نحن نتغير بقدر ما تتغير بيئتنا، ونرتقي بقدر ما ترتقي نظمنا، فالفرد ليس كائنا معزولا، بل مرآة صافية لما حول؛ إذا انضبط الإطار، انعكس الانضباط، وإذا فسد النظام، انفلتت السلوكيات، وما أحوجنا اليوم إلى بيئة مثالية تنتج مواطنا مثاليا، قبل أن نحمّل المواطن نفسه وزر الفوضى التي لم يصنعها وحده بل اجتمعت مجموعة عوامل على تكوينها...

هنالك اجماع من قبل علماء الاجتماع حول السلوك الإنساني بانه لا ينشأ في فراغ، بل يتشكل في إطار بيئته المحيطة وما تفرضه من نظم وقوانين وظروف معيشية.

ولعل هذا المبدأ يفسر لنا الكثير من الظواهر التي نراها يوميا في حياتنا العامة، حيث تبدو التصرفات الفردية انعكاسا مباشرا لحالة البيئة التي يعيش فيها الإنسان، فإذا كانت البيئة مثالية، محكومة بالنظام والعدالة، انعكس ذلك على الأفراد فصار سلوكهم أكثر عقلانية واتزانا.

فإذا غابت المعايير ماذا يحصل؟

إذا غابت المعايير وانفلت النظام، فليس مستغربا أن نرى الفوضى وقد تسللت إلى تفاصيل السلوك البشري.

لنأخذ مثالا من واقعنا العراقي، فعند زيارة المستشفى الحكومي أو إحدى الدوائر الرسمية، في مثل هذه الأماكن، كثيرا ما يجد المواطن نفسه مضطرا إلى التدافع أو رفع صوته أو الدخول في جدال مع الموظف، لا لأن طبيعته عدوانية، بل لأن غياب النظام يدفعه إلى ذلك.

في كل دائرة تجد الفوضى متواجدة، يقابلها غياب تام للطوابير التنظيمية، كذلك عدم وجود مقاعد للانتظار، بينما الإجراءات الإدارية تتسم بالتعقيد، في النهاية يتحول المكان إلى ساحة صراع غير معلن، يخرج منها المواطن مرهقا نفسيا وجسديا.

وهنا يطرح السؤال نفسه، هل المشكلة في طبيعة الناس، أم في بيئتهم التي لا توفر لهم بدائل حضارية للتعامل؟

في المقابل نفس الفرد الذي يتصرف بهذه الطريقة غير المناسبة او العنيفة في بعض الأحيان، نجده، إذا سافر إلى بلد يحترم النظام ويطبقه بدقة، نراه يلتزم بالدور، ويصطف في الطابور، ويتحدث بهدوء، لأنه يعرف مسبقا أن النظام سيضمن له حقه.

والفارق هو ان البيئة هناك وفرت له مظلة من العدالة والإنصاف، فانعكس ذلك على سلوكه ليبدو أكثر تحضرا واتزانا، فالفرق إذن ليس في الفرد بحد ذاته، وإنما في السياق الذي يعمل ضمنه.

هذا الأمر لا يقتصر على المؤسسات الصحية أو الدوائر الحكومية، بل يمتد إلى الشارع والمدرسة والأسواق وكل تفاصيل الحياة، السائق الذي يقطع الإشارة الحمراء أو يسير عكس الاتجاه، غالبا لا يفعل ذلك بدافع التمرد الشخصي فقط، بل لأنه يعرف أن غياب الرقابة والردع يجعله في مأمن من العقوبة، في حين أن السائق ذاته، إذا وُضع في بيئة تفرض النظام بصرامة، سيلتزم تلقائيا بالقوانين.

إذن البيئة لا تكتفي بتأطير سلوك الفرد، بل تساهم في تشكيل وعيه الجمعي، بحيث يصبح النظام جزءا من شخصيته، أو الفوضى جزءا من يومياته، ومع مرور الوقت، يتحول هذا السلوك المكتسب إلى ما يشبه العادة الاجتماعية، فنراها تنتقل من جيل إلى جيل، حتى يتصور المراقب او القادم من خارج هذه المنظومة الاجتماعية، ان السلوكيات نابعة من طبيعة المجتمع، بينما هي في حقيقتها نتاج لبيئة متخلخلة أو مستقرة.

وهنا تبرز أهمية الإصلاح البيئي ــ ليس بالمعنى الطبيعي فقط - بل بالمعنى الاجتماعي والإداري أيضا فإذا أردنا أن نرى مجتمعا يتصرف أفراده بعقلانية واحترام متبادل، فلا بد أن نوفر لهم بيئة تحتكم إلى القانون وتكافئ الالتزام وتعاقب الفوضى.

عندها فقط سنشهد تحولا حقيقيا في السلوكيات، من التدافع إلى الاصطفاف، ومن الصراخ إلى الحوار، ومن المغالبة إلى العدالة.

إن جوهر المشكلة في بلادنا ليس في طبيعة الفرد العراقي كما يُروَّج أحيانا، وإنما في ضعف البنى المؤسسية التي لا تمنح المواطن الثقة بالنظام، وحين نعيد الاعتبار لهذه البنى، ستتبدل صورة المواطن ذاته، لأنه ببساطة انعكاس لواقعه.

الخلاصة ... نحن نتغير بقدر ما تتغير بيئتنا، ونرتقي بقدر ما ترتقي نظمنا، فالفرد ليس كائنا معزولا، بل مرآة صافية لما حول؛ إذا انضبط الإطار، انعكس الانضباط، وإذا فسد النظام، انفلتت السلوكيات، وما أحوجنا اليوم إلى بيئة مثالية تنتج مواطنا مثاليا، قبل أن نحمّل المواطن نفسه وزر الفوضى التي لم يصنعها وحده بل اجتمعت مجموعة عوامل على تكوينها.

اضف تعليق