وكلّ ما حدث في ماليزيا يمكن جعله كله، أو بعضه في متناول خريطة طريق لحلّ المعضلات التي تواجه العراقيين، لاسيما ما يتعلق بمنطق المحاصصة، وهو أشدّ المعاويل تخريبا، وأكثرها خطرا؛ لأن في بقائه وأدًا لفكرة المواطنة من جهة، وتبديدًا للفرصة التاريخية التي تعاونت في خلقها إرادة داخلية وخارجية، وربما إرادة غيبية أيضًا...
من أكبر النكسات الفكرية والنفسية التي منينا بها مؤخرا هو تقييمنا للتجربة الديمقراطية في بلدنا العراق، إلى الحدّ الذي جعل من قسم كبير من النخبة لدينا ينظرون إلى النقاش عن الديمقراطية بوصفه ترفًا فكرًا لا جدوى منه! وبحيث صار البعض منّا ممن كابد العيش عقودا تحت نير الحكم الدكتاتوري ينظر إلى هذه الممارسة نظرة سوداوية أسوة بالقسم الأعظم من الأجيال الجديدة التي لم تخضع لأساليب العنف الممنهجة التي مورست ضدنا إلى الدرجة التي جعلت من أحدنا وهو في طريقه إلى الاستفتاء العام على شخصية (السيد الرئيس) لا ينتابه رعب أكبر من احتمال أن يسوقه الارتباك، والخوف إلى اختيار كلمة (لا) بدلا من كلمة (نعم)، فينتهي به المطاف إلى حوض من أحواض التيزاب...
إن أهم التحديات التي تواجه الديمقراطية العراقية بحسب ملاحظاتي لهذه التجربة التي رافقتها من يوم ولادتها عام 2005 وحتى الآن يتجلى في منهج المغالطات المعتمد في تقييم تجربة الديمقراطية العراقية، هذه المغالطات التي دُّست، وتُدَس في مجرى الحديث العام عن هذه التجربة و(اعتبارها) مسلّمات حتمية، ومنها الربط بين ما هو رئاسي أو ملكي بما هو دكتاتوري، وهذه شبهةٌ ظاهرٌ خطؤها الجسيم، لكنها ما تزال تفعل فعلها المدمّر في تعبئة التعتيم، ومن المغالطات الشهيرة جدا القول بأن ديمقراطيتنا مصممة لإعادة إنتاج الفاسدين والفاشلين، أو أن الشعب الذي ننتمي له- وهذه هي الطامة الكبرى، والحسرة العظمى- يحمل ميلا فطريا تجاه الاستبداد والدكتاتورية، ويكتظ بعقد نفسية مرضية تستحيل معها نجاعة الحّل الديمقراطي أبدًا، ونحو ذلك من دواعي الإحباط وعوامل التيئيس الاجتماعي، بل إنك واجدٌ حتى في صفوف المؤمنين بفكرة الديمقراطية لونًا من التفكير لا يقلّ في ضرره عن كل ما تقدّم ذكره، لاسيما ما يتصل بقصة احتياج الديمقراطية إلى قرون لكي تنضج وتُصبح صالحة لتناول العراقيين!
ويستشهد هؤلاء دعما لمقالتهم بتجربة الديمقراطية الفرنسية التي اشتعلت شرارتها الأولى في الرابع عشر من شهر تموز سنة 1789، واحتاجت إلى قرون كي تصل إلى ما هي عليه الآن، ولذلك ينبغي الصبر بمقدار هذه المدّة لنجني ثمرة الديمقراطية!
إن ذكرنا لما سردناه توًا من أمثلة المغالطات المنتشرة في الفضاء العراقي لا يعني بأي حال من الأحوال انتفاءها إلى لغة منطقية ترتكز إلى أدلة، وبراهين مقنعة إلى حدّ معين، فأي شخص له شيء من الانتباه، وقوة الملاحظة يستطيع أن يُحصي مقدارا وافيا من الحجج المؤيدة لما تذهب إليه جماعات المغالطين، ويكفي في تصوّر هذا الأمر -مثلا- مراجعة قوانين الانتخابات المتغيرة في كل موسم انتخابي تقريبا، كاعتماد القائمة المغلقة، ثم الانتقال إلى القائمة المفتوحة، وكذلك المراوحة بين الدائرة الواحدة والدوائر المتعددة...الخ لبلوغ نتيجة مفادها أن التجربة الديمقراطية العراقية صُمّمت من أجل إعادة انتاج الفاسد، والفاشل.
ومثل هذا السلاح العقلي، أو المنطقي يمكن العثور عليه في سائر المغالطات الأخرى خاصة حين ينفتح الباب على مصراعيه أمام مذاهب السفسطة، والتنظير المؤسس عليها من دون حسابٍ لمجريات لواقع، وما يكتنفه من ممكنات قابلة لتحقيق أقصى قدر من المنفعة العامة لو أحسنت (النخبة) أو بعضها استثمارها استثمارًا (ميدانيا)، لاسيما ما يتعلق بتفعيل ثقافة التقاضي التي تبيحهها القوانين العراقية الحديثة، ولا تستثني تحريك الدعاوى ضد كل موظف حكومي فاسد ابتداءًا برئيسي الجمهورية، والوزراء فنازلا...
إن التدبر في دراسة تواريخ بعض الدول المشابهة لنا من حيث تنوع النسيج العرقي، والديني يمكن أن يرفع من مناسيب الأمل بيننا، فالتجربة الماليزية -مثلا- لا يتعدى عمرها بضعة عقود لكنها استطاعت أن تصبح رقما مهما في معادلة الديمقراطية العالمية، وكان من نتائجها (السريعة) تحقيق الاستقرار السياسي النسبي، ووجود أحزاب عكست التركيبة (المعقدة) لمواطنيها، فضلا عن إدارتها الكفوءة لملفات فساد طواقمها السياسية، وقدرتها العالية في الإطاحة بالتحالفات التقليدية، وبناء تحالفات جديدة تتمتع بقدر مطلوب من الثقة الجماهيرية، والأهلية السياسية.
وكلّ ما حدث في هذه الدولة الآسيوية الإسلامية يمكن جعله كله، أو بعضه في متناول خريطة طريق لحلّ المعضلات التي تواجه العراقيين، لاسيما ما يتعلق بمنطق المحاصصة، وهو أشدّ المعاويل تخريبا، وأكثرها خطرا؛ لأن في بقائه وأدًا لفكرة المواطنة من جهة، وتبديدًا للفرصة التاريخية التي تعاونت في خلقها إرادة داخلية وخارجية، وربما إرادة غيبية أيضًا!
أمّا الركون إلى دواعي الإحباط، وعوامل التيئيس فلن يتوقع عاقل منها أكثر مما توحيه ملامح صورتها القاتمة الكئيبة...
اضف تعليق