لقد قدمت نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) نموذجًا حيًا للعدالة القانونية في أرقى صورها، إذ جسّدت المقاومة السلمية الواعية ضد الظلم، ودافعت عن حق الأمة في العيش تحت نظام عادل، يحترم كرامة الإنسان، ويطبق الشريعة من موقع التقوى لا الاستبداد...
تُعد العدالة من أسمى الغايات التي قامت عليها الرسالات السماوية، وارتكزت عليها النظم القانونية الوضعية في صياغة تشريعاتها، وهي في الإسلام ليست مجرد قيمة أخلاقية أو مطلب اجتماعي، بل هي فريضة إلهية ومبدأ تشريعي حاكم على سلوك الفرد ونظام الدولة، وقد مثل الإمام الحسين (عليه السلام) في نهضته الخالدة ذروة تجليات هذا المبدأ، حين انتفض ضد سلطة حولت الحكم إلى ملك عضوض، وفقدت شرعيتها بانحرافها عن جوهر العدالة.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ (النحل: 90)، وقال أيضًا: ﴿وتمت كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ (الأنعام: 115)، من هذا المنطلق، تقوم العدالة السياسية في الفقه الإسلامي على مبدأ إقامة الحكم وفقًا للحق، ومنع الظلم، وحفظ مصالح الأمة، ولما رأى الإمام الحسين (عليه السلام) أن نظام يزيد لا يستند إلى أي مبدأ من مبادئ العدالة، رفض مبايعته قائلًا: "إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله، وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، ومعلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله".
هذا الرفض لم يكن مجرد موقف شخصي، بل إعلان بأن الحاكم الجائر لا يمتلك شرعية قانونية ولا دينية، وأن العدالة السياسية لا تقوم إلا على شرعية تستند إلى الرضا العام، والحق، والتقوى، وقد رسخ بذلك مبدأ في غاية الأهمية في الفكر السياسي الإسلامي، وهو أن السلطة تفقد شرعيتها بانحرافها عن العدالة، وأن الطاعة واجبة فقط في إطار الحكم العادل.
من أبرز تجليات غياب العدالة القضائية في زمن بني أمية، محاولاتهم تشريع الظلم ضمن منظومة رسمية، فكان القضاء أداة بيد السلطة لتبرير الجرائم السياسية، كما في تسويغ قتل المعارضين واغتيال شخصيات مثل حجر بن عدي، وعمرو بن الحمق، في هذا السياق، جاءت نهضة الحسين (عليه السلام) لتعيد الاعتبار لمبدأ العدالة القضائية كحق لا يجوز التلاعب به، ومما قاله في إحدى رسائله: "ألا ترون أن الحق لا يُعمل به، وأن الباطل لا يتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله محقًا"، فهو لم ير الظلم في اغتصاب السلطة فقط، بل في مؤسسات الدولة التي غابت فيها المحاسبة، وساد فيها حكم الهوى بدل حكم الشريعة. ولذا فإن نهضته كانت دعوة صريحة لاستعادة قيمة القضاء العادل، ومبدأ المساواة في تطبيق الأحكام، وعدم توظيف القضاء لخدمة السلطة الجائرة.
إحدى أبرز مآسي العهد الأموي كانت الظلم الاجتماعي المتمثل في مصادرة أموال الأمة، وتوزيع الثروات على أساس القرب من السلطة لا وفق الاستحقاق. وهو ما كان الإمام علي (عليه السلام) قد قاومه بشدة في خلافته، فجاء الحسين (عليه السلام) ليحمل ذات الهم، حيث قال (عليه السلام): "وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي"، والإصلاح هنا لا يقتصر على إصلاح الحكم، بل يشمل رفع المظلومية عن الفقراء، ورد الحقوق لأصحابها، ومكافحة الفساد الإداري والمالي، وهي مفردات تصب جميعها في مفهوم العدالة الاجتماعية. فقد شكلت نهضة الحسين (عليه السلام) استعادة لمبدأ التوازن المجتمعي الذي هو ركيزة أي نظام قانوني عادل، خاصة في ظل التفاوت الطبقي والانتهاكات المالية.
أما شرعية الثورة من أجل العدالة، فمن المعلوم أن الخروج على الحاكم في الفقه الإسلامي ليس مباحًا إلا عند وجود الظلم الصريح، وغياب أي أفق للإصلاح السلمي، وهو ما عبر عنه الإمام الحسين (عليه السلام) بوضوح حين قال: "من رأى سلطانًا جائرًا مستحلًا لحرم الله، ناكثًا لعهد الله، مخالفًا لسنة رسول الله (ص)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول، كان حقًا على الله أن يدخله مدخله". فهو (عليه السلام) شرّع الثورة لا بوصفها عملًا انفعاليًا، بل باعتبارها واجبًا شرعيًا قانونيًا متى بلغ الظلم حدًا يقوض أسس العدل، ويعطل فاعلية الشريعة. وبذلك، أصبحت ثورته (عليه السلام) قاعدة معيارية يمكن قياس شرعية أي نظام سياسي على ضوئها، وفق مقدار التزامه بالعدالة كمبدأ تأسيسي للحكم.
ختامًا، لقد قدمت نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) نموذجًا حيًا للعدالة القانونية في أرقى صورها، إذ جسّدت المقاومة السلمية الواعية ضد الظلم، ودافعت عن حق الأمة في العيش تحت نظام عادل، يحترم كرامة الإنسان، ويطبق الشريعة من موقع التقوى لا الاستبداد. إن دراسة العدالة من خلال هذا النموذج تمثل إثراءً للفكر القانوني الإسلامي، وإحياءً لقيم دستورية أخلاقية، لا تزال إلى اليوم تلهم حركات التحرر والحقوق حول العالم، وما أحوجنا في هذا الزمن إلى استحضار عدالة الحسين (عليه السلام) لا كماضٍ نرثيه، بل كمشروع قانوني متجدد نحاكيه ونستلهمه.
اضف تعليق