السجايا الإنسانية في الفكر الحسيني، يمكن أن تنهض بالإنسان وترتقي به نحو درجات عالية من التطور والتقارب البشري الذي يمكن أن يطفئ الأزمات ونيران الأحقاد، ويخلص العالم من حالة الاحتقان المزمن التي تهيمن عليه، فالتربية الإنسانية الحسينية كفيلة بالقضاء على جميع أنواع النزاعات...

(كان الإمام الحسين صلوات الله عليه يريد أن يحيي سيرة رسول الله وأمير المؤمنين 

صلوات الله عليهما وآلهما) سماحة المرجع الشيرازي دام ظله

 إن الأفكار التي يطرحها المفكرون إذا لم تكن قائمة على الإنسانية، فإنها ليست ذات قيمة ولا يمكنها أن تُسهم في تطوير العقل البشري، لذا فإن إنسانية الفكر شرط أساس في جدوى هذا الفكر أو ذاك، من هنا نلاحظ أن الركن الرئيس الذي يقوم عليه الفكر الحسيني هو مراعاة الجانب الإنساني، لذلك فإن من إنسانية النهضة الحسينية أنها أنتجت فكرا خلّاقا يقوم على رفض الظلم، ومواجهة الفساد والفاسدين واسترجاع الحقوق وحمايتها.

وهذا ما جرى بالضبط عندما أعلن الإمام الحسين عليه السلام تلك المبادئ العظيمة التي يتحلى به الفكر الحسيني، وأهمها الجوهر الإنساني لهذا الفكر، ومراعاته كرامة الإنسان، لأن هذا الإنسان إذا أصبح بلا كرامة لن تكون له قيمة، ولا يمكنه أن يعيش حياته في توازن داخل المجتمع، وسوف يشكل حالة سلبية على المجتمع لأنه كائن مسلوب الكرامة.

الفكر الحسيني إنسانيّ في جوهره، وقد أخذ هذه السيرة الإنسانية من سيرة جده الرسول صلى الله عليه وآله، ومن سيرة أبيه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وهناك أمثلة لا حصر لها تدل بكل قاطع على إنسانية الفكر والسلوك الحسيني.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، يطرح علينا حادثة الحرّ الذي اعترض طريق الإمام الحسين عليه السلام ومع ألف فارس وهو يتوجّه إلى مدينة جده رسول الله، حيث يقول سماحته:

(نأتي إلى سيرة الإمام الحسين صلوات الله عليه نفسه. ففي طريقه إلى كربلاء، واجهه الحُر وألف فارس كانوا معه، ومنعوا الإمام من أن يعود إلى مدينة جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله، ومنعوه من أن يذهب إلى حيث ما يريد، وحاصروا الإمام. ومع ذلك، رأى الإمام الحسين صلوات الله عليه الحر وأصحابه عطاشا، فأمر بسقيهم الماء جميعاً).

التعاطي الإنساني حتى مع العدو

لقد كان الحر والمرافقون له من العسكر أعداءً للإمام الحسين، وكانوا مدججين بأنواع الأسلحة، ومع ذلك تعام الحسن عليه السلام معهم بإنسانية عالية، حين أمر بتقديم الماء لهم جميعا، بعد أن لاحظ عليهم علامات الظمأ الشديد، ليس هذا فحسب، فحين رأى الخيول تعاني من عطش أشد، أمر بتقديم الماء لها، مع أنهم أعداء يريدون الشر بالحسين عليه السلام.

لكن حين توفرت الفرصة لكي يطبّق الإمام الحسين ما تعلمه من جدّه وأبيه، باشر على الفور بتطبيق الجانب الإنساني حتى مع أعدائه، وسمح بتقديم الماء لهم وإن كانوا يكنون للإمام وأهله وصحبه الأذى.

وهنا يتساءل سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:  

(مَنْ مِن البشر يعطي الماء للعدو وهو في الصحراء ويميته العطش؟ وهذه سيرة رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما التي كان يريد الإمام الحسين صلوات الله عليه أن يحييها وعندما سنحت للإمام الفرصة أحياها في تعامله مع الحر وجيشه).

هذا المثال والموقف الإنساني الذي دوَّنتْه سجلات التاريخ بأمانه، يثبت بلا أدنى شك تلك السيرة التي تعلمها الإمام الحسين عليه السلام من جده رسول الله صلى الله عليه وآله، ومن أبيه الإمام علي عليه السلام، حيث قال الإمام (رشّفوا الخيلَ ترشيفا)، وهذا يعني ليس سقي الخيول فقط وإنما زيادة على ذلك رشّ الماء على أبدانها حتى تتبرد ويخفّ عليها الظمأ.

هكذا يتجسد الجانب الإنساني في الفكر الحسيني، هذا الفكر الذي استلهمه الإمام من سيرة جدّه وأبيه، بعد أن تعلّم ودرس في هاتين المدرستين الإنسانيتين الخالدتين.  

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله يقول:

(هذه هي الإنسانية في سيرة الإمام الحسين صلوات الله عليه الموروثة من سيرة رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما. فأمر الإمام الحسين صلوات الله عليه أصحابه بأن يعطوا الماء للحر ولأصحابه وقال رشّفوا الخيل ترشيفاً أيضاً بعد سقيها الماء، أي رشّوا الماء على أبدان الخيل لأنّها أصابها الحر والظمأ). 

أما المثال الآخر الذي يذكره سماحة المرجع الشيرازي، فهو في غاية التأثير والدقة التي تؤكد إنسانية الإمام الحسين عليه السلام العميقة التي تدل على الجذور العظيمة لتربيته الإنسانية وشعوره تجاه الإنسان والكائنات الأخرى ومنها الخيل، فهذه القصة تمثل درسا عظيما في التعامل الإنساني وتؤكد ذلك الاهتمام التربوي الكبير لأهل البيت في قضية الرفق بالحيوان.

لم يكتفي الإمام بالإحسان إلى الحرّ وجندهِ باعتبارهم ينتمون إلى بني الإنسان، وإنما شمل فعله الإنساني حتى الخيول التي ظهر عليها العطش الشديد، لدرجة أن الإمام عليه السلام سقى أحد الخيول بنفسه وقدم له الماء بيده الكريمة، ألا يثبت هذا الفعل تلك الإنسانية المتفرّدة التي يحملها الإمام الحسين عليه السلام في شخصيته وفكره؟

يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله: 

(إنّ الإمام الحسين صلوات الله عليه قد رأى شخصاً من جيش الحر، وكان من شدّة العطش لا يستطيع أن يشرب الماء، حيث كان الماء يسيل من أطراف فمه. فنزل الإمام صلوات الله عليه وبيده الكريمة أخذ القربة وجعل يروي ذلك الشخص من الماء). 

الحسين نهلَ رصيده الإنساني من جدّه وأبيه

أما الفريق المضاد أو المقابل الذي سقاه الإمام الماء، فحين سنحت لهم فرصة لإلحاق الأذى بالحسن ومعيّته لم يتوانوا عن ذلك قيد أنملة، وهذا ما حدث بالفعل في يوم عاشوراء حيث قام الأعداء الذين سقاهم الحسين الماء ورشف خيولهم بقطع الماء عن الإمام ومن معه، لدرجة أنه عليه السلام حمل طفله الرضيع بين يديه وقدمه للمعسكر المعادي وطلب منهم أن يسقوا هذا الرضيع الذي قارب الموت بسبب العطش.

لكنهم لم يتصرفوا كما يجب على الإنسان أن يتصرف في مواقف كهذه، حيث التربية الإنسانية تدفع الإنسان نحو الانتصار على الكراهية والعدوان ويتعامل مع الموقف بإنسانيته ويسقي هذا الطفل الرضيع الذي لا ذنب له، لكنهم لم يكتفوا بعدم إسقاء الرضيع، وإنما قاموا بإطلاق السهم على نحره ليذبحوه وهو بين يديّ أبيه، مما يؤكد بأن الإنسانية ماتت في قلوبهم إلى الأبد.

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله يذكر لنا هذا المشهد المؤلم فيقول: 

(لكن في يوم عاشوراء، قام الأعداء، وكان فيهم بعض الذين سقاهم الإمام الحسين صلوات الله عليه الماء وأرواهم ورشّف خيولهم، باستثناء الحر الذي انضمّ مع عدد قليل إلى الإمام، قاموا بقطع الماء عن الإمام حتى اضطرّ صلوات الله عليه على أن يحمل الطفل الرضيع الذي كان يهلك من العطش على يده الكريمة وطلب من الأعداء أن يأخذوا الطفل ويشربوه الماء حتى لا يموت من العطش، فأبوا حتى من هذا الفعل، وبأمر من عمر بن سعد، رمى حرملة بن كاهل الطفل الرضيع العطشان وذبحه وهو عطشاناً). 

لقد نهل الإمام الحسين رصيده الإنساني العميق من سيرتيّ الرسول صلى الله عليه وآله، والإمام علي عليه السلام، وسعى من خلال سيرته في مواجهة الطغيان والفساد أن يستثمر هذه التربية الإنسانية في تعامله حتى مع أعدائه، وأراد لهذه التربية أن تنتشر بين المسلمين جميعا بل وبين بني الإنسان أينما كانوا.

لذا لابد لكل إنسان يؤمن بفكر الحسين وينتمي له، أن ينهل من سيرته عليه السلام ومن فكره هذا الشعور والتعامل الإنساني، حيث يتحقق من خلال الإنسانية مجتمعا راقيا مستقرا متعاونا، وقادرا على مواجهة الاستبداد والقمع والطغيان، من خلال نشر العلاقات القائمة على الإنصاف والتكافل المتبادل بين الناس، لذا هذه دعوة للشباب بالدرجة الأولى وللجميع أن يسيروا في هذا الطريق وينهلوا من هذه المدرسة والتربية الحسينية التي تنتصر للإنسان.

يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:

(إنّ سيرتيّ النبي الكريم والإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما التي بيّن الإمام الحسين صلوات الله عليه بأنّه يريد أن يسير بهما، كانتا مبتنيتان على الإنسانية في جميع أبعادهما. وما ذكرناه عن تلك السيرتين هي نماذج وأمثلة من المئات والمئات من النماذج والأمثلة. فعلينا نحن المسلمين، وخصوصاً الشباب الأعزّة، أن نجمع هذه النماذج من سيرة رسول الله وسيرة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما، ونعرضها على العالم).

هذه السجايا الإنسانية في الفكر الحسيني، يمكن أن تنهض بالإنسان وترتقي به نحو درجات عالية من التطور والتقارب البشري الذي يمكن أن يطفئ الأزمات ونيران الأحقاد، ويخلص العالم من حالة الاحتقان المزمن التي تهيمن عليه، فالتربية الإنسانية الحسينية كفيلة بالقضاء على جميع أنواع النزاعات، حيث يتربى الإنسان على الفكر والسلوك الإنساني الذي يعطي للبشر تلك القيمة الحقيقية التي يستحقها، ويسعى للحفاظ على كرامته من أي قوم يكون، وفي أية أرض يقيم.

اضف تعليق