بدأت قصة الذكاء الاصطناعي للتو، وليس بالضرورة أن تتحول إلى سباق يستأثر فيه الفائز بكل شيء. ولكن في كل من نصف الكرة الشمالي العجوز والجنوب العالمي الشاب، قد تتسبب فجوات التفاوت المدفوعة بالذكاء الاصطناعي في خلق انقسامات دائمة. ومن مصلحة المطورين شخصيا أن يعملوا على ضمان عمل هذه...
بقلم: رين إيتو

طوكيو ــ يرى قادة الذكاء الاصطناعي مثل OpenAI وDebMind أنهم في سباق لبناء الذكاء الاصطناعي العام (AGI): نموذج قادر على أداء أي مهمة فكرية يستطيع الإنسان القيام بها. في الوقت ذاته، ترى الحكومتان الأميركية والصينية أن سباق الذكاء الاصطناعي من أولويات الأمن القومي والتي تتطلب استثمارات ضخمة تذكرنا بمشروع مانهاتن. في كلتا الحالتين، يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي على أنه شكل جديد من أشكال "القوة الصلبة"، لا تتحصل عليه إلا القوى العظمى التي تمتلك موارد حاسوبية هائلة والوسائل اللازمة لتحويلها إلى هيمنة اقتصادية وعسكرية.

لكن هذه النظرة غير مكتملة وعفا عليها الزمن على نحو متزايد. فمنذ أطلقت المنصة الصينية DeepSeek نموذجها المنخفض التكلفة صاحب الأداء التنافسي في وقت سابق من هذا العام، أصبحنا في عصر جديد. فلم تعد القدرة على بناء أدوات الذكاء الاصطناعي المتطورة محصورة في عدد قليل من شركات التكنولوجيا العملاقة. فقد ظهرت نماذج عديدة عالية الأداء في مختلف أنحاء العالم، وهذا يدل على أن إمكانات الذكاء الاصطناعي الحقيقية تكمن في قدرته على توسيع نطاق انتشار القوة الناعمة.

في عام 2024، انتهى عصر نماذج "الأكبر هو الأفضل". ومنذ ذلك الحين، لم يَـعُـد تفوق النماذج يتحدد فقط من خلال الحجم (استنادا إلى مزيد من البيانات وقوة الحوسبة). لم تثبت شركة DeepSeek إمكانية بناء نماذج من الدرجة الأولى دون الحاجة إلى رأس مال ضخم فحسب، بل أثبتت أيضا أن إدخال تقنيات التطوير المتقدمة من الممكن أن يعمل بشكل جذري على تسريع تقدم الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم. أطلق على شركة DeepSeek مسمى "روبن هود إرساء ديمقراطية الذكاء الاصطناعي"، وأثار قرارها بالعمل كمصدر مفتوح موجة من الإبداع.

أفسح الاحتكار من جانب شركة OpenAI (أو احتكار قلة من الشركات) الذي كان سائدا قبل بضعة أشهر فقط المجال لمشهد متعدد الأقطاب وشديد التنافسية. ومنذ ذلك الحين، أصدرت شركة Alibaba (Qwen) وشركة Moonshot AI (Kimi) في الصين نماذج قوية مفتوحة المصدر، كما قررت شركة Sakana AI (شركتي شخصيا) في اليابان فتح مصادر إبداعات الذكاء الاصطناعي، وتستثمر شركة Meta الأميركية العملاقة بكثافة في برنامجها المفتوح المصدر Llama، وتوظف بقوة مواهب الذكاء الاصطناعي من غيرها من رواد الصناعة.

لم يعد التباهي بأداء النماذج المتطورة كافيا لتلبية احتياجات التطبيقات الصناعية. لنتأمل هنا روبوتات الدردشة الآلية القائمة على الذكاء الاصطناعي: فهي قادرة على تقديم إجابات "بنحو سبعين نقطة" على الأسئلة العامة، لكنها تعجز عن تحقيق الدقة أو الجدارة بالثقة بدرجة "99 نقطة" اللازمة لمعظم المهام في العالم الحقيقي ــ من تقييمات القروض إلى جدولة الإنتاج التي تعتمد بشدة على الدراية الجماعية المشتركة بين الخبراء. ومن الواضح أن الإطار القديم، حيث كانت نماذج الأساس يُـنـظَـر إليها بمعزل عن تطبيقات محددة، بلغ منتهاه.

يجب أن يتعامل الذكاء الاصطناعي في العالم الحقيقي مع مهام تبادلية مترابطة، وإجراءات غامضة، ومنطق شرطي، وحالات استثناء ــ وجميعها متغيرات فوضوية تتطلب أنظمة متكاملة بإحكام. وعلى هذا، يجب على مطوري النماذج تحمل قدر أكبر من المسؤولية عن تصميم تطبيقات بعينها، ويتعين على مطوري التطبيقات الانخراط بشكل أعمق مع التكنولوجيا التأسيسية.

لا تقل الأهمية التي يمثلها هذا التكامل لمستقبل السياسية الجغرافية عن أهميته للأعمال التجارية. وينعكس هذا في مفهوم "الذكاء الاصطناعي السيادي"، الذي يدعو إلى تقليص الاعتماد على موردي التكنولوجيا الأجانب باسم استقلالية الذكاء الاصطناعي الوطنية. تاريخيا، كان التخوف خارج الولايات المتحدة يتمثل في أن تكليف مصادر خارجية بتشييد البنية الأساسية الـحَـرِجة ــ محركات البحث، ووسائل التواصل الاجتماعي، والهواتف الذكية ــ مثل شركات وادي السيليكون العملاقة، يعني تكبد عجز تجاري رقمي دائم. وإذا سَـلَـكَ الذكاء الاصطناعي ذات المسار، فقد تتنامى الخسائر الاقتصادية بدرجة هائلة. علاوة على ذلك، يشعر كثيرون بالقلق إزاء "مفاتيح الإيقاف" التي قد تغلق بنية الذكاء الاصطناعي الأساسي الأجنبية المصدر في أي وقت. لكل هذه الأسباب، يُنظر الآن إلى تطوير الذكاء الاصطناعي المحلي على أنه ضرورة أساسية.

لكن الذكاء الاصطناعي السيادي لا يجب أن يعني أن كل أداة يجب أن تُـبنى محليا. في الواقع، من منظور كفاءة التكلفة وتنويع المخاطر، لا يزال من الأفضل مزج ومضاهاة النماذج من مختلف أنحاء العالم. ولا ينبغي للهدف الحقيقي من الذكاء الاصطناعي السيادي أن يكون تحقيق الاكتفاء الذاتي فحسب، بل يجب أن يتمثل الهدف في حشد قوة الذكاء الاصطناعي الناعمة ببناء نماذج يرغب الآخرون في تبنيها طواعية.

تقليديا، كانت القوة الناعمة تشير إلى جاذبية أفكار مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، والصادرات الثقافية مثل أفلام هوليوود، وفي وقت أقرب إلى الزمن الحاضر التكنولوجيات والمنصات الرقمية مثل Facebook (فيسبوك)، أو حتى بشكل أقل وضوحا، التطبيقات المختلفة مثل WhatsApp (واتساب) أو WeChat (وي شات) التي تشكل الثقافات من خلال العادات اليومية. عندما تتعايش نماذج الذكاء الاصطناعي المتنوعة على مستوى العالم، تُـصبِـح النماذج الأكثر انتشارا مصادر للقوة الناعمة المستترة وإن كانت عميقة في الوقت ذاته، نظرا لمدى اندماجها في عملية صنع القرار اليومي من جانب الناس.

من منظور مطوري الذكاء الاصطناعي، سيكون القبول العام أمرا بالغ الأهمية لتحقيق النجاح. يشعر عدد كبير من المستخدمين المحتملين بالقلق بالفعل من أنظمة الذكاء الاصطناعي الصينية (والأنظمة الأميركية أيضا)، بسبب المخاطر المتصورة المتمثلة في الإكراه، والمراقبة، وانتهاك الخصوصية، بين عقبات أخرى تحول دون تبنيها على نطاق واسع. من السهل أن نتخيل أن أنظمة الذكاء الاصطناعي الأكثر جدارة بالثقة هي فقط التي قد تتبناها الحكومات والشركات والأفراد في المستقبل. وإذا تمكنت اليابان وبلدان أوروبا من تقديم مثل هذه النماذج والأنظمة، فسوف تكون في وضع جيد يسمح لها باكتساب ثقة الجنوب العالمي ــ وهو احتمال له عواقب جيوسياسية بعيدة المدى.

إن الذكاء الاصطناعي الجدير بالثقة لا يتعلق فقط بالقضاء على التحيز أو منع تسرب البيانات. ففي الأمد البعيد، يجب أن يجسد أيضا مبادئ تتمحور حول الإنسان ــ تعزيز إمكانات البشر، وليس الحلول محلها. إذا انتهت الحال بالذكاء الاصطناعي إلى تركيز الثروة والسلطة في أيدي قلة من الناس، فسوف يعمل على تعميق فجوات التفاوت ويؤدي إلى تآكل التماسك الاجتماعي.

لقد بدأت قصة الذكاء الاصطناعي للتو، وليس بالضرورة أن تتحول إلى سباق "يستأثر فيه الفائز بكل شيء". ولكن في كل من نصف الكرة الشمالي العجوز والجنوب العالمي الشاب، قد تتسبب فجوات التفاوت المدفوعة بالذكاء الاصطناعي في خلق انقسامات دائمة. ومن مصلحة المطورين شخصيا أن يعملوا على ضمان عمل هذه التكنولوجيا كأداة تمكين جديرة بالثقة، وليس أداة سيطرة متفشية.

* رين إيتو، دبلوماسي ياباني سابق، هو المؤسس المشارك لشركة ساكانا للذكاء الاصطناعي.

https://www.project-syndicate.org/

اضف تعليق