لم تكن فاجعة سامراء مجرد عبوة ناسفة، بل محاولة لنسف روح الأمة من الداخل. غير أن الحرم الذي أُعيد بناؤه، كان في حقيقته إعادة بناء للكرامة، والعقل، والضمير الإسلامي. واليوم، تقع مسؤولية الوحدة على عاتق كل من يملك قلمًا أو منبرًا، عقلًا أو ضميرًا، إذ لا مستقبل لهذه الأمة...
أولًا: الجذور العقائدية للتكفير واستهداف المقدسات
في عمق البنية الذهنية للتيارات التكفيرية، تتجلّى مفارقة فكرية خطيرة، تتمثل في تحويل التوحيد من عقيدة جامعة إلى أداة للإقصاء والتفجير. فهذه التيارات، التي خرجت من عباءة الوهابية وامتدادات “السلفية الجهادية”، لم تكتفِ بتشويه مفهوم التوحيد، بل حوّلته إلى سلاح يؤدي الى سفك الدماء وهدم الرموز الدينية.
اختزال التوحيد في مظاهره الشكلية، هو أول معاقل الانحراف. فتعظيم القبور أو زيارة أولياء الله الصالحين يُعدّ عندهم شركًا، مستندين إلى تأويل قاصر للآيات الكريمة، كقوله تعالى:
(وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) [الجن: 18]،
وهم يغفلون عن سياق الآية ومقاصدها الكبرى، ويغلقون أعينهم عن سيرة النبي صلى الله عليه واله نفسه في زيارته لقبور البقيع وأمه وسائر المؤمنين.
ومن ثم، تكفير كل مخالف في العقيدة تحت مظلة “الولاء والبراء”، فكل من لم يؤمن بتصورهم المحدود للعقيدة، من الشيعة والصوفية، بل حتى من عموم أهل السنة، يصبح عندهم هدفًا مشروعًا للقتل والتكفير.
يضاف إلى ذلك تبنّيهم لفكر “الجاهلية المعاصرة”، الذي استُنبط من تنظيرات سيد قطب، وتحوّل على يد “السلفية الجهادية” إلى منصة لتكفير المجتمعات برمتها، وتبرير الإرهاب بوصفه “جهادًا ضد الجاهلية”.
ثم يأتي الانبهار والتقديس غير المشروط لتراث ابن تيمية، الذي كان من أبرز المنظّرين لشرعنة هدم القبور، إذ يقول في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم:
“فإن البناء على القبور من وسائل الشرك، ويجب هدمه.”
وهكذا جُعلت نصوصه -لا الوحي الإلهي- مرجعية مقدّسة تعلو على سائر العقل والدليل والنصوص الأخرى.
ثانيًا: سامراء… لماذا استُهدفت؟
لم يكن استهداف المرقد الطاهر للإمامين العسكريين (عليهما السلام) في سامراء عام 2006 حدثًا عرضيًا أو مجرد عمل إرهابي عابر، بل كان ضربًا مقصودًا لرمز وجودي في الوعي الشيعي، ومحاولة ممنهجة لإشعال فتيل الفتنة الكبرى في العراق والمنطقة.
فسامراء، بكونها تحتضن الإمامَين العسكريين، وتشكّل بوابة الغيبة الكبرى للإمام المهدي (عج)، تمثل عقدة الوصل الروحي والعقائدي في العقل الشيعي. وضربها لم يكن موجّهًا للحجر، بل للهوية.
وكانت الغاية كذلك إعادة إنتاج النزاع المذهبي في أبشع صوره، عبر استفزاز مشاعر الملايين، ودفعهم نحو ردود فعل انتقامية، ليبدو المشهد حربًا أهلية، لا عدوانًا تكفيريًا يستهدف الجميع.
ثم جاءت الكارثة في لحظة دقيقة من التحول السياسي بعد سقوط النظام البعثي، لتنسف أي أمل في بناء دولة جديدة، ولتفتح الطريق أمام الانفجار الأمني والطائفي.
وما خفي كان أعظم: إذ خدمت هذه العملية مشاريع الاحتلال والتقسيم، ومكّنت القوى الخارجية من التدخل بحجة حماية الطوائف، أو تحقيق التوازن المزعوم بين المكونات، فكان الدم هو الثمن، والمقدسات هي الضحية.
ثالثًا: تداعيات الزلزال… من سامراء إلى العالم
1- الآثار الفورية:
سرعان ما اندلعت الفتنة الطائفية العارمة، واجتاح العنف شوارع العراق من شماله إلى جنوبه. قُتِل الآلاف، واستُهدِفت مئات المساجد، وفُقِد الأمان الاجتماعي، وكاد الوطن أن يُمزق في نار الانتقام الأعمى.
تبدّدت البوصلة عن العدو الحقيقي؛ فانشغل الداخل الشيعي والسني بمعارك صغيرة، تاركين التنظيمات التكفيرية تنمو وتتمدّد. وكانت النتيجة ولادة “داعش” من رحم الغفلة والدم.
2- الآثار البعيدة:
على مستوى العالم الإسلامي، تعززت الشكوك بين السنة والشيعة، حتى في المجتمعات المسالمة التي لم تعرف النزاع المذهبي من قبل، كالهند وماليزيا وأوروبا.
وتم توظيف التجربة العراقية لتأجيج الصراعات الأخرى: في سوريا طُرحت الحرب كصراع طائفي، وفي اليمن تم تسويغ العدوان تحت ذريعة “مواجهة التشيع السياسي”.
وفي الخارج، كان المشهد فرصة ذهبية لتكريس الإسلاموفوبيا، إذ صارت صور القبور المهدّمة والمساجد المفجّرة عنوانًا للإسلام في الإعلام العالمي.
رابعًا: الكلمة في مواجهة الرصاصة… دور العلماء والمراجع
في مواجهة هذا الفكر الظلامي، لابدّ من كلمة تضاهي الصرخة، وعقل يعادل المدفع، وفقه يعيد التوازن إلى ميزان الدين. وقد كان لمراجع الأمة، وفي طليعتهم السيد السيستاني، موقف أخلاقي وتاريخي حاسم، حين قال: “لا تقولوا إخواننا أهل السنة، بل هم أنفسنا.” في لحظة كان يمكن فيها أن يتفكك العراق.
الأدوار المطلوبة:
تفكيك بنية التكفير بأدلة القرآن والعقل، وإحياء سيرة النبي صلى الله عليه واله الذي قال: “كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها فإنها تذكّركم الآخرة.”
التمييز بين العقيدة والعيش المشترك؛ فالوحدة لا تعني الذوبان، بل الاحترام، والتعايش لا يعني التنازل، بل الاتفاق على المشترك.
إحياء التراث السنّي الرافض للتكفير، بنشر أقوال العلماء الكبار، كالإمام النووي، والسيوطي، والذهبي، وابن حجر الهيتمي، الذين نصّوا على أن الشيعة مسلمون.
الخطوات العملية:
1- تأسيس مجامع علمية مشتركة سنّية وشيعية.
2- توحيد الخطاب الديني في الإعلام ضد التكفير.
3- إطلاق برامج تأهيلية في الحوزات والجامعات لتفنيد الفكر الوهابي بعمق وموضوعية.
خامسًا: بناء الضريح المقدس
كان بناء المرقد الشريف من جديد إعلانًا صريحًا أن الإرهاب لا يقتل الذاكرة، ولا يهزم الروح. فالحجر الذي يُهدم يمكن أن يُبنى، أما الإيمان فمتى اشتدّت عليه العواصف، ازداد رسوخًا.
لم تكن إعادة البناء مجرد ترميم، بل كانت رسالة تحدٍّ وصمود، وعهدًا جديدًا على مواصلة الولاء رغم الجراح.
وقد وحّدت هذه الفاجعة جهود المؤمنين، شيعة وسنّة، من مختلف البلاد، في صورة نادرة للتكاتف الإسلامي حول القيم لا الطوائف، وحول المقدسات لا السياسات.
سادسًا: وحدة الأمة
رغم أن المشهد مظلم أحيانًا، إلا أن وحدة الأمة ليست أُمنية طوباوية، بل مشروع قابل للتحقّق، متى توفّرت ثلاثة شروط:
1- النية الصادقة للخروج من نفق الاحتراب.
2- الخطاب العقلاني الذي يقدّم الإنسان على الانتماء، والدين على التعصّب.
3- وعي العلماء والنخب بمسؤوليتهم التاريخية في إعادة بناء الجسور.
اخيرا نقول:
لم تكن فاجعة سامراء مجرد عبوة ناسفة، بل محاولة لنسف روح الأمة من الداخل. غير أن الحرم الذي أُعيد بناؤه، كان في حقيقته إعادة بناء للكرامة، والعقل، والضمير الإسلامي.
واليوم، تقع مسؤولية الوحدة على عاتق كل من يملك قلمًا أو منبرًا، عقلًا أو ضميرًا، إذ لا مستقبل لهذه الأمة في ظل الطائفية، ولا مجد يُرتجى في ظل التكفير.
اضف تعليق