في هذا العصر الذي تتسابق فيه الرقمنة لتخترق كل جوانب حياتنا، ويصبح فيه الذكاء الاصطناعي سيد المشهد، يخرج صوتٌ من قلب جوجل ليصدمنا بحقيقة قد تكون مريرة. محمد جودت، الخبير الذي عاش تجربة العمل داخل هذا الصرح التكنولوجي العملاق، لا يُخفِ قلقه من أن الذكاء الاصطناعي سيُشعل فتيل 'جحيم' يستمر لعقد ونصف في سوق العمل...
في هذا العصر الذي تتسابق فيه الرقمنة لتخترق كل جوانب حياتنا، ويصبح فيه الذكاء الاصطناعي سيد المشهد، يخرج صوتٌ من قلب 'جوجل' ليصدمنا بحقيقة قد تكون مريرة. محمد جودت، الخبير الذي عاش تجربة العمل داخل هذا الصرح التكنولوجي العملاق، لا يُخفِ قلقه من أن الذكاء الاصطناعي سيُشعل فتيل 'جحيم' يستمر لعقد ونصف في سوق العمل، بدايةً من عام 2027، مستهدفاً بشكل مباشر الوظائف المكتبية التي ظنناها بعيدة عن أي تهديد.
هذا التحذير، الذي أطلقه جودت خلال حواره في بودكاست "مذكرات الرئيس التنفيذي"، يرسم لنا لوحةً قاتمةً لمستقبلٍ تتسع فيه فجوات اللامساواة، وتتآكل فيه مفاهيم العمل التقليدي، مما قد يدفع بمجتمعاتنا نحو اضطرابات لم نعهدها من قبل. فهل نحن حقاً على وشك الدخول في عقدٍ من الفوضى الاجتماعية والتحولات الاقتصادية الموجعة؟ وما هي الأبعاد الحقيقية لهذا التحدي، الذي يبدو أنه لن يكتفي بمجرد استبدال الآلة للإنسان، بل قد يعيد تعريف جوهر العمل ومعناه في نسيج حياتنا؟
ما وراء التحذير: دوافع خفية لأزمة وجودنا المهني
إن تحذير جودت لا يستند فقط إلى قدرة الذكاء الاصطناعي على أتمتة المهام الروتينية، بل يغوص في أسبابٍ أعمق بكثير، تلامس أعماق بنية مجتمعاتنا وطريقة فهمنا للوظيفة وحتى لهويتنا. المسألة هنا ليست مجرد كفاءة تكنولوجية؛ بل هي أزمة في قدرتنا على التكيف كبشر، وفي تقديرنا لمعنى "القيمة" في سوقٍ لم يعد يتوقف عن التغير:
1. جهلنا بطبيعة الذكاء الاصطناعي المتغيرة: أحد الجذور العميقة لهذا القلق يكمن في أن شرائح واسعة من القوى العاملة، وحتى صانعي القرار، لم تستوعب بعد الطبيعة الشاملة والمتطورة للذكاء الاصطناعي. الأمر لم يعد مجرد أداة مساعدة، بل أصبح قادراً على التعلم والتحليل واتخاذ القرارات، بل وحتى الإبداع في بعض المجالات. هذا "الغربة المعرفية" تُحدث شرخاً كبيراً بين سرعة التطور التكنولوجي وبين استجابتنا المجتمعية والتعليمية البطيئة، مما يجعل الصدمة أكبر وأشد وطأة حين تبدأ الأتمتة في اقتحام وظائف لطالما اعتقدنا أنها حكرٌ على "الذكاء البشري".
2. هوس "الكفاءة" على حساب "اللمسة البشرية": تاريخياً، كانت الثورات التكنولوجية تستهدف في غالبها العمل اليدوي، مما دفعنا كبشر للتكيف نحو أدوار تتطلب مهارات معرفية أعلى. لكن الذكاء الاصطناعي اليوم يوجه سهامه نحو "المهنيين المتعلمين والعاملين من الطبقة المتوسطة"، أي الشريحة التي تمثل "العمود الفقري لاقتصاداتنا الحديثة". السبب الجوهري هنا هو أن المنظومة الاقتصادية العالمية باتت تقدّر "الكفاءة" (التي يبرع فيها الذكاء الاصطناعي بلا كلل أو ملل) أكثر من "القيمة المضافة البشرية" الفريدة، مثل الذكاء العاطفي، التفكير النقدي في السياقات المعقدة، والقدرة على بناء العلاقات الإنسانية العميقة، وهي جوانب لا يزال الذكاء الاصطناعي يعاني في محاكاتها. هذا يدفعنا إلى تساؤل حائر: ماذا سيبقى للإنسان ليقدمه حينما تصبح كفاءته أقل من تلك التي تقدمها الآلة؟
3. عجز نماذج إعادة التأهيل والتكيف: رغم أن جرس الإنذار يدق مراراً وتكراراً، إلا أن استجابة الحكومات والمؤسسات التعليمية لمتطلبات سوق العمل الجديدة تبدو بطيئة ومترددة. غالباً ما تكون برامج إعادة التأهيل والتدريب المهني غير كافية، أو لا تواكب السرعة الهائلة التي تتغير بها المهارات المطلوبة. هذا البطء يخلق طبقةً من العاطلين عن العمل الذين يجدون أنفسهم غير مؤهلين للفرص الجديدة التي قد تظهر، مما يفاقم من "الفوضى الاجتماعية" المتوقعة، ويُعمّق الشعور بفقدان الهدف والهوية، فليست البطالة الاقتصادية وحدها ما يهددنا، بل البطالة الوجودية أيضاً.
4. سيناريوهات المستقبل بين التحديات والفرص المذهلة
إن التحذير الصريح الذي أطلقه جودت يفرض علينا أن نتوقف وأن نفكر بعمق في ملامح المستقبل. فهل "الجحيم" الذي يتحدث عنه أمرٌ حتمي لا مفر منه، أم أنه نتيجةٌ مباشرة لعدم استعدادنا؟
هل التحذير واقعي؟ ومقارنته بماضٍ قريب: يجادل جودت بأن هذه الثورة تختلف عن سابقاتها، تحديداً لأنها تستهدف "العمل المكتبي". تاريخياً، شهدنا ثورات صناعية قلبت الموازين، لكنها، وفي معظم الأحيان، خلقت فرصاً جديدة فاقت ما دمرته. مثلاً، تُشير بيانات منظمة العمل الدولية (ILO) إلى أن الثورات الصناعية السابقة (مثل ثورة البخار والكهرباء) أدت بالفعل إلى اختفاء ملايين الوظائف اليدوية، لكنها فتحت الأبواب أمام صناعات ووظائف جديدة كلياً. السؤال المطروح هنا: هل قدرة الذكاء الاصطناعي على "المعرفة" ستعيد السيناريو نفسه، أم أنها ستُحدث تحولاً نوعياً مختلفاً؟ التقديرات الأولية لجهات بحثية مرموقة مثل McKinsey Global Institute تُلمّح إلى أن ما يصل إلى 30% من ساعات العمل الحالية في حوالي 60% من المهن قد يتم أتمتتها بحلول عام 2030، وهذا الرقم يشمل قطاعات واسعة من العمل المكتبي والمعرفي، مما يجعل التحذير أقرب إلى الواقع.
نهاية العمل المكتبي: هل هي مجرد كلمات؟ إن تعبير "نهاية العمل المكتبي" يحمل في طياته صدمةً حقيقية. فالمكتب ليس مجرد مكان نؤدي فيه مهامنا، بل هو مساحة حيوية للتفاعل الاجتماعي، ومختبر لبناء الهوية المهنية للكثيرين. إذا ما بدأت هذه الوظائف في التلاشي، فإن تداعياتها لن تكون مقتصرة على الجانب الاقتصادي فحسب، بل ستمتد لتُحدث "اضطرابات اجتماعية" واسعة، وارتفاعاً في معدلات مشاكل الصحة العقلية، كما ألمح جودت. فالإنسان، بطبيعته كائن اجتماعي يجد جزءاً كبيراً من معناه في عمله وتفاعله مع الآخرين. هذا قد يعمق الانقسامات الاجتماعية بين من يمتلكون المهارات الجديدة ومن لا يمتلكونها، مما قد يؤجج التوترات الطبقية، وربما يقود إلى حركات احتجاجية، كما شهدنا في بعض الدول التي مرت بفترات بطالة تكنولوجية حادة.
هل تُخَبِئ "الجنة" نفسها بعد "الجحيم"؟ يتفاءل جودت بأن "السنوات الـ15 المقبلة ستكون بمثابة جحيم قبل أن نصل إلى الجنة". هذا الأمل يتطلب إيماناً بقدرة البشرية على التكيف السريع، وعلى إبداع نماذج اقتصادية واجتماعية جديدة تماماً. فماذا قد تكون ملامح هذه "الجنة" الموعودة؟ هل هي عالم يوفر فيه الذكاء الاصطناعي احتياجات البشر الأساسية، مما يحررهم لمتابعة شغفهم بالإبداع والفنون والعلوم؟ أم أنها جنة تتطلب إعادة هيكلة جذرية لنظام توزيع الثروة والدخل، عبر آليات مثل الدخل الأساسي الشامل؟ هذه تساؤلات تفتح آفاقاً لنقاشات فكرية عميقة حول دور الدولة، وحقوق المواطنة في عصر الأتمتة الشاملة.
استنتاجات نوعية: معضلة الوجود الإنساني في زمن الآلة
إن تحذير محمد جودت ليس مجرد توقع اقتصادي، بل هو دعوة عميقة لإعادة التفكير في مكانة الإنسان في عالمٍ تتسارع فيه خطى الآلة:
1. الذكاء الاصطناعي كمرآة تكشف هشاشة تعليمنا التقليدي: ما نواجهه اليوم ليس مجرد أزمة في الوظائف، بل هو في جوهره أزمة في نظامنا التعليمي الذي لا يزال يُخرج أجيالاً بمهارات قديمة لا تواكب متطلبات المستقبل. الذكاء الاصطناعي يعري ضعف مناهجنا في تنمية التفكير النقدي، الإبداع الحقيقي، والذكاء العاطفي، وهي كلها مهارات لا تستطيع الآلة محاكاتها بسهولة، وهذا هو مربط الفرس.
2. أزمة المعنى في عصر الأتمتة: عندما تُنتزع المهام الروتينية من أيدي البشر، فإن التحدي الأكبر الذي يلوح في الأفق ليس فقط "أزمة البطالة"، بل "أزمة المعنى" نفسه. كيف سيجد الإنسان هدفه وقيمته في مجتمع لا يحتاج بالضرورة إلى عمله التقليدي؟ هذا يستدعي منا إعادة تعريف جوهرية لمفهوم العمل، وربما يتطلب التركيز على المساهمة المجتمعية والإبداع غير المادي.
3. ضرورة تحديث عقودنا الاجتماعية: إن التغيرات الهائلة المتوقعة تستلزم تحديثاً جذرياً للعقود الاجتماعية التي تربط الأفراد بالدولة والشركات. فمفاهيم الضمان الاجتماعي، الرواتب، وحتى التملك، قد تحتاج إلى مراجعة شاملة لتتناسب مع واقعٍ يقل فيه الاعتماد على القوى العاملة البشرية في الإنتاج التقليدي.
مقترحات وتوصيات: لتحويل "الجحيم" إلى "جنة" ممكنة
لتحويل "الجحيم" الذي حذر منه جودت إلى "جنة" محتملة، يتطلب الأمر رؤيةً جريئةً ومقترحاتٍ عمليةً تستشرف المستقبل:
1. ثورة في التعليم أولاً وأخيراً: يجب أن نعيد تصميم مناهجنا التعليمية لتركز على المهارات التي يصعب على الآلة أتمتتها: التفكير النقدي، القدرة على حل المشكلات المعقدة، الإبداع الأصيل، الذكاء العاطفي، التواصل الفعال، وروح ريادة الأعمال. يجب أن يصبح "التعلم المستمر مدى الحياة" هو القاعدة، لا الاستثناء.
2. مبادرات الدخل الأساسي الشامل (UBI): لامتصاص الصدمة المتوقعة من فقدان الوظائف على نطاق واسع، يمكن البدء في استكشاف وتطبيق نماذج الدخل الأساسي الشامل، التي توفر شبكة أمان اجتماعي تضمن كرامة الأفراد، وتُمكنهم من استكشاف مسارات جديدة للعمل أو التعلم أو الإبداع.
3. تحفيز "الاقتصاد الإبداعي" و"اقتصاد المعرفة": علينا أن ندعم بقوة الصناعات التي تعتمد بشكل كبير على الإبداع البشري، مثل الفنون، البحث العلمي، والابتكار، وهي المجالات التي لا يزال فيها الإنسان يحتفظ بميزة تنافسية واضحة على الآلة.
4. أطر تشريعية وتنظيمية للذكاء الاصطناعي: من الضروري وضع قوانين ومعايير أخلاقية واضحة وصارمة لتطوير واستخدام الذكاء الاصطناعي، تضمن عدم تفاقم عدم المساواة، وتحمي حقوق العمال، وتحدد بوضوح مسؤوليات الشركات والمطورين.
5. حوار مجتمعي شامل ومفتوح: يجب أن نفتح نقاشات وطنية وعالمية صريحة حول مستقبل العمل، وماهية الهوية البشرية في هذا العصر، وكيف يمكننا بناء مجتمعات مرنة ومزدهرة في ظل هيمنة الذكاء الاصطناعي، مع إشراك كافة الأطراف المعنية: العمال، رجال الأعمال، الأكاديميين، وصانعي السياسات.
إن تحذير محمد جودت ليس حكماً نهائياً مكتوباً علينا، بل هو جرس إنذار قوي. فالـ"جحيم" الذي تحدث عنه ليس مصيراً حتمياً، بل هو نتيجة محتملة لتقاعسنا. إن مستقبل سوق العمل لا يتوقف فقط على مدى تطور الذكاء الاصطناعي، بل على مدى استعدادنا نحن البشر لتوجيه هذه التكنولوجيا لخدمة الإنسانية، ولإعادة اكتشاف قيمة العمل والمعنى في عالم يتغير بسرعة الضوء. الفرصة ما زالت سانحة أمامنا، ليست في إيقاف عجلة التقدم، بل في قيادتها بحكمة وبصيرة نحو فجر جديد، قد يكون "جنة" حقيقية إذا أحسنّا صنعها بأيدينا.
اضف تعليق