إن الوعي بالمسؤولية الاجتماعية ثمرة من ثمار نشر ثقافة المساءلة، وإعادة نشرها، والترويج لها. وهذا النص الذي افتتحنا به هذه السطور يمثل إحدى ذُرى البلاغة الإصلاحية. هو ليس مجرد إعلان سياسي أو ديني، بل بناء خطابي قائم على وعي عميق بالرسالة الموكلة لها، وبالواقع الاجتماعي المنحرف، وبحتمية المواجهة الأخلاقية بين المظلومين والظالمين...
من جملة ما ذكره الرواة من بيانات (حرب) الطف قول الإمام الحسين عليه السلام لوالي المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وهو ابن عم يزيد بن معاوية، وفي محضر مروان بن الحكم: "إنّا أهل بيت النبوة، وموضع الرسالة، بنا فتح اللّه، وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله". وهذا النصّ الذي تواترت على نقله كتب التواريخ يعبر عن إدراك الإمام الحسين (عليه السلام) لدوره المحوري في سياق قول الحق بوجه الطغاة المستبدين، وأعوانهم، وشركائهم في الجور والاستبداد.
وبمقدار ما يستند النصّ الشريف إلى لغة الإقناع في إبراز قيمة المسؤولية الاجتماعية فإنه ينعكس في ضمير كلّ إنسان حرّ دعوةً للتأمل في معادلات الحكم والسلطة، واستثارة تحثّه على تسجيل موقف مشرّف تجاه تلك المعادلات في حال زيغها عن جادة العدل والحق. إن هؤلاء الذين يستكثرون على محبي الحسين ومريديه داخل جغرافية العالم الإسلامي وخارجه إعادة التذكير بموقف الرفض والإباء الحسيني كل عاشوراء يسعون قاصدين أو واهمين دون إشاعة منطق المساءلة، وتحريك (دعاوى) العدالة، والإنصاف ضد الظلَمة والمفسدين.
وهؤلاء المستكثرون على الناس استعادة الذكرى يغلّفون دعواهم بحجج من قبيل تخريب العلاقات الإسلامية بين المذاهب (المتعايشة)؛ لأن (النبش) في الماضي بزعمهم من لوازمه بعث العداوات، والضغائن بين المسلمين، وأشباه هذه الذرائع التي تدسّ سمًا في عسل، وتنأى عن منهج القرآن الكريم في أخذ العظة من التاريخ، وفرز غثّه من خسيسه، والإزراء بأهل الغدر والخديعة والخيانة، والإعلاء من ذوي الأمانة، والنزاهة...الخ.
إن الأمم الحية في طول المعمورة وعرضها تدأب على قراءة تاريخها، والانتفاع من عبره، وليس أهل الإسلام بدعًا من ذلك. ففي ألمانيا -مثلاً- هناك قوانين صارمة تمنع تمجيد النازية والترويج لأفكارها العنصرية التي يعود تاريخها إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية، والهدف هو ضمان عدم تكرار جرائم النازية، وما حدث جرّائها من فساد وإفساد.
إن الوعي بالمسؤولية الاجتماعية ثمرة من ثمار نشر ثقافة المساءلة، وإعادة نشرها، والترويج لها. وهذا النص الذي افتتحنا به هذه السطور يمثل إحدى ذُرى البلاغة الإصلاحية. هو ليس مجرد إعلان سياسي أو ديني، بل بناء خطابي قائم على وعي عميق بالرسالة الموكلة لها، وبالواقع الاجتماعي المنحرف، وبحتمية المواجهة الأخلاقية بين المظلومين والظالمين.
ولعلّ من الفوائد التي تأتي بها ذكرى عاشوراء سنويًا هو الكشف بوضوح عن بقاء الخطاب المضاد للخطاب الحسيني ماثلاً في (لا وعي) كثير من المحسوبين على دين الإسلام بملاحظة المواقف التي تصدر من شخصيات وهيئات تزعم تمثيلها لهذا الدين، وإعلان هؤلاء لمواقفهم تلك ليست مجرد ردود أفعال ضد أفعال بعض الشيعة كما يتوهم البعض، ولكن هي الحقيقة المستترة في ذلك اللاوعي، ولا تجد مناسبة أفضل من عاشوراء للإعلان عن نفسها وهويتها.
لقد افتتح الإمام الحسين عليه السلام النص المتقدم بقوله: "إنا أهل بيت النبوة، وموضع الرسالة"، وهذه الجملة تمارس وظيفة إثبات الشرعية للمتكلم من خلال توكيد المرجعية والسلطة المعنوية للقائل، وتقيم تضادًا صارخًا فيما بين "نحن" و"يزيد"، والمقابلة هنا ليست جمالية فحسب بل لها دلالة أخلاقية تتضمن معيارًا واضحًا للمساءلة قابلًا للقياس.
أما الجملة المحورية "مثلي لا يبايع مثله" فتمثل حوارًا منطقيًا مبنيًا على التعارض بين المثالين، فهي ليست مجرد رفض لبيعة على أساس شخصي أو مزاجي إنما هي رفض لمشروع رمزي قائم على خط منحرف بصرف النظر عن صاحبه أو راعيه؛ فالإمام الحسين يدرك موقعه بوصفه امتدادًا للنبوة، وهذا الإدراك يتربع على المستوى الأعلى من التفكير الأخلاقي، ويحتّم عليه تنفيذ وظيفة اجتماعية هي مساءلة الفاسدين والمفسدين عبر استنكار بلاغي يهز نرجسياتهم المريضة.
فالحسين وأمثاله لا يمكن أن يحكمهم يزيد وأمثاله! لقد فتح خطاب الحسين بابًا كان موصودًا لمدة طويلة أي منذ استشهاد أبيه وأخيه عليهما السلام، وأبقى عليه مفتوحًا عسكريًا منذ حركة التوابين، كما أبقى عليه مفتوحًا فكريًا مع كل نظرية إسلامية ترهن مشروعية السلطة من عدمها بمدى اقترابها وابتعادها عن فلسفة إقامة العدل والإنصاف.
وهذا الباب بوجهيه العسكري والفكري سيظل مفتوحًا سواء في عصرنا هذا أو العصور اللاحقة ما دامت المفارقة موجودة بين سلطان السلطة وميزان العدالة، وما دام التذكير به قائمًا في كل عاشوراء.
اضف تعليق