إن المبادرات الحوارية في العراق بعد عام 2003 مثلت ضرورة ملحة في مواجهة التوتر الطائفي، وساهمت جزئيًا في منع الانزلاق الكامل إلى الحرب الأهلية المفتوحة، لكنها بقيت في معظمها محدودة التأثير، جزئية الأثر، نتيجة غياب الإرادة السياسية، والهشاشة المؤسسية، والانقسامات العميقة، ومع ذلك، فإن الحوار يظل خيارًا لا غنى عنه لبناء مستقبل عراقي يتجاوز الطائفية...

شكّلت لحظة التغيير السياسي في العراق بعد عام 2003 نقطة تحول جذرية في مسار الدولة والمجتمع، بما فتح الباب واسعًا أمام بروز الانقسامات الطائفية، وتحولها من توتر اجتماعي كامن إلى صراع علني بلغ ذروته في مراحل متعددة، خصوصًا خلال الحرب الأهلية (2006–2008)، وما أعقبها من موجات عنف، وانقسامات سياسية، وممارسات إقصائية، وفي خضم هذه التحديات، برزت المبادرات الحوارية كأدوات بديلة وغير عُنفية لمعالجة الانقسام الطائفي، من خلال محاولة إعادة بناء الثقة، وتوفير قنوات للتواصل بين المكونات المختلفة، ومواجهة خطاب الكراهية.

المبادرة الحوارية في واقعها فعل اجتماعي–سياسي يتمثل في إنشاء مساحة تواصل بين جماعات أو أطراف متنازعة أو متخاصمة، بهدف بناء فهم مشترك، وتخفيف حدة الصراع، وإعادة تشكيل العلاقات على أسس من التعايش والاحترام المتبادل، وتختلف هذه المبادرات من حيث الشكل والمضمون فقد تكون حكومية أو مجتمعية، رسمية أو غير رسمية، آنية أو ممتدة، وتُدار أحيانًا من قبل وسطاء محليين أو دوليين.

لا يمكن فهم الطائفية في العراق بوصفها مجرد انتماء ديني أو مذهبي، بل هي بنية اجتماعية–سياسية معقّدة، تجذّرت في الدولة ما بعد 2003، من خلال المحاصصة السياسية، واستثمار الهويات الفرعية في التمثيل النيابي والإداري، وتفكك المؤسسات على أسس الولاء الطائفي، وقد نتج عن هذا الواقع توترات متكررة، وعنف متبادل، ومناخ من الشك بين المكونات، ما شكّل بيئة خصبة لاستدامة الانقسام.

شهد العراق بعد 2003 محاولات أولية لإطلاق حوارات بين القيادات السياسية والدينية والاجتماعية، خصوصًا في مراحل تصاعد العنف الطائفي، إلا أن هذه المبادرات غالبًا ما كانت تفتقر إلى الاستقلالية والعمق المجتمعي، وتدور في فلك التفاهمات الشكلية بين النخب، دون أن تُحدث تأثيرًا فعليًا على المزاج الشعبي أو على السلوك السياسي.

كما تظهر مبادرات على مستوى المدن والمحافظات في شكل الحوارات المجتمعية المحلية، يقودها وجهاء أو ناشطون أو رجال دين، تهدف إلى التهدئة، والوساطة بين الجماعات المتصارعة، وتقديم تعويضات أو اتفاقات عدم اعتداء، وقد برزت في مناطق مثل ديالى، والموصل، والأنبار، حوارات بين مكونات طائفية مختلفة لإعادة التعايش بعد موجات التهجير، ورغم الطابع المحلي غير الرسمي لهذه الحوارات، إلا أنها أظهرت مرونة نسبية في معالجة الأزمات الجزئية.

ومما تجدر الإشارة إليه أن مرحلة ما بعد داعش الارهاب أعادت تشكيل طبيعة الخطاب الوطني، ما أفسح المجال أمام مبادرات حوارية جديدة تستند إلى مفاهيم التماسك المجتمعي، والعدالة الانتقالية، وإعادة الإدماج، ومع ذلك، ظل طيف الطائفية حاضرًا في خلفية الحوار، بسبب استمرار عقلية الشك والانقسام، وانعدام الثقة بالمؤسسات الرسمية.

أما عن فعالية المبادرات الحوارية في الحد من التوتر الطائفي فهي تتجسد في الإيجابيات الممكنة عبر إعادة فتح قنوات التواصل حيث استطاعت بعض المبادرات أن تخلق مساحات تواصل بين أطراف لم تكن تتحاور سابقًا، ما ساعد على خفض التصعيد ومنع الانزلاق إلى العنف، وساهمت في إعادة بناء الثقة الموضعية في بعض المناطق، بمعنى ساهمت الحوارات المحلية في بناء تفاهمات جزئية بين المجتمعات المتجاورة، خصوصًا في سياق العودة الطوعية للنازحين، وساعدت على إضعاف الخطاب التحريضي ووفرت المبادرات المجتمعية منصة مضادة لخطاب الكراهية الطائفية الذي روّجت له بعض القنوات الإعلامية والجهات المسلحة.

وفي هذا السياق نقيد مواطن الضعف والإخفاق المتعددة، منها غياب الاستدامة المؤسسية حيث افتقرت غالبية المبادرات إلى الدعم المؤسسي والتشريعي الذي يحوّل نتائجها إلى سياسات قابلة للتنفيذ، ما جعلها حوارات مؤقتة تتلاشى بعد انتهاء الأزمة، كذلك الطابع النخبوي والمركزي لأنه اقتصرت كثير من الحوارات على النخب السياسية أو الدينية، دون إشراك فعلي للمجتمع القاعدي، ما قلّل من قدرتها على إحداث تحول ثقافي طويل الأمد، بالإضافة إلى الاستغلال السياسي بسبب استُخدام بعض المبادرات كغطاء دعائي من قبل أطراف سياسية لتلميع صورتها، دون وجود نية حقيقية في تفكيك منطق الطائفية في مؤسسات الدولة، كما أن للهشاشة الأمنية موطن ضعف في بيئة العنف السياسي، وغياب سيادة القانون، تجعل من الصعب ضمان استمرارية الحوار أو حماية المشاركين فيه، خصوصًا حين يتناول موضوعات شائكة كالمساءلة أو العدالة.

إذا كانت المبادرات السابقة لم تحقق الأثر المرجو، فإن ذلك لا يعني فشل الحوار كأداة، وإنما يستدعي إعادة تصميمه على أسس أكثر رسوخًا وواقعية، ومنها حوكمة الحوارات وإنشاء هيئة وطنية مستقلة تُعنى بإدارة المبادرات الحوارية، وتوثيق نتائجها، وضمان شفافيتها، وربطها بسياسات عامة تعزز المواطنة، كذلك دمج التعليم والإعلام في استراتيجية الحوار فلا يمكن معالجة الطائفية من دون تغيير الثقافة العامة، لذا، يجب أن تُدمج مفاهيم الحوار، وقبول الآخر، والتنوع، في المناهج التعليمية والبرامج الإعلامية.

أيضًا من خلال تمكين الحوار المحلي فالمجتمعات المحلية أكثر قدرة على بناء التفاهمات العميقة، لذا ينبغي دعم الحوارات من أسفل إلى أعلى، لا العكس، ولا نغفل عن ربط الحوار بالعدالة الانتقالية لأنه لا يمكن الحديث عن حوار حقيقي دون معالجة إرث العنف والانتهاكات من خلال آليات قضائية وإنسانية تُنصف الضحايا وتعزز المصالحة، وضمان التعددية التمثيلية حيث ينبغي أن تشمل المبادرات فئات النساء، والشباب، والمكونات الدينية الصغيرة، والمتضررين من النزاعات، لضمان تمثيل حقيقي يعبّر عن الواقع لا عن النخبة فقط.

ختامًا- يمكن القول إن المبادرات الحوارية في العراق بعد عام 2003 مثلت ضرورة ملحة في مواجهة التوتر الطائفي، وساهمت جزئيًا في منع الانزلاق الكامل إلى الحرب الأهلية المفتوحة، لكنها بقيت في معظمها محدودة التأثير، جزئية الأثر، نتيجة غياب الإرادة السياسية، والهشاشة المؤسسية، والانقسامات العميقة، ومع ذلك، فإن الحوار يظل خيارًا لا غنى عنه لبناء مستقبل عراقي يتجاوز الطائفية، شريطة أن يُدار بعقلية إصلاحية، تؤمن بالمواطنة المتساوية، وتربط بين السلم الأهلي، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية.

د. جمانة جاسم الاسدي، عضو ملتقى النبأ للحوار، تدريسية في جامعة كربلاء

اضف تعليق