لتحقيق فعالية أكبر للحوارات في دعم حقوق الإنسان، يجب النظر إليها باعتبارها جزءًا من استراتيجية شاملة تتضمن تحصين الحوارات من التسييس، من خلال إدارة مستقلة، وإشراك أطراف متعددة التوجهات، واعتماد ميثاق أخلاقي للحوار، وربط الحوار بالتشريع والسياسات من خلال متابعة تنفيذ التوصيات، وتحويل نتائج الحوارات إلى مشاريع قوانين أو برامج حكومية واضحة...
تواجه مسألة حقوق الإنسان في العراق تحديات بنيوية معقدة تعود إلى عقود من الاستبداد، والحروب، والانقسامات الطائفية، وتدهور مؤسسات الدولة، فمنذ عام 2003، وُضعت حقوق الإنسان في قلب النقاش السياسي والاجتماعي، وبرزت الحوارات المجتمعية كأداة لمحاولة إعادة بناء الثقة، وفتح المجال أمام تسوية سلمية للقضايا العالقة، ومن ضمنها الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية للمواطن العراقي، وتُثار هنا إشكالية محورية مفادها هل استطاعت الحوارات المجتمعية، بوصفها آلية سلمية تشاركية، أن تُسهم بفعالية في دعم حقوق الإنسان في العراق؟ وهل كانت هذه الحوارات قادرة على مواجهة التحديات الأمنية والهيكلية التي تعرقل مسار الإصلاح الحقوقي في الدولة؟
الحوار، من حيث المبدأ، هو تفاعل منظّم بين أطراف مختلفة تسعى إلى تبادل وجهات النظر حول قضايا خلافية، بغية الوصول إلى فهم مشترك، أو إلى تسوية سلمية، وفي السياق العراقي، يكتسب الحوار أبعادًا خاصة، لارتباطه بمسائل الهوية، والانتماء، ومشاعر الإقصاء والتهميش، فضلاً عن مركزية الدين والمذهب والعرق في الخطاب العام، ولذلك، فإن أي حوار جاد في العراق لا يمكن أن يكون تقنيًا أو إجرائيًا فحسب، بل يجب أن يكون بنيويًا وجوهريًا يعالج جذور التصدّع الاجتماعي والحقوقي.
أما حقوق الإنسان فتُشير إلى مجموعة الحقوق الملازمة لكل إنسان دون تمييز، وتشمل الحقوق المدنية (مثل الحق في الحياة والأمن والحرية)، والسياسية (كحرية التعبير والمشاركة في الحكم)، والاقتصادية والاجتماعية والثقافية (كالتعليم والعمل والضمان الاجتماعي). في العراق، تتمثل أزمة حقوق الإنسان في ضعف الحماية التشريعية، والانتهاكات المتكررة، وتفشي الإفلات من العقاب، ناهيك عن هشاشة الثقافة الحقوقية في بعض الشرائح.
في بيئة ما بعد النزاع، كما هو الحال في العراق، تُشكّل الحوارات أداة رمزية وفعالة لإعادة بناء الثقة بين المكونات المختلفة، وبين المواطن والدولة، فهي تتيح للضحايا التعبير عن معاناتهم، وتُعطي للمجتمعات المهمشة فرصة لسماع صوتها، وتساهم في كسر الاحتكار الرسمي للخطاب الحقوقي، كذلك، فإن إشراك عناصر فاعلة من المجتمع، كالنساء والشباب وقادة المجتمع المدني، يخلق أرضية أوسع لفهم الحقوق بوصفها قضية جماعية لا حكراً على النخب.
تميل الدولة العراقية، في العديد من الحالات، إلى التعامل مع مطالب الحقوق من منظور أمني، وهو ما يتجلى في المنع والقمع، والرقابة، وكبح الحركات الاحتجاجية، في المقابل، يُعدّ الحوار نقيضًا لهذا النهج، إذ يفتح المجال أمام النقاش التعددي، ويُعيد تعريف الأمن بوصفه أمنًا إنسانيًا يتضمّن الكرامة، والعدالة، والحق في المشاركة، لا مجرد حفظ النظام، ومن هنا فإن الحوارات تُعدّ تحديًا للنموذج التقليدي للسلطة، وتُوفر بديلاً سلميًا للتعامل مع المطالب الاجتماعية.
هنالك عقبات تواجه الحوارات الحقوقية في العراق من بينها التسييس والانقسام، ففي كثير من الأحيان، تتعرض الحوارات الحقوقية إلى التسييس، حيث تُوظّف لأغراض دعائية أو لتبييض صورة السلطات، بدلًا من أن تكون مسارًا حقيقيًا للإصلاح، كما أن الانقسام الطائفي والعرقي يجعل من الصعب الوصول إلى أرضية وطنية مشتركة ينطلق منها الحوار، كذلك غياب الإرادة السياسية فهي أحد أبرز المعوّقات يتمثل في ضعف الإرادة السياسية لدى الجهات الرسمية لاعتماد مخرجات الحوار كأساس للتشريع أو السياسات، وبالتالي، تبقى نتائج الحوارات حبيسة التقارير أو المناسبات، دون أثر ملموس في تحسين واقع الحريات أو الحقوق.
أما التحديات الأمنية والبيئة الأمنية المتوترة، بسبب نشاط الجماعات المسلحة، والخارجة عن القانون، تعيق العمل الحقوقي المنظم، وتُهدّد سلامة المشاركين في الحوارات، خاصة في المناطق المحررة أو ذات التوترات المزمنة، فالحوار في ظل غياب الأمان يُفقد قيمته العملية، ويُحوّله إلى فعل نخبوي غير متصل بالواقع، أيضًا ضعف البنية القانونية والمؤسسية رغم وجود مواد دستورية تضمن الحقوق الأساسية، إلا أن التشريعات العراقية غالبًا ما تفتقر إلى أدوات التنفيذ الفاعل، كما أن المؤسسات الوطنية، كالمفوضية العليا لحقوق الإنسان، تعاني من ضعف الاستقلالية والتمويل، ما يحد من قدرتها على دعم الحوارات وإسناد نتائجها بمشاريع إصلاح حقيقية.
لتحقيق فعالية أكبر للحوارات في دعم حقوق الإنسان، يجب النظر إليها باعتبارها جزءًا من استراتيجية شاملة تتضمن تحصين الحوارات من التسييس، من خلال إدارة مستقلة، وإشراك أطراف متعددة التوجهات، واعتماد ميثاق أخلاقي للحوار، وربط الحوار بالتشريع والسياسات من خلال متابعة تنفيذ التوصيات، وتحويل نتائج الحوارات إلى مشاريع قوانين أو برامج حكومية واضحة، كذلك في تعزيز الثقافة الحقوقية المجتمعية عبر التعليم، والإعلام، والخطاب الديني، لتصبح الحقوق جزءًا من وعي الأفراد، لا مجرد شعارات.
بالإضافة إلى ضمان الحماية للمشاركين من خلال آليات قانونية وأمنية تُؤمّن حرية الرأي والتعبير، وتحمي النشطاء من الملاحقة أو التهديد، وأخيرًا نرى في إدماج الفئات المهمشة مثل النساء، والأقليات، وذوي الاحتياجات الخاصة، وضحايا العنف، ضرورة واقعية لتحقيق فعالية أكبر للحوارات وضمان شمولية الحوار.
لكن الواقع العراقي يُظهر أن الحوارات، رغم كونها أداة ضرورية في مرحلة ما بعد النزاع، لا تكفي وحدها لتحقيق تحول حقيقي في واقع حقوق الإنسان، إذ إن فعاليتها ترتبط بمدى توافر بيئة سياسية وأمنية وتشريعية ملائمة، قادرة على ترجمة مخرجات الحوار إلى واقع مؤسسي، وعليه فإن النهوض بحقوق الإنسان في العراق يتطلب إرادة سياسية حقيقية، وإصلاحًا مؤسسيًا، وحوارًا وطنيًا جامعًا يتجاوز الفئوية، ويستند إلى مبدأ المواطنة، والعدالة.
اضف تعليق