يوم عاشوراء هو دمُ الحزن الذي سال في عروق التاريخ، وصرخة الروح التي لم تُخمد عبر القرون. هو ذلك الألم الذي ينزف في قلوبنا، والوجع الذي لا يفارقنا، حين نرى دم الإمام الحسين يُسفك من أجل الحق والكرامة. عاشوراء مدرسة الألم العظيم، ونهر الوفاء الذي لا يجفّ، ومشهد الشهادة...
عاشوراء صرخة حزنٍ مدوِّية لا تسكتها الأيَّام ولا تُطفئها السنون؛ إنَّه اليوم الذي ظهر فيه الظُّلم بأبشع صوره، وسُفكت فيه الدِّماء الطَّاهرة على صعيد كربلاء، وتقطَّع فيه جسد الإمام الحسين (عليه السلام) على أيدي أعداءٍ جرّدوا أنفسهم من كلِّ معاني الرَّحمة والإنسانيَّة؛ ولهذا، فإنَّ عاشوراء ليس يومًا يُحتفل به، ولا مناسبة يُرسم فيها الفرح؛ وإنَّما هو موسم حزن وحداد يُحاكي عمق الجراح التي لا تندمل.
روي عن أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) أنَّه قالَ: "إِنَّ يَوْمَ الْحُسَيْنِ أَعْظَمُ مُصِيبَةً مِنْ جَمِيعِ سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكِسَاءِ الَّذِينَ كَانُوا أَكْرَمَ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَانُوا خَمْسَةً، فَلَمَّا مَضَى عَنْهُمُ النَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وآله) بَقِيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، فَكَانَ فِيهِمْ لِلنَّاسِ عَزَاءٌ وَسَلْوَةٌ، فَلَمَّا مَضَتْ فَاطِمَةُ كَانَ فِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ لِلنَّاسِ عَزَاءٌ وَسَلْوَةٌ، فَلَمَّا مَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) كَانَ لِلنَّاسِ فِي الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ عَزَاءٌ وَسَلْوَةٌ، فَلَمَّا مَضَى الْحَسَنُ كَانَ لِلنَّاسِ فِي الْحُسَيْنِ عَزَاءٌ وَسَلْوَةٌ، فَلَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ لَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ الْكِسَاءِ أَحَدٌ لِلنَّاسِ فِيهِ بَعْدَهُ عَزَاءٌ وَسَلْوَةٌ، فَكَانَ ذَهَابُهُ كَذَهَابِ جَمِيعِهِمْ كَمَا كَانَ بَقَاؤُهُ كَبَقَاءِ جَمِيعِهِمْ، فَلِذَلِكَ صَارَ يَوْمُهُ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ مُصِيبَةً"(1).
إنَّ اليوم العاشر من شهر محرَّم الحرام هو يوم الحزن الأعظم، واليوم الذي تخفق فيه قلوب المحبِّين بالحسرة، وتنحني فيه الأرواح بخشوع في محراب مصاب أهل البيت (عليهم السلام)؛ ونظرًا لجلال هذا اليوم، سنتأمَّل في بعض آدابه، عسى أن نقترب من أسرار معانيه وندرك شيئًا من مقاصده العظيمة.
الأدب الأوَّل: الإمساك عن السَّعي في حوائج الدُّنيا.
ليست عاشوراء دمعةً فحسب، ولا نحيبًا يعلو الوجوه؛ هي مدرسة تهذِّب النَّفس على أن تعيش المأساة بكلِّ جوارحها، لتتطهر من رجس الدُّنيا، وتعلو عن سفاسفها، وتفهم أنَّ الولاء لأبي عبدالله الحسين (عليه السلام) وفاءٌ يتحوَّل إلى سلوك لا يساوم. ومن أجل هذا، لا ينبغي لمحبٍ صادقٍ أن يُخبئ شيئًا من متاعه ليومه؛ لأنَّ التَّوفير في يومٍ قُتلت فيه ذريَّة النبوة خيانةٌ خفيَّة لدم الإمام الحسين (عليه السلام)، وميلٌ عن دربه الذي نادى فيه:
ألا من ناصر ينصرنا؟
ألا من ذاب يذب عن حرم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)؟
إنَّ التعلُّق بالدُّنيا في عاشوراء، أمر مذموم؛ فهذا يومٌ تُطفأ فيه الضحكات، ويُطفأ فيه اللهو، وتُطفأ فيه الرفاهيَّة، ليبقى القلب وحده في مناحةٍ لا تنتهي، والعين وحدها تذرف دموعًا من نار، والنَّفس وحدها تُطهِّرها ألسنة المصيبة؛ علَّها تقترب خطوة من مدرسة الإمام الحسين (عليه السلام).
وفي الامتناع عن طلب الدُّنيا في عاشوراء، فلسفة انقطاعٍ عن الزَّيف، وتواصلٌ صادقٌ مع الحق، وتجديدٌ للعهد مع إمامٍ رفض الحياة إن لم تكن حرَّة، وبذل عمره ليبعث القيمَ من جديد، ويُحيي ما اندثر من مبادئ الحقِّ والكرامة. ومن لا يُمسك عن الدُّنيا في هذا اليوم، فكيف له أن يحسَّ بحرقة المصاب؟
وكيف له أن يذوق شيئًا من مرارة كربلاء؟
رُوِيَ عن الإمام علي بن موسى الرِّضا (عليه السَّلام) أنَّه قال: "مَنْ تَرَكَ السَّعْيَ فِي حَوَائِجِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ قَضَى اللَّهُ لَهُ حَوَائِجَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمَ مُصِيبَتِهِ وَحُزْنِهِ وَبُكَائِهِ يَجْعَلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمَ فَرَحِهِ وَسُرُورِهِ وَقَرَّتْ بِنَا فِي الْجِنَانِ عَيْنُهُ، وَمَنْ سَمَّى يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَوْمَ بَرَكَةٍ وَادَّخَرَ لِمَنْزِلِهِ فِيهِ شَيْئاً لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيمَا ادَّخَرَ، وَحُشِرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ يَزِيدَ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ وَعُمَرَ بْنِ سَعْدٍ لَعَنَهُمُ اللَّهُ إِلَى أَسْفَلِ دَرْكٍ مِنَ النَّار"(2).
إحياء مراسم عاشوراء أفضل حتَّى من طلب العلم
روى المرجع الدِّيني سماحة السيِّد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله): عن والده (قدس الله روحه) في سامراء -والقصَّة تعود إلى زهاء قرن منذ الآن- قال:
جرت عادتنا -نحن أهل العلم- أن نعطِّل الدروس والمباحثة منذ اليوم الأوَّل من المحرَّم حتَّى الثَّالث عشر منه رغم أنّنا نعتقد أنَّ عملنا في الحوزة من الدَّرس والتَّدريس والمباحثة هو واجب عينيّ. وكنَّا ننشغل بمراسم ومجالس العزاء لأبي عبد الله الحسين (سلام الله عليه)، فنشارك في مجلس للعزاء واللطم في المدرسة، وحتَّى الوقت المتبقِّي كنَّا نصرفه في المباحثة والكتابة حول سيِّد الشهداء الإمام الحسين (سلام الله عليه) وقضيَّته أو في مطالعة الكتب التي في هذا الشَّأن مثل كتاب (القمقام الزخار) أو ما جاء في كتاب (بحار الأنوار) حول الإمام الحسين (سلام الله عليه) وقصَّة استشهاده.
وفي إحدى السَّنوات فكَّر أحد الطلبة في هذا الأمر ورأى أنَّه لا ضرورة للانقطاع عن الدَّرس خلال هذه الأيَّام، وكان من الطلبة المجدِّين والمتديّنين، فقرَّر أن يقتصر على حضور المجلس الذي يقام في المدرسة، وبمجرَّد أن ينتهي المجلس وينزل الخطيب من المنبر، يدخل إلى غرفته ويواصل مطالعة دروسه السَّابقة ويحضّر للدروس اللاحقة، أمَّا التدريس والحضور للدرس عند أحد والمباحثة فهذه كانت معطَّلة بطبيعة الحال. ولذا خاطب نفسه: ماذا سيضرّ لو استفدت من الوقت لإحراز تقدُّم في الدرس، مع أنِّي أحضر المجلس، كما أنِّي لا أدعو أحدًا ليشاركني في الدَّرس أو التدريس ولا في المباحثة، ومن ثمَّ فإنِّي لا أوّثر بتفرّغي وحدي للمطالعة والكتابة والمراجعة، على حضور المجالس والمشاركة في مراسم العزاء خاصَّة وأنِّي لا أخبر أحدًا بذلك.
وبعد أن انتهت أيَّام عاشوراء، وفي اليوم الحادي عشر من المحرَّم، وإذا بهذا الطَّالب يعاني من آلام شديدة في عينيه، ولم ينفع معها العلاج، وحُرم من الدَّرس والمطالعة، واستمرَّت حالته حتَّى يوم العشرين من المحرَّم، وإذا بالألم يزول واستطاع أن يعود إلى الدَّرس. فكانت مدَّة حرمانه من الدَّرس مساوية لمدَّة انقطاع سائر الطلبة، ولكنه حُرم الأجر الذي حصلوا عليه بالمشاركة في مراسم عشرة عاشوراء الإمام الحسين (سلام الله عليه)، وأدرك أنَّ تلك المراسم والمشاركة فيها مفضَّلة حتَّى على دراسة العلوم الدينيَّة مع ما للأخيرة من الشَّأن والأهميَّة، واعتبر بما جرى له(3).
الأدب الثَّاني: التَّفرغ للبكاء وإقامة المآتم.
قَالَ الإمامُ الرِّضَا (عليه السَّلام): "إِنَّ الْمُحَرَّمَ شَهْرٌ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ فِيهِ الْقِتَالَ! فَاسْتُحِلَّتْ فِيهِ دِمَاؤُنَا، وَهُتِكَتْ فِيهِ حُرْمَتُنَا، وَسُبِيَ فِيهِ ذَرَارِيُّنَا وَنِسَاؤُنَا، وَأُضْرِمَتِ النِّيرَانُ فِي مَضَارِبِنَا، وَانْتُهِبَ مَا فِيهَا مِنْ ثِقْلِنَا، وَلَمْ تُرْعَ لِرَسُولِ اللَّهِ حُرْمَةٌ فِي أَمْرِنَا.
إِنَّ يَوْمَ الْحُسَيْنِ أَقْرَحَ جُفُونَنَا، وَأَسْبَلَ دُمُوعَنَا، وَأَذَلَّ عَزِيزَنَا بِأَرْضِ كَرْبٍ وَبَلَاءٍ، أَوْرَثَتْنَا الْكَرْبَ وَالْبَلَاءَ إِلَى يَوْمِ الِانْقِضَاءِ.
فَعَلَى مِثْلِ الْحُسَيْنِ فَلْيَبْكِ الْبَاكُونَ، فَإِنَّ الْبُكَاءَ عَلَيْهِ يَحُطُّ الذُّنُوبَ الْعِظَامَ. ثُمَّ قَالَ (عليه السَّلام): كَانَ أَبِي إِذَا دَخَلَ شَهْرُ الْمُحَرَّمِ لَا يُرَى ضَاحِكاً، وَكَانَتِ الْكَآبَةُ تَغْلِبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَمْضِيَ مِنْهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْعَاشِرِ كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ مُصِيبَتِهِ وَحُزْنِهِ وَبُكَائِهِ، وَيَقُولُ: هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ الْحُسَيْنُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ"(4).
إنَّ البكاء على الحسين (عليه السلام) ودموع عاشوراء حين تنهمر، تُعلِنُ موقفًا، وتُجددُ ولاءً، وتُطهِّر القلب من غبار الغفلة، وترتقي بالرُّوح إلى مقام المحزونين على الحسين (عليه السلام)؛ أولئك الذين وعدهم الله (تعالى) بمقامٍ محمود، في الدُّنيا والآخرة؛ لأنَّهم بكت أرواحهم قبل أن تبكي أعينهم.
وذكر المصائب ليس لأجل أن نُبكي القلوب فقط؛ بل لنستنهضها، ونُعيد إليها الشعور بالظلم الفادح، فتقشعرُّ الأرواح لهول ما جرى، وتنتفض النفوس الغافلة لتلتحق بركب النَّهضة، وتصبح امتدادًا حيًّا لها؛ فالمآتم محاريب وعي، يُصاغ فيها الإنسان المؤمن من جديد، ويتربَّى فيها على نصرة الحقِّ مهما كلفه، وعلى البراءة من أعداء الإمام الحسين (عليه السلام)، وعلى أن يكون انتماؤه قلبًا وقالبًا لمدرسة الطَّف؛ مدرسة الدَّم والدُّموع والوفاء الخالد.
إنَّ إقامة مأتمٍ للحسين (صلوات الله عليه) في هذا اليوم، هو موقفٌ من نوعٍ خاص: موقفٌ فكريٌّ ينبض باليقين، وموقفٌ أخلاقيٌّ يشهد بأنَّ صاحب هذا القلب يحمل قبسًا من كربلاء؛ فمن يُقيم مأتمًا، فإنَّما يُشعل في قلبه شمعةً من نور الإمام الحسين (عليه السلام)، ويُعلن للعالم أجمع أنَّ الدَّم الذي أُريق في كربلاء لم يجف، وأنَّ سيِّد الشهداء (عليه السلام) لا يُنسى، ولن يُنسى، وأنَّ عاشوراء ما زالت تتكرَّر كلَّما خفق قلبٌ بحبِّ الحسين (عليه السلام)، وكلَّما سالت دمعةٌ لذكراه، وكلَّما صدح صوتٌ بالنداء الخالد: يا حسين.
الأدب الثَّالث: زيارة الإمام الحسين (عليه السلام).
الزيارة في يوم عاشوراء(5) موقفٌ يُسجَّل، وشهادةُ انتماءٍ تُكتَب بالدَّمع والحضور؛ إنَّها وقوفٌ صادق في ساحة كربلاء، مهما ابتعد الزَّمان والمكان، إذ يجدِّد الزَّائر عهده للحسين (عليه السلام)، ويُعلن في حضور المعصومين (عليهم السلام) والملائكة أنَّه باقٍ مع الحقِّ، لا يبدّل ولا يُغيّر، وأنَّه ممن لا تستهويه الدُّنيا، ولا تُسكته السيوف ولا الترهيب؛ في تلك اللحظات يُحادث الزَّائر الإمام (عليه السلام) كأنَّما هو حاضرٌ في الطَّف، ويهمس له: لو كنتُ معك يوم عاشوراء، لما تأخرت عنك، ولجعلت نفسي فداءً بين يديك.
ومن أبرز الزيارات المأثورة في هذا اليوم (زيارة عاشوراء)؛ تلك الزيارة التي تنطوي على فلسفة البراءة من الذينَ وضعوا أسس الظُّلم والجور على آل بيت النبوة (عليهم السلام)، حيث تقول: "يا أَبا عَبْدِ الله إِنِّي أَتَقَرَّبُ إِلى الله وَإِلى رَسُولِهِ وَإِلى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ وَإِلى فاطِمَةَ وَإِلى الحَسَنِ وَإِلَيْكَ بِمُوالاتِكَ وَبِالبَرائةِ مِمَّنْ قاتَلَكَ وَنَصَبَ لَكَ الحَرْبَ وَبِالبَرائةِ مِمَّنْ أَسَّسَ أَساسَ الظُّلْمِ وَالجَوْرِ عَلَيْكُمْ، وَأَبْرَأُ إِلى الله وَإِلى رَسُولِهِ مِمَّنْ أَسَّسَ أَساسَ ذلِكَ وَبَنى عَلَيهِ بُنْيانَهُ وَجَرى فِي ظُلْمِهِ وَجَوْرِهِ عَلَيْكُمْ وَعَلى أَشْياعِكُمْ، بَرِئْتُ إِلى الله وَإِلَيْكُمْ مِنْهُمْ وَأَتَقَرَّبُ إِلى الله ثُمَّ إِلَيْكُمْ بِمُوالاتِكُمْ وَمُوالاةِ وَلِيِّكُمْ وَالبَرائةِ مِنْ أَعْدائِكُمْ وَالنَّاصِبِينَ لَكُمْ الحَرْبَ وَبِالبَرائةِ مِنْ أَشْياعِهِمْ وَأَتْباعِهِمْ"(6). وفي ظلِّ هذا النَّص الجليل تتحوَّل الزيارة إلى موقف حيّ يتَّخذه المؤمن في قلبه وسلوكه؛ إذ تُطهَّر الرُّوح من أدران الخذلان، وتُضاء القلوب بنور المظلوميَّة والوفاء، ويستشعر المؤمن أنَّه شاهدٌ على الجريمة، شريكٌ في المصاب، منتظرٌ للوعد الإلهي بالثَّأر؛ حيث يرتقب بلهفة النداء الموعود: يا لثارات الحسين.
الأدب الرَّابع: لعن قتلة الإمام الحسين (عليه السلام).
عَنْ دَاوُدَ الرَّقِّيِّ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السَّلام) إِذَا اسْتَسْقَى الْمَاءَ، فَلَمَّا شَرِبَهُ رَأَيْتُهُ قَدِ اسْتَعْبَرَ وَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ بِدُمُوعِهِ.
ثُمَّ قَالَ لِي: "يَا دَاوُدُ، لَعَنَ اللَّهُ قَاتِلَ الْحُسَيْنِ (عليه السَّلام)، وَمَا مِنْ عَبْدٍ شَرِبَ الْمَاءَ فَذَكَرَ الْحُسَيْنَ (عليه السَّلام) وَأَهْلَ بَيْتِهِ، وَلَعَنَ قَاتِلَهُ، إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ مِائَةَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَحَطَّ عَنْهُ مِائَةَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ مِائَةَ أَلْفِ دَرَجَةٍ، وَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ مِائَةَ أَلْفِ نَسَمَةٍ، وَحَشَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلِجَ الْفُؤَادِ"(7).
في يوم عاشوراء، يرتفع نداء البراءة(8) من أعداء الإمام الحسين (عليه السلام) صوتًا خالدًا ينبثق من أعماق القلب، لا عبارةً تُقال فحسب؛ بل موقفًا حيًّا يُجسِّد صفاء الولاء، وصدق الحزن، وتمام الانتماء إلى درب سيِّد الشهداء (عليه السلام) ونهضته العظيمة؛ فاللعن في هذا اليوم تجلٍّ من تجليات الحبِّ الصَّادق؛ عَنْ حَرِيزٍ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ: أَمِنَ الْإِيمَانِ هُوَ؟
فَقَالَ: "وَهَلِ الْإِيمَانُ إِلَّا الْحُبُّ وَالْبُغْضُ، ثُمَّ تَلَا هذِهِ الْآيَةَ: (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)(9)"(10)؛ فلا يكتمل حبُّ الإمام الحسين (عليه السلام) إلَّا بكراهية قاتليه، ولا يصدق الإيمان إلَّا إذا كان مصحوبًا بولاءٍ للحسين (عليه السلام) وبراءةٍ من أعدائه (عليهم اللعنة).
إنَّ هذه البراءة تنبع من إحساس حيٍّ بالظلم، ومن ضميرٍ لا يزال يرتجف لهول الجريمة الكبرى التي اقترفتها الأمَّة بحقِّ سبط رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)؛ وكذلك، هي موقف يرفض الجريمة، ويُدين صمت الصَّامتين، ويُنصر المظلوم بالكلمة والدَّمعة والموقف، حين لا يكون للسيف مجال. ثمَّ إنَّ الاجتهاد باللعن له فلسفة تربويَّة، تذكّرنا بأنَّ دماء كربلاء لم تُسفك عبثًا، وأن من لا يلعن الظَّالم، يُوشك أن يبرر ظلمه، أو يصمت عن انحرافه، أو يشاركه بصمته، ومن رضي بفعل أولئك القتلة، أو سار على دربهم، أو أراد أن يُطفئ نور الإمام الحسين (عليه السلام)، فهو داخل في دائرة اللعن؛ لأنَّه امتدادٌ ليد الجريمة التي طعنت الإمام الحسين (عليه السلام).
إنَّ اللعن، في حقيقته صوتُ ذاكرةٍ تأبى النسيان، وصرخةُ روحٍ أبَت أن تُخدع بزخارف الزَّمن. إنَّه الحصن الذي يحفظ وجدان المؤمن، ويبقي الثورة مشتعلةً في القلوب، لتبقى عاشوراء مشعلًا لا ينطفئ، ورايةً تظلُّ خفَّاقة، وصرخةً مدوّيَّة: هيهات منَّا الذلة.
الأدب الخامس: تعزية المؤمنين بعضهم لبعض.
عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي حَدِيثِ زِيَارَةِ الْحُسَيْنِ(عليه السلام) يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنْ قُرْبٍ وَبُعْدٍ، قَالَ: "ثُمَّ لْيَنْدُبِ الْحُسَيْنَ (عليه السلام) وَيَبْكِيهِ وَيَأْمُرُ مَنْ فِي دَارِهِ مِمَّنْ لَا يَتَّقِيهِ بِالْبُكَاءِ عَلَيْهِ، وَيُقِيمُ فِي دَارِهِ الْمُصِيبَةَ بِإِظْهَارِ الْجَزَعِ عَلَيْهِ، وَلْيُعَزِّ بَعْضُهُمْ بَعْضاً بِمُصَابِهِمْ بِالْحُسَيْنِ (عليه السلام)، وَأَنَا ضَامِنٌ لَهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ جَمِيعَ ذَلِكَ، يَعْنِي ثَوَابَ أَلْفَيْ حَجَّةٍ، وَأَلْفَيْ عُمْرَةٍ، وَأَلْفَيْ غَزْوَةٍ".
قُلْتُ: أَنْتَ الضَّامِنُ لَهُمْ ذَلِكَ وَالزَّعِيمُ؟ !
قَالَ: "أَنَا الضَّامِنُ وَالزَّعِيمُ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ".
قُلْتُ: وَكَيْفَ يُعَزِّي بَعْضُنَا بَعْضاً؟
قَالَ: "تَقُولُ: عَظَّمَ اللَّهُ أُجُورَنَا بِمُصَابِنَا بِالْحُسَيْنِ (عليه السلام)، وَجَعَلَنَا وَإِيَّاكُمْ مِنَ الطَّالِبِينَ بِثَأْرِهِ مَعَ وَلِيِّهِ وَالْإِمَامِ الْمَهْدِيِّ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ..."(11).
إنَّ التَّعزية في يوم عاشوراء بين المؤمنين هي إعلانٌ عميق عن وحدة الألم، ومشاركةٌ روحيَّة في أعظم مصاب عرفه الوجود، وربطٌ مقدّس بين الدَّم الذي سُفك في كربلاء، والراية التي سيرفعها الإمام المهدي (عليهما السلام) في آخر الزَّمان؛ وحين نعزّي بعضنا بالحسين (عليه السلام)، فإننا نؤكِّد أننا ما زلنا نبكيه، وما زلنا ننتظر جبر هذا الكسر بقيام القائم الذي وُعدنا به، ليأخذ بثأره، ويملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما مُلئت ظلمًا وجورًا.
فإذا قال المؤمن لأخيه: "أعظم الله أجورنا بمصابنا بالحسين"، فهو لا يواسيه بكلمة عابرة؛ إنَّما يوقظ وجدانه، ويدفعه للثَّبات على طريق الإمام الحسين (عليه السلام)؛ والتَّعزية ليست ختامًا للحزن؛ إنَّها بدايته؛ لأنَّ طريق الحسين (عليه السلام) لا يتوقف عند الدَّمع، وإنَّما يمتد نحو النصرة؛ ولهذا جاء في ختام التَّعزية: "وجعلنا وإيَّاكم من الطالبين بثأره مع وليه..."؛ فالتعزيَّة النَّاقصة هي التي تبكي من دون أن تتحرَّك، وتندب من دون أن تنتظر، وتحزن من دون أن تتهيّأ ليوم الانتصار.
وهكذا، تغدو التَّعزية في عاشوراء عملًا من أعمال القربى، ونداءً يذيب القلب حزنًا، ويشدُّه إلى وعدٍ لا يُخلف، وعدٍ تُروى فيه المظلمة، ويُعلَن فيه الانتصار، ويعود فيه الحقُّ لأهله.
الأدب السَّادس: الإمساك عن الطعام والشَّراب.
وي عَنْ زَيْدٍ النَّرْسِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ زُرَارَةَ يَسْأَلُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: "مَنْ صَامَهُ كَانَ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَظَّ ابْنِ مَرْجَانَةَ وَآلِ زِيَادٍ".
قَالَ قُلْتُ: وَمَا كَانَ حَظُّهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ؟
قَالَ: "النَّارُ، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنَ النَّارِ وَمِنْ عَمَلٍ يُقَرِّبُ مِنَ النَّارِ"(12).
وعَنْ أَبَانٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ صَوْمِ تَاسُوعَاءَ وَعَاشُورَاءَ مِنْ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ.
فَقَالَ: "تَاسُوعَاءُ يَوْمٌ حُوصِرَ فِيهِ الْحُسَيْنُ (عليه السلام) وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِكَرْبَلَاءَ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَيْلُ أَهْلِ الشَّامِ وَأَنَاخُوا عَلَيْهِ، وَفَرِحَ ابْنُ مَرْجَانَةَ وَعُمَرُ بْنُ سَعْدٍ بِتَوَافُرِ الْخَيْلِ وَكَثْرَتِهَا، وَاسْتَضْعَفُوا فِيهِ الْحُسَيْنَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَأَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَأَيْقَنُوا أَنْ لَا يَأْتِيَ الْحُسَيْنَ (عليه السلام) نَاصِرٌ وَلَا يُمِدَّهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ بِأَبِي الْمُسْتَضْعَفُ الْغَرِيبُ".
ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا يَوْمُ عَاشُورَاءَ فَيَوْمٌ أُصِيبَ فِيهِ الْحُسَيْنُ (عليه السلام) صَرِيعاً بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابُهُ صَرْعَى حَوْلَهُ عُرَاةً، أَفَصَوْمٌ يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ؟ كَلَّا وَرَبِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ مَا هُوَ يَوْمَ صَوْمٍ، وَمَا هُوَ إِلَّا يَوْمُ حُزْنٍ وَمُصِيبَةٍ دَخَلَتْ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ وَجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ. وَيَوْمُ فَرَحٍ وَسُرُورٍ لِابْنِ مَرْجَانَةَ وَآلِ زِيَادٍ وَأَهْلِ الشَّامِ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى ذُرِّيَّاتِهِمْ. وَذَلِكَ يَوْمٌ بَكَتْ عَلَيْهِ جَمِيعُ بِقَاعِ الْأَرْضِ خَلَا بُقْعَةِ الشَّامِ. فَمَنْ صَامَهُ أَوْ تَبَرَّكَ بِهِ حَشَرَهُ اللَّهُ مَعَ آلِ زِيَادٍ مَمْسُوخُ الْقَلْبِ مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ. وَمَنِ ادَّخَرَ إِلَى مَنْزِلِهِ ذَخِيرَةً أَعْقَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى نِفَاقاً فِي قَلْبِهِ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ وَانْتَزَعَ الْبَرَكَةَ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَوُلْدِهِ وَشَارَكَهُ الشَّيْطَانُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ"(13).
ينبغي للموالين لأهل البيت (عليهم السلام) أن يُمسكوا عن الطَّعام والشَّراب في يوم عاشوراء، لا بنيَّة الصيام؛ بل حزنًا خالصًا، ومواساةً ناطقة بلغة الجسد، ومشاركةً وجدانية في فاجعة لم يعرف التاريخ أفظع منها؛ فذلك الإمساك هو صمتُ الحزن العميق، وصرخةُ القلب المكلوم، وتعبيرٌ عمليّ عن انكسار النفس وانقطاعها عن لذَّات الدنيا في يومٍ عطشت فيه الحرائر، وذُبح فيه الإمام الحسين (عليه السلام)، وتلوّى الأطفال من الظمأ، وارتفعت الأرواح من آل محمَّد (صلى الله عليه وآله) وهي تودّع الدُّنيا بلا قطرة ماء تحت لهيب الشَّمس وظلم السيوف.
إنَّ الامتناع في هذا اليوم هو وجهٌ آخر من وجوه النصرة، وأحد مظاهر الوقوف إلى جانب الإمام الحسين (عليه السلام) في حزنه؛ وهو رفضٌ للاحتفال، وكفرٌ بالراحة، واحتجاجٌ صامتٌ على جريمةٍ سالت فيها دماء النبوّة، وعميت فيها الأبصار عن الحقّ حتَّى ظنَّ النَّاس أنَّ عاشوراء يوم بركة! ومن أجل هذا، ينبغي للشيعة الامساك عن الطعام والشراب في يوم عاشوراء، من دون نية الصيام وأن يفطروا في آخر النهار بعد العصر بما يقتات به أهل المصائب كاللبن الخاثر والحليب ونظائرهما لا بالأغذية اللذيذة؛ وقد أشار العلَّامة المجلسي في كتابه (زاد المعاد) إلى ضرورة الحذر من مظاهر العبادة المغشوشة في هذا اليوم، فقال: "والأحسن أن لا يصام اليوم التَّاسع والعاشر فإنَّ بني أمية كانت تصومهما شماتة بالحسين (عليه السلام) وتبرّكًا بقتله وقد افتروا على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أحاديث كثيرة وضعوها في فضل هذينِ اليومينِ وفضل صيامهما. وقد روي من طريق أهل البيت (عليهم السلام) أحاديث كثيرة في ذم الصوم فيهما لا سيما في يوم عاشوراء. وكانت أيضاً بنو أُمية (لعنة الله عليهم) تدخر في الدَّار قوت سنتها في يوم عاشوراء"(14)؛ لكن روايات أهل البيت (عليهم السلام) كانت واضحة، صريحة، قاطعة: لا صيام في عاشوراء تعبّدًا؛ لأنَّه خروج عن خطِّ الولاء، وتزييفٌ لروح المصيبة، وخيانة لمظلومية الإمام الحسين (عليه السلام). فكيف يُعقل أن يكون اليوم الذي مزّقت فيه أجساد الطاهرين، وسُبيت فيه بنات النبوّة، ورفعت فيه رؤوس الأئمة على الرماح، يومًا للعبادة؟ بصمتٍ هادئ وامتناعٍ ساكن، لا بالبكاء والحزن والانتفاض؟!
إنَّه يوم السخط الإلهي على المجرمين، ويوم يقظةٍ للقلوب من نوم الغفلة، لا يوم راحةٍ بدنيَّةٍ تحت عنوان الصيام؛ لذلك، فالموقف الصحيح في هذا اليوم أن يُمسكَ عن الطعام حزنًا، وأن يستحضر المؤمن في كلِّ لقمةٍ يمتنع عنها صور الطفّ: الطفل العطشان يطلب الماء ولا يجده، والحسين يودّع عليًا الأكبر وقد جفَّت شفتاه، وزينب تنظر إلى السهام والحرائق، والقلوب تنزف ألماً.
الأدب السَّابع: لبس السَّواد وترك الزينة.
في يوم عاشوراء، يتحوَّل الحزن إلى كيان محسوس، يتجسَّد في ملامح الإنسان، ونبرات صوته، وخطواته، وملابسه، وهيئته، وكلِّ ما يحيط به من تفاصيل الحياة؛ فلبس السواد، وترك الزينة، يصبحان من أبرز صور المواساة الحقيقيَّة، والتفاعل الصادق مع فاجعة كربلاء. وكأنَّ الروح تنطق بالألم من خلال الجسد، فيرتدي الحزن ليغدو ظاهرًا للعيان، لا حبيسًا في القلب وحده.
وقد خلدت الرواية المنقولة عن عمر بن علي بن الحسين هذا الموقف العظيم:
"لَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ بن عَلِيٍّ عليه السلام لَبِسَ نِسَاءُ بَنِي هَاشِمٍ السَّوَادَ والمُسُوحَ، وَكُنَّ لا يَشْتَكِينَ مِنْ حَرٍّ ولا بَرْدٍ، وكان عَلِيُّ بن الْحُسَيْنِ عليه السلام يَعْمَلُ لَهُنَّ الطَّعَامَ لِلْمَأْتَمِ(15)؛ فنساء بني هاشم، أقرب الناس إلى الإمام الحسين (عليه السلام)، لم يكتفين بالدموع، وقرّرن ترك كلِّ مظاهر الدنيا، فلا الزينة تليق، ولا الراحة تُطلب، ولا الحجاب من الحرّ أو البرد يُقدّم على السواد الذي صار رداء قلوبهنّ.
لبس السواد هو فعل مقاومة ضدّ محاولات النسيان، ورسالة مفتوحة تقول: إنَّ كربلاء جرحٌ مفتوح لا يندمل، والأكثر من ذلك، إنَّه موقفٌ يترجم الانتماء إلى الإمام الحسين (عليه السلام) بلغةٍ يفهمها الجميع، ويخلق مناخًا جماعيًّا من الحزن؛ حيث تمتزج العيون الباكية بالقلوب الواجفة، وتتشكّل من هذه الهيئات الحزينة ساحة عاشورائيَّة يعيش فيها المجتمع ذاكرة الطف من خلال الحضور الحيّ للمأساة.
ومن هذا المنطلق، فإنَّ من يلبس السواد في عاشوراء، ومن يتخلَّى عن الزينة في هذه الأيَّام، فإنَّما يُجددون بذلك موقفًا خالداً: موقف الانحياز إلى الإمام الحسين (عليه السلام)، ورفض كلِّ من عاداه، وبراءة صامتة من القتلة ومن سلك طريقهم.
إنَّ يوم عاشوراء هو دمُ الحزن الذي سال في عروق التاريخ، وصرخة الروح التي لم تُخمد عبر القرون. هو ذلك الألم الذي ينزف في قلوبنا، والوجع الذي لا يفارقنا، حين نرى دم الإمام الحسين (عليه السلام) يُسفك من أجل الحق والكرامة.
عاشوراء مدرسة الألم العظيم، ونهر الوفاء الذي لا يجفّ، ومشهد الشهادة الذي يهزّ الضمائر؛ ليوقظ فينا الولاء الذي لا يموت. فلنحيي هذا اليوم بقلوب مُكلّلة بالدموع، وبأرواح ترفض الخنوع، وبأفعال تُترجم حزننا إلى ثورة لا تهدأ؛ ليبقى سيِّد الشهداء (عليه السلام) حيًا فينا، ويُلهب هممنا حتَّى تحقيق وعد الله (سبحانه) بالنَّصر والظهور، بقيادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشَّريف).
اضف تعليق