في الأزمات الكبرى، يتحول الفرد الضعيف داخل الجماعة إلى كائن متوحّش، خاصة إذا شعر أنه غير مسؤول شخصيًا عن الجريمة، بل "ينفّذ الأوامر". هكذا حدث في كربلاء. فقد ذاب الضمير في الزحام، واستسلم الجميع للمنطق الجماعي الأعمى، فمارسوا القتل بلا إحساس، والرمي بلا شفقة، ثم راحوا يضحكون، ويغنمون...
نطرح في هذا المقال قراءة سيكولوجية تربوية في السادية الجماعية لجيش ابن زياد:
قال الامام الحسين عليه السلام: "الناس عبيد الدنيا، والدين لعقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديّانون."
في واحدة من أفظع مشاهد التاريخ، لم يقف الجزارون غرباء على الحسين (عليه السلام)، بل كانوا أنفسهم من كتبوا إليه آلاف الرسائل، يدعونه ليكون إمامًا وقائدًا، وبايعوا سفيره مسلم بن عقيل، وذرفوا الدموع بين يديه.
ثم، في لحظة خاطفة، انقلبوا عليه كما تنقلب السباع الجائعة، وسلّموه بيدهم إلى الموت، بل اشتركوا في صناعته، فطوّقوه، وجوّعوه، وحرموه الماء، وذبحوا طفله الرضيع بين يديه، وسَبَوا بناته، ثم رفعوا رأسه ورؤوس أصحابه على الرماح.
فمن أين جاء هذا الجموح الإجرامي؟ وكيف استطاع هؤلاء أن يتحولوا إلى سيوفٍ بيد طاغية يُدعى عبيد الله بن زياد؟
وأين ذهبت رحمة الإسلام في صدور من يسمّون أنفسهم "مسلمين"؟
إنها ليست مسألة سياسية وحسب، بل هي ظاهرة نفسية وتربوية معقدة، تستحق التفكيك، والتأمل، بل والنحيب.
أولًا: التدين الشكلي والانفصال القيمي:
كان كثير من أفراد جيش ابن زياد يُصلّون، ويصومون، ويحفظون القرآن، بل يعرفون مكانة الحسين بانه سبط رسول الله وريحانته، لكنهم ما إن نودي فيهم: "يا خيل الله اركبي!" حتى تهافتوا إلى كربلاء كأنهم إلى نزهة دموية يتقرّبون بها إلى الله!
وهنا تتجلى أبشع صور الانفصام بين العقيدة والسلوك، حيث تحوّل الدين إلى قشرة، والشعائر إلى عادة، والإيمان إلى لقلقة لسان.
لقد تمّ اختزال الإسلام في الظاهر، وتفريغه من جوهره، فكان الرجل يُصلي ثم يطعن صدر الحسين بحربته، أو يُكبر ثم يذبح الطفل الرضيع من الوريد إلى الوريد.
ثانيًا: الضمير المُخدَّر وسايكولوجيا الطاعة للجلاد:
عبيد الله بن زياد لم يكن نبيًا ولا مصلحًا، بل كان نموذجًا للطاغية الدموي السيكوباتي، ومع ذلك انقاد له عشرات الآلاف، وسلّموا له رقابهم وضمائرهم.
ذلك لأنهم نشأوا في بيئة تَعوّدَت الطاعة العمياء، وتربّت على الخوف لا على الوعي، وعلى التبرير لا على التفكير.
في علم النفس السياسي، يُعرف هذا بـ"الانصياع للسلطة القمعية"، حيث يُنتج القمع المستمر شخصيات مكسورة، تفضّل السلامة على الكرامة، وتؤثر البقاء تحت السوط على الموت في سبيل مبدأ.
هؤلاء لم يقتلوا الحسين لأنهم يكرهونه، بل لأنهم خافوا من الطاغية أكثر مما أحبوا الحق.
فالقلوب كانت مع الحسين، ولكن السيوف كانت عليه… وهذه هي قمة السقوط.
ثالثًا: الخوف المقدّس وإرهاب الدولة:
حين دخل عبيد الله الكوفة، نشر الرعب في كل زاوية، فقتل مسلمًا، وصلب هانياً، وقطع الألسن، وسفك الدماء في الأسواق، حتى لم يعد في المدينة قلب ينبض بالثبات، ولا لسان يجهر بالحق.
فكان الخيار واضحًا أمام الكوفيين:
"إما أن تُذبح مع الحسين، أو أن تحيا مع يزيد."
فاختار الأكثرون الحياة الذليلة، على الموت الشريف، واستبدلوا الجنة بلقمةٍ باردة، والخلود بخوفٍ زائل.
رابعًا: سادية الجماعة وتحوّل الإنسان إلى وحش:
في الأزمات الكبرى، يتحول الفرد الضعيف داخل الجماعة إلى كائن متوحّش، خاصة إذا شعر أنه غير مسؤول شخصيًا عن الجريمة، بل "ينفّذ الأوامر".
هكذا حدث في كربلاء.
فقد ذاب الضمير في الزحام، واستسلم الجميع للمنطق الجماعي الأعمى، فمارسوا القتل بلا إحساس، والرمي بلا شفقة، ثم راحوا يضحكون، ويغنمون، ويجرّون بنات رسول الله كما تُجرّ الإماء في أسواق النخاسة.
هذه هي "سادية الجماعة" حين تكتسب الوحشية شرعنة، ويُصبح المجرم بطلاً في أعين السلطة، ويتحول الصمت إلى تواطؤ.
خامسًا: الانقلاب على البيعة: لماذا غدر الكوفيون؟
المأساة ليست في مَن قاتل الحسين بلا معرفة، بل فيمن بايعه ثم خذله.
الكوفة لم تكن غريبة عن الحسين، بل كانت مهد التشيع وميدان ولاء علي، ومع ذلك تحولت في لحظة إلى منبر للخيانة.
وذلك يعود إلى جملة عوامل:
١- غياب التربية المبدئية: حيث كان الولاء عاطفيًا هشًا لا يقوم على وعي رسالي ثابت.
٢- تأثير الإرهاب والتضليل: فالناس خافوا من السيف، وتشككوا من دعوة الحسين بعد حملة التشويه.
٣- المصلحة الفردية فوق القيم: فقدّموا أمانهم الشخصي على بيعتهم، وراوغوا ضميرهم، كما راوغت ألسنتهم.
ولذا قال الإمام علي عنهم من قبل:
"يا أهل الكوفة... ما أنتم إلا كالمرأة الحامل، تدمي ثم تجهض!"
سادسًا: الإسلام لا يُصلح ما أفسده النفاق:
لا تسأل: "أين ذهب الإسلام من قلوبهم؟"
بل قل: "أي إسلام هذا الذي حملوه؟"
إنه الإسلام الأموي، الذي أُفرغ من محتواه، وحُوّل إلى سلطة، لا رحمة، وإلى عصا، لا هداية.
فأصبحوا يذبحون الحسين تقرّبًا إلى الله!
وتلك قمّة المسخ العقائدي والروحي، الذي يصنعه الاستبداد حين يتسلّط باسم الدين.
اخيرا أقول:
في كربلاء، لم يكن الحسين وحده هو المظلوم، بل كانت الأمة هي الضحية الأولى، يوم خانت قيمها، وسكتت عن الطغيان، وذابت في الجبن، ورفعت سيوفها في وجه مَن بعث الله نبيه لأجله.
كانت الدمعة في عيونهم، لكن السيوف في أيديهم…
وكان الندم في ضمائرهم، لكنه جاء بعد فوات الشهادة، وبعد أن كتبوا على جباههم لعنة أبدية: "قتلنا الحسين!"
فيا أيها القارئ الحبيب،
لا تكن من الذين يمدحون الحسين بألسنتهم، ويخذلونه بسكوتهم، أو بمسايرتهم للباطل...
اضف تعليق