من حوله إلى برِّ الأمان.
اضف تعليق