فكل من ينادي بالحرية وتكسير القيود فهو يخطو على نهج الإمام الحسين والأمة التي لا تجعل من الإمام الحسين نهجاً ودستوراً تسير عليه فستعيش تحت وطأة السلطان إن شاء رحمهم وإن شاء جعلهم عبيداً يتصرف بهم كيف يريد وهذا ما دعا إليه السبط المنتجب ولم يكن حكراً على الإسلام...

عاشوراء ليست شعائر دينية متمثلة ببكاء ولطم ورثاء وغيرها من ممارسات فحسب -على الرغم من أنَّها من كماليات المنهج-؛ وإنما هي إرساء قواعد إنسانية وعدم الرضوخ إلى التسلط الهمجي، فهي ثورة فكر وعز وكرامة وحزم ودفاع وقّوة وشجاعة، رفع بها الإمام الحسين (عليه السلام) أسمى آيات البطولة والتضحية، وضرب أروع أمثلة الإيثار فيها، فمن أجل أن يوقظ ضمائر الآخرين؛ قدّم فلذات كبده الشريف.

 فقامت ثورته على أُسس منهجية قد خطط لها الإمام الحسن بن علي كريم أهل البيت(عليه السلام) عبر صلحه مع معاوية بن أبي سفيان وبهذا الصلح قد كشف عن وجه معاوية الذي كان يتبجح باسم الدين، وإنَّه كان الحامي والناصر والمدافع عن دين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبإخلاله للعهد، كانت تلك اللحظة بمثابة ساعة الصفر للإمام الحسين(عليه السلام) للقيام بتلك الثورة المباركة، فكان هدف الإمام الحسين (عليه السلام) من تلك الثورة الخالدة هو أن يشعر الإنسان بإنسانيته ولا يخضع لقوى الضلالة وكلمته الغرّاء المدوّية التي لاتُثمّن بثمن أو بمال إذ قال: (مثلي لا يُبايع مثله) ولو وضعنا هذه الكلمة تحت المجهر لانبثقت منها الحياة المكللة بالكرامة والعزَّة والإباء والشعور بالمسؤولية.

 فلو سألنا لماذا لم يقل:(أنا لا أُبايعه) وقال: (مثلي لا يبايع مثله)؟

 فالجواب على ذلك: أراد أن يقولَ: يا أحرار العالم لا يستعبدنّكم أحدٌ بعدي، فإن افترضنا أنه لم يقم بهذه النهضة الشريفة فماذا سيحصل بعد ذلك؟ يقيناً سوف ترجع الأمة إلى العهد الذي كان ولا زال وقتئذٍ يعيش في داخلهم من أيام الجاهلية المقيتة التي حاربها رسول الله بشتى الطرق، ولعادت فيهم الأعراق السالفة، شريفهم مقرّب وفقيرهم مجفو ولتسلط القوي على الضعيف وأصبحت الأمة بمثابة الغابة ينهش بعضها بعضًا، ولكنّ الإمام الحسين(عليه السلام) قد أشعل شرارة الوقوف ضد الظالمين وضد الحكم المستبد وقد أفصح عن مكنون الآية الكريمة (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ) هود/113.

فالحكم الأموي حكم متجبر ظالم طاغي لا يعرف من الدين شيئاً وقانونه الحكومي هو (لا يحق لك الوقوف ضد الحاكم ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك)، فكان نهجهم وسبيلهم في الحياة القتل والنهب والسلب والغصب والتدمير وأهلكوا الحرث والنسل، فما كان من الإمام الحسين إلا الوقوف بوجه السلطة الجائرة المتعدية على حقوق الناس، ولمَّا رأى الناس لم يحركوا ساكناٌ وهم بحاجة إلى صعقة توقظهم من سباتهم العميق لتُعيدهم إلى الحياة الحرّة الكريمة من دون أيّة اعتداء ممكن أن يُزعزع أمنهم، فكان الأحق من يقوم بهذا الدور وهذه الصعقة هو سبط رسول الله وسيد شباب أهل الجنة وخير من في الأرض في زمانه ولا يوجد ابن بنت نبي غيره ولو لم يبادر هو في إشعال جذوة الحرية، فمن ذا الذي يستطيع أن يُحركَ ساكن الشعوب التي ركنت سيوفها على رفوفها وقد علاها التراب، وأنساهم الشيطان ما جاء به سيد الكائنات محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله )، كما قال شيخهم: (تلقفوها يا بني أمية تلقف الكرة، ما من جنة ولا نار وإنما هو الحكم).

 والحسين (عليه السلام) يعلم ماهيّة يزيد ومن أي معدن هو لذلك قال لأعدائه:( إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحرارا في دنياكم )، فهو يعلم ما في نفس يزيد التوّاقة لإستعباد الناس؛ لذلك قام بتحريك المشاعر بالتحرر وعدم الانقياد للآخرين، وقد تجذرت ثورته (عليه السلام) في الأمة الإسلامية على مر العصور وحتى يومنا هذا فعلى منهاجه تفجرت الثورات العربية والإسلامية من ذلك الحين وإلى ان يرث الله الأرض ومن عليها، وإن كان هناك بونٌ واسعٌ بين واقعة الطف الأليمة والربيع العربي فالهدف السامي ذاته هو الوقوف بوجه الطغاة وإن كلّف ذلك الأرواح.

فكل من ينادي بالحرية وتكسير القيود فهو يخطو على نهج الإمام الحسين (عليه السلام) والأمة التي لا تجعل من الإمام الحسين (عليه السلام) نهجاً ودستوراً تسير عليه فستعيش تحت وطأة السلطان إن شاء رحمهم وإن شاء جعلهم عبيداً يتصرف بهم كيف يريد وهذا ما دعا إليه السبط المنتجب (عليه السلام) ولم يكن حكراً على الإسلام فقط؛ وإنما هو للإنسانية جمعاء فأينما يُوجد متسلط ظالم غاصب لحقوق الناس منتهك لأعراضهم كيزيد فيجب أن يكون الشعب نهجه حسينياً ويشهرون من نحورهم سيوفاً، ومن صدورهم دروعاً ليُجابهوا بها الجبروت الظالم و(الله ولي المؤمنين وما للظالمين من أنصار).

الدعوة الحسينية للعودة إلى الشورى

 تشربت فكرة الشورى في نفوس المسلمين وادعت السلطات التي سبقت الثورة الحسينية؛ إنّ الشورى هي وصية الله ورسوله، ومن يخرج عليها خرج عن الشريعة والسنّة، ومَن استجاب لها؛ استجاب لله ولرسوله، وفقاً لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) الشورى/38، يقول المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي (قدس سره): (الآية في وصف المؤمنين وفي تحديد واجباتهم ومن جملة تلك الواجبات الشورى، فقد وردت الشورى بين أمرين واجبين إقامة الصلاة والإنفاق، فالأولى في المقام العبادي، تزكية النفس وبناء الشخصية الإيمانية، والثانية في المجال السياسي، وبناء الدولة ونظام الحكم والثالثة في المجال الاقتصادي وهي ثلاث حلقات مترابطة، وهي أركان للمجتمع الإسلامي) (الشورى في الإسلام: 11).

 لأنَّ الشورى أخذت إطار أنَّها تُمثل المبدأ الإسلامي العام، ولا يختص بالحكم السياسي فقط وإنَّما يسري على جميع مناحي الحياة الأخرى. وكذلك تمثل الشورى المجال السلطوي وهو: مشورة الحاكم المسلم للمسلمين في الأمور المتعلقة بهم، والمجال الآخر: هو مشورة المسلمين فيما بينهم على إدارة شؤونهم، وبذلك تطير الشورى بجناحين، جناح الحاكم وجناح الرعية.

 ولكن هذا الأمر لا يتدخل بشؤون النبوة والإمامة فهما منصبان مختصَّان بعهد الله سبحانه وتعالى ولا يحق لأحد أن يجري الشورى عليها، فالشورى مختصة بالحاكم والرعية وليست بأمور التنصيب الإلهي.

 من هذا المنطلق ألقى الإمام الحسين (عليه السلام) الحجة على الناس وإشعارهم بضرب هذا المبدأ من قبل بني أمية وتعيين الحاكم السلطوي من قبل الحاكم السابق الذي خرج على المبدأ الذي التزم به كل ما قام قبله، فضلاً عن أنَّ التنصيب لرجل فاسق فاجر قاتل للنفس المحترمة ينتهك الأعراض ولا تأخذه في ناس رأفة ولا حمية، قمينٌ بالخروج عليه وإيقاف حكمه حتى وإن كلَّف ذلك الأثمان الباهظة، فكانت الثورة الحسينية المقدَّسة حركة تهدد السلطة الغاشمة ودقّ إسفين النهاية في نعش التسلط الهمجي.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2025

http://shrsc.com

اضف تعليق