أن أمريكا دولة ديمقراطية، بل هي بتعبير بعض المغرمين بها أعظم ديمقراطية على وجه الكوكب، وفي ذلك ما يكفي وزيادة لتخيّل مشاهد محاكمة أو محاسبة الرئيس على أفعاله الارتجالية، لاسيما ذلك النوع من الأفعال الذي من لوازمه إلحاق الأذى بالموارد المالية والبشرية داخل أمريكا وخارجها دونما مسوّغات منطقية...

على عكس أسلافه بدا الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) في سلوكه العام مختلفا عن سائر رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، لاسيما من حكموا أمريكا خلال المئة سنة الماضية، فهو بخلاف معظمهم تظهر في شخصيته على نحو بارز أمارات حب التفرّد في اتخاذ القرارات، وتنتفي لديه أو تكاد صفات التروّي واستشارة أولي الحنكة، والتجربة.

وبصرف النظر عن الرأي الذي يفيد بأن الأحكام المنطقية لا تكفي غالبا لتقييم ما سيحدث، أو ما سوف يحدث في عالم السياسة، وشخوصها البارزين؛ لأن السياسة بحسب هذا الرأي عبارة عن منظومة معقدة من المصالح، والنفوذ، والعواطف، والتواريخ التي لا تخضع بمجملها غالبا لحسابات عقلانية بحتة.

 لكن هذا الرأي –على وجاهته- ينبغي أن لا يكون له الكلمة الأخيرة في ما نحن بصدد التفكير فيه، وأعني مسألة استشراف المستقبل الشخصي لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية (دونالد ترامب) لجملة اعتبارات أهمها، أن أمريكا دولة ديمقراطية، بل هي بتعبير بعض المغرمين بها أعظم ديمقراطية على وجه الكوكب، وفي ذلك ما يكفي وزيادة لتخيّل مشاهد محاكمة أو محاسبة الرئيس على أفعاله الارتجالية، لاسيما ذلك النوع من الأفعال الذي من لوازمه إلحاق الأذى بالموارد المالية والبشرية داخل أمريكا وخارجها دونما مسوّغات منطقية.

 وقد يكون من مصاديق ذلك ما يتصل بالضربة الجوية التي أمر بها مؤخرا ضد مفاعلات نووية إيرانية، وفاقت كلفتها أكثر من مليار دولار -بحسب بعض المصادر الأمريكية- ولكن من دون تحقيق فعلي لأهدافها التي تبجّح ترامب بتحققها، وجعلت من بعض خصومه، وأنصاره على السواء ينظرون إليه بوصفه أكبر كذّاب في التاريخ! وما يزيد من قتامة صورة ترامب في عيون هؤلاء ردوده الموغلة بالسخرية الفاقعة، واتهاماته لمنتقديه بالجهل، وضعف المعلومات، والغريب أن تعليقاته تلك لم تستثن حتى أجهزة الاستخبارات الأمريكية، وهي الأدق بحكم عملها من غيرها في تقييم القرارات السياسية والعسكرية للبلاد!

إنّ استشراء الأسلوب التهكمي المنتقص من الآخر سواء أكان داخليا أو خارجيا لدى الرئيس ترامب يجسّد جوهر الانتقادات الموجهة ضده من طرف عدد كبير من السياسيين السابقين، والمحللين، وحتى بعض المسؤولين داخل إدارته الحالية ممن كانوا حتى وقت قريب من أعظم عشاقه! 

إن توسيع هذه الفكرة ضمن إطار أوضح يرسم دبلوماسية ترامبية منافية تماما للخطوط العامة للدبلوماسية بشكلها المتعارف عليه عالميا، فإهانة الضيوف، والحلفاء، وتغيير المواقف والتصريحات من النقيض إلى النقيض في غضون ساعات، والمبالغة في استخدام ( السوشيال ميديا) في إيصال الرسائل ذات الطابع الرسمي، والتعامل باستعلاء تام مع النخبة، وسائر المختلفين معه في الرأي لا يمكن أن تصدر من شخص كامل الأهلية السياسية، فضلا عن شخصية موكول لها إدارة أقوى دولة في العالم.

يمكن المضي بطبيعة الحال بتعداد مثالب أخرى للرئيس ترامب أهمها علاقته المريبة بملف (أوبستين)، هذه الشخصية الأكثر كراهية في نظر معظم الأمريكيين، وما تزال التحقيقات تؤكد أن ترامب هو أقرب أصدقائه، ولا يُستبعد أن يكون أقرب شركائه أيضا... 

إن صعود الرئيس الأمريكي جاء حصيلةً لأسباب، ودواع رئيسية منها وجود حسّ شعبي عارم وجد فيه رجل أعمال بمقدوره إصلاح أمريكا بوصفها شركة فاشلة! لكن ترامب أخفق –حتى الآن- في إثبات هذا النموذج عمليا؛ إذ بدت إدارته وكأنها شركة عائلية مضطربة أكثر منها مؤسسة رئاسية مستقرة. 

لقد مرّ من الفترة الرئاسية لدونالد ترامب حتى كتابة هذه السطور حوالي سنة، والمتبقي منها ثلاث سنوات تقريبا، وخلال هذه المدة تقع على عاتق الرئيس ترامب مسؤولية معالجة ملفات شائكة، فعدا الملف الإيراني، هناك مشكلة أوكرانيا وروسيا التي وعد بحلّها بساعات، وما يزال يُنفق الشهور في محاولة الحل المزعوم بالتعاون مع (بوتين) من دون جدوى أبدا، وكلّ ذلك الفشل في كفة، وفشله في التعامل مع التنين الصيني (متكاثر الرؤوس) في كفة مقابلة؟

وأخيرا وليس آخرا هو الحادث الصادم الذي حدث أخيرا والمتمثّل في عجز أمريكا عن حماية حليفها، ووكيلها البارز (قطر) من طائرات نتنياهو، وهو الأمر الذي قرأه محللون سياسيون بوصفه ضربة في صميم سياسة القطبية الواحدة، هذه السياسة التي تجد أنصارا لها داخل البيت الأمريكي من أصحاب الكارتلات الآيدلوجية والعسكرية، فضلا عن أن إخفاق ترامب بحماية قطر يعزّز التصوّر الصيني في نطاق رؤية أمريكا متهاوية، وضرورة إيجاد نظام عالمي جديد تترأسه الصين هذه المرّة... 

هناك من يعتقد بقدرة ترامب على تحويل عقيدته الشعبوية إلى نظام دائم، وهؤلاء قسمٌ من أنصاره الأشد تطرفا لا كلهم حتى في إطار حركة "MAGA" وفي المقابل يوجد جيش من خصوم ترامب في داخل أمريكا وخارجها يعتقدون جازمين بأن أيام ترامب القادمة ستشهد تصاعدا في مناسيب الفوضى، وبروزًا لصراعات دولية وداخلية أكبر من طاقة ترامب على التحمّل، وستدفعه بشكل أو بآخر للتنحي عن منصبه كرها لا طوعا!

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/ 2001 – 2025 Ⓒ

http://mcsr.net

اضف تعليق