في عالم اليوم هناك موجة كبيرة من التغطرس والابتهاج بالذنوب والمعاصي، فأصبحت السلوكيات الخاطئة التي تغطي العالم أمرا عاديا، سلوكيات تهتك القيم الإنسانية والفطرية، حيث ينتزع الإنسان من إنسانيته، ويسلب وجوده وجوهره فيصبح لا شيء، مجرد سلعة او رقم تستهلك في أسواق المادية. ويتجسد ذلك بعنوان مثل التحرر والانفتاح والحداثة...
(فَأَعْذَرَ فِي الدُّعاءِ وَمَنَحَ النُّصْحَ وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فِيكَ لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الجَهالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلالَهِ، وَقَدْ تَوازَرَ عَلَيْهِ مَنْ غَرَّتْهُ الدُّنْيا وَباعَ حَظَّهُ بِالاَرْذَلِ الاَدْنى وَشَرى آخِرَتَهُ بِالثَّمَنِ الاَوْكَسِ وَتَغَطْرَسَ وَتَرَدّى فِي هَواهُ وَأَسْخَطَكَ وَأَسْخَطَ نَبِيَّكَ وَأَطاعَ مِنْ عِبادِكَ أَهْلَ الشِّقاقِ وَالنِّفاقِ وَحَمَلَةَ الاَوْزارِ المُسْتَوْجِبِينَ النَّار)
الذنوب والمعاصي من أهم أسباب الوقوع في الجهالة، لأن الإنسان عندما يستهين بذنوبه ويستخف بها فإنها تحجبه عن المعرفة، فالذنب الذي يرتكب يحجب جزء من عقل المذنب، واذا تجمعت الذنوب تكون كقطرات الأمطار التي تتحول الى سيل مدمِّر تدمر روحه وفكره وقلبه، لذلك فإن الاستهانة بالذنوب هي استهانة بذلك السيل الهادر المدمر الذي يجتاح كل شيء.
وعن الإمام الباقر (عليه السلام):
(لا مصيبة كاستهانتك بالذنب ورضاك بالحالة التي أنت عليها)(1).
مصيبة كبيرة، لأنها تتجمع مثل كرة الثلج وتتحول الى كارثة، والكوارث تبدأ من سلوك بسيط، وأغلب الكوارث الطبيعية تحدث من اهمال الافراد والمجتمعات واستهانتهم بمخاطرها وعواقبها، حيث تتجمع السلوكيات السيئة وتتراكم لتشكل كارثة.
(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)الروم/41.
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
(إن إبليس رضي منكم بالمحقرات)(2).
فالاستهانة تبدأ باستصغار الذنب وكأنه ليس له وجود، او اعتباره امر صغير وهين، مثل أن يشتم شخصا آخر، ولكن أي ذنب صغير عندما يعتبره بسيطا وحقيرا هو ذنب كبير، لأن الشيطان يريد ذلك وهو تصغير الذنب، ليكون بداية تسلسل طويل من ارتكاب الذنوب المحقرة.
وحينئذ فالذي يستهين بذنوبه يبدأ عملية سير متواصل لبناء الجهالة في داخله، محققا هدف الشيطان في تكريس الجهالة في أعماقه، وكلما يذنب ويذنب ويواصل ارتكاب الذنوب تزداد الجهالة استحكاما فيه، فالجهالة تحقق للشيطان الاستحواذ التام على المذنب.
وعن الإمام علي (عليه السلام):
(أعظم الذنوب عند الله ذنب أصر عليه عامله)(3).
يكرر الذنب ويصر عليه، ولا يرجع فيتوب لله عزوجل ويوقف سلسلة ذنوبه عندما يرى الخطر الكبير أمامه وفقدانه لنفسه، حيث يستحقر الذنب ويصر عليه، خصوصا أولئك الذين يقللون من اخطار الذنوب، أو يمنّي ويرجّي نفسه بأن الله سوف يغفر له لاحقا.
لكن الله سبحانه وتعالى يغفر للتائب، اما الذي يستهين ويصر على الذنب فإنه يصل إلى طريق لا رجعة فيه، مثل بعض المجرمين الذين يصلون إلى طريق مغلق، مجرمون ارتكبوا جرائم متسلسلة، ومن شدة وكثرة احتقاره للجرائم التي ارتكبها والأعمال التي قامها، ويستمر في احتقارها إلى أن تتراكم وتصبح كبيرة جدا، بحيث هو نفسه يتصور بأنه لا يمكن أن يصلح نفسه ولا يمكنه التوبة لأنه سار في هذا الطريق، وهذا هو الابسال واليأس من رحمة الله.
(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ)الأنعام 70.
بطل في ارتكاب الذنوب
المشكلة الأخرى الموجودة عند بعض الناس انه لا يكتفي بالإصرار والاستهانة بالذنب بل يصل الى مرحلة الابتهاج بالذنب، فيتفاخر فرحا بأنه فعل هذا الذنب ويعتبر نفسه بطلا لأنه تجرّأ وارتكب هذا الذنب، فهناك من يتفاخر بالسرقة أو بالرشوة أو بالفساد.
وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام):
(إياك والابتهاج بالذنب، فإن الابتهاج به أعظم من ركوبه)(4).
فالابتهاج يغذيه الشيطان ويشحنه بالتجبر والتكبر والتغطرس كما في زيارة الأربعين (وَتَغَطْرَسَ وَتَرَدّى فِي هَواهُ)، فالتغطرس من سمات المتكبر المتجبر الذي يتحدى كل شيء فيصل الى مرحلة الطغيان والاستهتار، يتحدى الآخرين بقوته وجاهه أمواله وسلطته ومنصبه وحزبه حيث تسلبه سكرة الهوى والانا الطاغية عن رؤية هاوية الموت الذي يسير نحوها مفتخرا ومبتهجا ومتغطرسا.
(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) الجاثية/23.
لذلك فإن التغطرس هو من أسوأ الذنوب، حيث تؤدي استحقار الذنوب والاستهانة بها والابتهاج بارتكابها الى نفق مظلم مسدود، وبالتالي صناعة عالم من الجهالة والأوهام الكبيرة التي تتركب في ذهنه، والابسال التام عن الغايات والعواقب.
ان الحضارات التي قامت وبادت مثل حضارة عاد وثمود ونمرود، حيث كانوا أشد قوة وبأسا، ويبتهجون بالعصيان والتمرد والطغيان على الله سبحانه وتعالى، لكنهم وصلوا ورأوا العاقبة السيئة بسبب هذا التغطرس بالذنوب والتعالي الاعمى والاستهانة بجرائمهم:
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون) غافر82/83.
صناعة عالم مظلم من الجهالة
وفي عالم اليوم هناك موجة كبيرة من التغطرس والابتهاج بالذنوب والمعاصي، حيث أصبحت كثير من السلوكيات الخاطئة التي تغطي العالم أمرا عاديا، سلوكيات تهتك القيم الإنسانية والفطرية، حيث ينتزع الإنسان من إنسانيته، ويسلب وجوده وجوهره فيصبح لا شيء، مجرد سلعة او رقم تستهلك في أسواق المادية.
ويتجسد ذلك الابتهاج والإصرار والاستهانة بالذنوب والمعاصي بعنوان مثل: التحرر والانفتاح، والحداثة، أو بعنوان وهمي شيطاني هو هوية الذات فكل شخص يختار هويته ويشبع غرائزه ويلبي مشتهياته ويفعل ما يشاء بلا حدود، ولكن هو في الواقع تدمير لهوية الإنسان الفطرية وايغال في وادي الذنوب والمعاصي.
الفرق بين المؤمن والكافر
وفي مسألة التوبة والابتهاج بالذنب يتبين الفرق بين المؤمن وغيره، فالمؤمن يتعامل مع الذنب بجدية ولايستهين به، بل يتوب لأنه يرى الذنب كبيرا جدا مهما صغر فيرجع عن ذلك لأنه يخاف من العواقب، والعاصي المصر على ذنبه لا يتوب لأنه يرى ذنبه صغيرا وان كان كبيرا، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
(إن المؤمن ليرى ذنبه كأنه تحت صخرة يخاف أن تقع عليه، والكافر يرى ذنبه كأنه ذباب مر على أنفه)(5).
فكل شخص يعرف أنه مذنب ضميره يوخزه على معصيته ويؤكد له ان هذا ذنب، لكن المؤمن العارف يعرف معنى الذنب لذلك يراه كبيرا جدا، لدرجة أنه لا ينام الليل بسبب التفكير يؤرقه عمله، ويؤنبه ضميره، فيستغفر ويتوب حتى يرفع تلك الصخرة عن كاهله، أما بالنسبة إلى العاصي فمهما كان ذنبه كبيرا لا يؤرقه مثل ذبابة مرت على أنفه.
وهذا من أكبر أنواع الجهالة، بل هو قمة الجهالة عند الإنسان العاصي الذي لا يفكر الى اين يؤدي به ذنبه وإلى أين يأخذه.
ما آثار الذنوب على الإنسان؟
قبل أن نتكلم عن آثار الذنوب، لنضرب مثالا عن ذلك، الذنوب مثل قطرات المطر، التي إذا تجمعت احتويَت بطريقة سليمة في قنوات معينة وتمضي بسلاسة إلى البحر، أما قطرات المطر إذا لا يتم احتوائها في قنوات تصبح سيلا هادرا يدمر كل شيء يكون أمامه، كما نرى في السيول والفيضانات التي تجتاح القرى والمدن مخلفة كوارث هائلة، وبعض القطرات قد تتحول الى تسونامي هائل في البحر.
الذنوب التي لا تحتوى ولا يستغفر عنها الإنسان ولا يرجع عنها تكون عواقبها خطيرة جدا، قد تدمر إنسانا أو أسرة أو مجتمعا، بل قد تهلك أمة كاملة، أو تستأصل حضارة، فالحضارات تسقط بسبب الذنوب، وهو ما يعبر عنه في فلسفة التاريخ في القرآن الكريم بقانون الاضمحلال، فالحضارة التي ترتكب الذنوب ولا ترجع عنها تصل إلى مرحلة النهاية وتنهار حيث تبلغ أجلها المحتوم:
(ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ، مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ) الحجر3/5.
هذا الأجل الحتمي للنهاية هو من باب الأسباب والمسببات، فعندما تطغى الأمم والحضارات بسبب تراكم الذنوب يتحقق المسبب وهو الانهيار والسقوط، وبالطبع فإن الأمم على طول التاريخ، يأتيها في البداية نبي أو مرسَل فتصبح مؤمنة ويحدث فيها إصلاح وحركة وإعمار وازدهار، لكن عندما تشعر بالاستغناء ويحصل لها البطر والطغيان وتغرق في وحل المعاصي والذنوب، تبدأ فيها عملية الانحلال والاضمحلال ومن ثم الانهيار.
ومع الانحلال تنتقل من حالة المعرفة إلى حالة الجهالة ومشتقاتها من التفاهة والسطحية، فمثلما انتقل المسلمون من حالة المعرفة في ظل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) إلى حالة الجهالة المدقعة في زمن الأمويين، مما قادهم إلى الوقوع في عواقب خطيرة جدا.
لماذا الإنسان لا يرى العواقب؟
هذا الإنسان الذي يدعي بأنه متقي، يصلي ويصوم ويلتزم بالعبادات لكن في مرحلة معينة ينفلت بسبب مال أو سلطة او جاه او شهوة فيتمرد على الله سبحانه وتعالى، لماذا لا يفكر بالعواقب؟، ألا يفكر قليلا أن لكل شيء أجل وينتهي به، وفي واقع الامر هو في جهالة تامة، لأنه إذا كانت عنده معرفة وعلم وتقوى، لأدرك العواقب وتحذر من الوقوع في مخاطرها، حيث يكون عقله اقوى فلا تجنح به غرائزه، أما الذي تكون غرائزه أقوى من عقله، فسوف تجنح به وتقوده نحو المنحدر والوقوع في الهاوية السحيقة.
وعن الإمام الباقر (عليه السلام):
(لا تستصغرن سيئة تعمل بها، فإنك تراها حيث تسوؤك)(6).
ربما لا ترى السيئة الآن، أو تراها صغيرة ولكنك تراها حين تتجسد كعاقبة لسوء عمله، فمن توخزه إبرة صغيرة قد لا يعبأ بها، لأنها صغيرة ولا يحس بها، لكن هذه الوخزة قد يكون فيها فايروس فتلتهب وتلتهب إلى أن يحدث في جسمه التهاب كامل، فتقضي عليه.
فماذا حدث من هذه الوخزة الصغيرة، أو هذه البعوضة التي يستهين بها الإنسان، فإذا كانت حاملة لفايروس الملاريا، مع أنها صغيرة جدا وتبدو خفيفة جدا لكنها سوف تؤدي به إلى الموت، فالذنب كالفايروس، وإذا لم يفكر في عواقب هذه السيئة فسوف يبان في النهاية أن عاقبتها سيئة. لذلك فإن من الجهالة استصغار الذنب لأنه باستصغاره يتحول الى معاصي وذنوب كبيرة، فالاستصغار هو من ضيق الأفق واستجهال لعواقب المستقبل.
جهل الإنسان بعيوبه اكبر الذنوب
ولذلك فإن الذي لا يعرف عيوبه لا يحاسب نفسه ولا يراجعها ولا ينصحها ولا ينتقدها، فهذا الإنسان سوف يكون دائما في جهل تام، وهو من اسوء العواقب.
وعن الإمام علي (عليه السلام):
(جهل المرء بعيوبه من أكبر ذنوبه)(7).
وهنا يتبين تأثير الجهل، وكيف تكون هناك علاقة بين الجهل والذنب، فالذنب يؤدي إلى الجهل باستمرار، عندما يستمر بارتكابه، وكذلك جهل الإنسان نفسه يؤدي به إلى جهله بعيوبه وجهله بنفسه، الذي يؤدي به كذلك إلى ارتكاب الذنوب.
فجهل الإنسان بعيوبه وعدم معرفته وعدم فهمه للعواقب التي تنتج من خلال عيوبه تؤدي به إلى الجهالة، مثلا الإنسان المتكبر ويعتبر نفسه عالِما، هذا التكبر هو عيب، فهل هذا العالم هو عالم؟، وهو المتكبر والمتغطرس الذي يستهين بطلابه ويحتقرهم، ويهينهم ويعاقبهم عقابا شديدا.
إذا الإنسان لا يدرك عيبه فهذا يحدث بسبب التغطرس والتكبر والجبروت الذي يؤدي به إلى المزيد من الجهالة، بينما العالم هو المتواضع الذي يدرك ويعرف جهله ويصلح نفسه فلا يقع في تلك الذنوب التي يرتكبها، فيتجنب العواقب السيئة من خلال معرفة عيوبه.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام):
(كتب رجل إلى الحسين صلوات الله عليه: عظني بحرفين؟ فكتب إليه: (من حاول أمرا بمعصية الله كان أفوت لما يرجو وأسرع لمجيء ما يحذر)(8).
يحاول أن يحقق اهدافه من خلال المعصية، ويفعل ذلك من أجل الحصول السريع على النتائج التي يريدها، فالغاية عنده تبرر الوسيلة، كالطالب الذي يغش في الامتحان، فهذا الطالب يريد أن ينجح بسرعة بأية طريقة كانت، بالنتيجة يمسكه المعلم المراقب متلبسا بالغش فيتلبس به العار، كذلك الإنسان الذي يحاول من خلال المعصية والانتهازية والاستغلال، والفساد أن يحصل على مبتغاه، لكنه لا يحصل عليه، فهو كان يخاف الفشل فوقع فيه، وكان يخاف الفقر فوقع فيه.
فيتوجّه إلى السرقة أو يأخذ رشوة من الناس، فيقع في الفساد والفشل والفقر وفي أشياء أخرى، فالشيء الذي كان يحذر منه سيسقط فيه، وهذا يعني قمة الجهالة، فالإنسان الذي لا يعرف عواقب سلوكه ومداخل عيوبه ونتائج أموره، فإن نتائج اعماله سترتد عليه ويخسر كل شيء، مثلما حصل مع الذين خذلوا الإمام الحسين (عليه السلام)، حيث أرادوا أن ينقذوا أنفسهم من الموت والقتل، ولكنه وقعوا في الذي كانوا يحذرون منه، وخسروا الدنيا والآخرة، فالخذلان هو أسوأ شيء في الإنسان، فكيف اذا كان الخذلان هو عدم نصرة الإمام الحسين وأهل البيت (عليهم السلام)، والذي يخذل يُخذل، فهؤلاء خذلوا أنفسهم حيث خرجوا من رحمة الله الواسعة الى جحيم الطاغوت وعبودية الشيطان.
الانهماك في المعاصي
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
(يا عباد الله احذروا الانهماك في المعاصي والتهاون بها فان المعاصي تستولي الخذلان على صاحبها، حتى توقعه في رد ولاية وصي رسول الله صلى الله عليه وآله ودفع نبوة نبي الله، ولا تزال أيضا بذلك حتى توقعه في دفع توحيد الله والالحاد في دين الله)(9).
وهذا التسلسل يبرز كيفية وصول الانسان الى أدنى مستويات الانحطاط الجهالة وهو الالحاد، فالمعاصي عندما تصبح عادة له ينهار نفسيا ويصاب بخذلان الذات وفقدان الإرادة فيستولي عليه الظلام واليأس والعدم ويفقد غاياته الوجودية في الحياة المستدامة الأبدية، فيعيش النكران المطلق. ومع ذلك يستهين بالأمر ويقوم بالخذلان.
فالذي يمارس المعاصي من الصباح حتى الليل، فيبدأ نهاره بالكذب والسرقة والخيانة والرشوة والشتم والغيبة والتسقيط، وهذا الانهماك بهذا من الصباح إلى الليل يؤدي به إلى ما نسميه في الأخلاق والمنطق بأن يصبح (ملَكَة) أي سلوك ممنهج ثابت وعادة راسخة، مثل الصدق والكذب والتقوى والزهد، فهذه ملَكات يتعلمها الإنسان تدريجيا ويعتاد عليها الى تصبح قالبا صلبا، لذلك من أراد ان يغير نفسه بترك العادات السيئة وفعل العادات الجيدة مثل الصدق والأمانة والتقوى عليه وباستمرار دائم أن يتورع عن المحارم، حتى يتطور هذا السلوك إلى ملَكة ممنهجة تسيطر على سلوكه، وعادة راسخة لايمكن ان يحيد عنها، فلا يقع في العصيان، وعلى العكس فإن الذي يقع في مصيدة المعاصي عندما يكررها ويستمر في ذلك دون توبة، تصبح ملكة راسخة فيه وعادة لايمكن التخلي عنها، فالذي يوغل في المعاصي ولايقوم بإيقاف مسلسل ممارسة الذنوب يؤدي به ذلك إلى الانهماك في المعاصي إلى أن تستولي وتسيطر عليه فتستعبده.
والانهماك: هو الاستغراق في فعل والانشغال به برغبة واهتمام وحرص شديد، بحيث لا يهتم بأي شيء آخر.
عدمية الخذلان
وبهذا الانهماك في المعاصي يستولي عليه الخذلان، ومعنى الخذلان في اللغة: هو الشعور بالخزي والخيبة والهزيمة وفقدان الآمال، وفي مقابل الخذلان التوفيق والنصر والتوكل، وقد قال تعالى:
(إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ) آل عمران 160.
فالخذلان الناتج عن المعاصي هو ما يمكن أن نسميه بتراكم الطاقة السلبية في الذات فتنتج الاكتئاب، الإحباط، اليأس، العدمية.
والعدمية تعني إن الإنسان ليس عنده إيمان بشيء، فليس هناك عنده آخرة ولا يوم حساب، ولا يؤمن بوجود الخالق (والعياذ بالله)، وهذا كله نتيجة من الجهالة التي انتجها الانهماك في المعاصي، فالذي لا يؤمن بالله سبحانه وتعالى هو أجهل الجُهال بل يعيش احط مراتب الجهالة، لأن أبسط القوانين الموجودة في الكون والتي نحن نعمل بها في كل لحظة من لحظات حياتنا، تدلنا على أن لكل سبب مسبّب، ولكل علّة معلول.
وهذا القانون التكويني هو أبسط قانون منطقي لا يقبل الشك، ولكن هذا الشخص الذي يستولي عليه الخذلان، يستحكم فيه الجهل بحيث يقع في الانحرافات العقائدية، فالذين ينهمكون في الذنوب تدريجيا يصلون إلى مرحلة الانحطاط الاخلاقي في داخلهم ومن ثم الانهيار النفسي، بما يؤدي للوصول الى مرحلة انكار الأسس العقائدية كالتوحيد والنبوة والامامة والمعاد.
(لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً) الإسراء22.
فقضية الإلحاد والانحرافات العقائدية هي قضية نفسية تعبر عن احتقار الذات وعتمة النفس، كما بينت الرواية، وتصدع النفس وخذلان الذات هو أحد عوامل ومن ضمنها هذا العامل الأساسي وهو الانهماك في المعاصي تسبب في الالحاد، لذا فإن عملية تصحيح العقائد عند الإنسان تبدأ بعملية تصحيح السلوكيات بمجابهة المعاصي، وهي عملية تحتاج إلى معالجة معرفية الى إيجاد تحول عميق لاستنقاذ الانسان من الخذلان الذاتي والجهالة المدقعة. فمن يعصي الله تعالى يخذل نفسه فتنطفئ ذاته، ومن يتورع عن المعاصي يستنصر نفسه وتستنير ذاته.
وهذا هو الذي أراده الإمام الحسين (عليه السلام) في تصحيح حركة الامة واستنقاذها من خذلانها العدمي بتحرير النفس من الانهماك في المعاصي ووضعها في الطريق المستقيم، (وَمَنَحَ النُّصْحَ وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فِيكَ لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الجَهالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلالَهِ)، وهذا الخذلان هو في صميم حيرة الضلالة التي وصل اليها عندما انهمك في معصية الله، وغرق في شهواته وأهوائه وأنانيته، بحيث لم يبق عنده حدود ولا قواعد تشير الى وجوده الغائي وانتصاره لذاته الانسانية.(وَقَدْ تَوازَرَ عَلَيْهِ مَنْ غَرَّتْهُ الدُّنْيا وَباعَ حَظَّهُ بِالاَرْذَلِ الاَدْنى وَشَرى آخِرَتَهُ بِالثَّمَنِ الاَوْكَسِ وَتَغَطْرَسَ وَتَرَدّى فِي هَواهُ).
الخذلان بغياب الحدود والقواعد
هناك أناس ليس لديهم حدود شرعية ولا قواعد قانونية، فيعيشون في فوضى، والإنسان الذي ليس عنده حدود شرعية لا توجد عنده حدود قانونية، فإذا وجدت القوى الأمنية يخافها، وبمجرد أن تغيب هذه القوة تجده يخالف القانون، لأنه لا يوجد عنده رادع ذاتي يردعه الا الخوف من العقوبة.
لذا فإن الإنسان الذي ليس عنده حدود شرعية وقانونية وضميره لا يعمل، هذا بالنتيجة يصل إلى مرحلة يستلب نفسه، الاستلاب واقتلاع النفس تؤدي إلى خذلانها وتحطيم ضميره وانحجاب عقله، وهذا الخذلان الذاتي هي عملية تدمير ذاتي تؤدي به إلى مختلف المخاطر التي تقوده نحو الهاوية.
لذلك نحن نقول للشباب الأعزاء، أنتم الذين تسيرون على نهج الامام الحسين (عليه السلام)، وتريدون نصرته وعدم خذلانه، لابد أن يبتعدوا عن طريق الضلالة والجهالة، عبر الالتزام بالحدود الشرعية والابتعاد عن ارتكاب الذنوب والمعاصي، وأن يروضوا انفسهم، على التقوى من خلال ممارسة الفضائل والطاعات والخيرات وانتهاج الحق ونكران الباطل، والابتعاد عن التسقيط والغيبة والشتم والسب، وعدم احتقار الآخرين بل احترامهم، ونبذ العنف والعمل التسامح واللطف والرحمة.
ذلك ان انتهاك الحدود والقواعد والانهماك في الذنوب يؤدي إلى الجهالة، والجهالة تحجب عنه ضميره ونفسه، وتأخذه نحو الانحراف، وتستلبه بأن تجعله في حالة خذلان وعدمية، وللأسف الشديد عندما ننظر إلى هذا العالم اليوم قد فتح باب الماديات بأوسع مدياته، فدخل الناس واستغرقوا في ملذاته ومتعه بلا حدود، وانفتحوا على المعاصي، والاستهانة بها واستصغارها بل واحتقارها، معللين ذلك بالتقدم والتنوير والمدنية.
وهناك من يقول أنتم منغلقون، ونحن منفتحون، ولكن أنا أقول ان الانفتاح على المعاصي هو الذي يؤدي إلى استلاب الذات واغترابها عن وجودها الغائي، فيجب أن لا تجرفنا المادية الصاخبة والبهرجة المضللة، فهؤلاء الذين كانوا يبحثون عن حرية الجسد من خلال استلاب أنفسهم وذواتهم، هم ضيعوا أنفسهم ودمروا أجسادهم بعمليات التجميل، والتهام الماديات بشراهة وحرص، حتى اصبح الجسد مبتليا بالأمراض، بالمخدرات والخمور المختلفة، واشكال الطعام السيّئ، وأنماط الحياة الرديئة.
حتى هذه التكنولوجيا الحديثة اثرت على الشباب من كثرة ممارستهم لألعاب الفيديو والتكنولوجيا، حتى فقدوا الحد الفاصل بين الواقع والوهم، فيتحول الى قاتل حقيقي مستلهما ذلك من لعبة خطيرة جدا، لذلك كثرت الحوادث العنيفة.
نعم التكنولوجيا جيدة إذا تم استخدمها بالشكل الصحيح، لكن التكنولوجيا تحولت الى ادمان مؤذ يؤدي الى الانهماك في المعاصي فتستلب الإنسان من انسانيته واغراقه في مستنقعات المعاصي والأوهام والاستهلاك المريض، والانهيام في الكسل والترف، فلا يبق شيء للإنسان يرى فيه نفسه، بل يلفه الضياع والظلام والعتمة السوداء في داخل نفسه.
العاصي خاسر مهما استقوى
وفي الآية القرآنية: (قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا) نوح 21. فالذين يهيمون وراء المال والقوة والنفوذ لن يربحوا، لأن العاصي خاسر ابدا ودائما، لأن الله سبحانه وتعالى جعل الانتصار والربح في الطريق المستقيم، فمهما حصل من أموال مزيدة وقوة عددية.
لذلك فإن الذين تركوا الإمام الحسين (عليه السلام) بسبب إغراء جيش يزيد لهم بالمال أو بالسلطة، وهم يعرفون من هو الإمام الحسين وهو سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فهؤلاء لم يربحوا بل خسروا الخسران المبين، فالعصيان يؤدي إلى الخسارة والخذلان، وطاعة الله سبحانه وتعالى تؤدي إلى الانتصار والربح.
لذلك نرى في زيارة الأربعين هذا المعنى في الطاعة والمعصية: (وَقَدْ تَوازَرَ عَلَيْهِ مَنْ غَرَّتْهُ الدُّنْيا وَباعَ حَظَّهُ بِالاَرْذَلِ الاَدْنى وَشَرى آخِرَتَهُ بِالثَّمَنِ الاَوْكَسِ وَتَغَطْرَسَ وَتَرَدّى فِي هَواهُ وَأَسْخَطَكَ وَأَسْخَطَ نَبِيَّكَ وَأَطاعَ مِنْ عِبادِكَ أَهْلَ الشِّقاقِ وَالنِّفاقِ وَحَمَلَةَ الاَوْزارِ المُسْتَوْجِبِينَ النَّار).
فكيف يمكن لهذا الانسان الذي خلقه الله تعالى كريما حرا ان يدخل في العالم الاجرامي للجبابرة والطواغيت والمستبدين والظلمة ويعيش بالدماء بالقمع والظلم، وهو يعلم انه في أي وقت يمكن أن يقتله هذا المجرم، فكيف يقبل ان يعيش خانعا لأهل الشقاق والنفاق؟
ذلك ان الانهماك في المعاصي لايزيده الا تغطرسا فيتردى في هواه، يحسب انه سيربح لو انه اصبح على شاكلة الظالمين والمنافقين، وكيف للإنسان أن يعيش هانئا في مجتمع منافق، لا يعرف فيه من هو الصديق ومن هو العدو، وهذا من أسوأ العواقب لطاعة أهل الشقاق والنفاق، فيعيش تعيسا خائفا قلقا لايرى الا الظلام والبؤس امامه، فيزداد خذلانا لنفسه واحتقارا لذاته فتنطفأ روحه، ويصبح مجرد كائن متشكل من الشرور، وكل هذا هو من عواقب المعصية والجهالة.
وللبحث تتمة...
اضف تعليق