المبدأ الرئيسي الذي ارتكزت إليه حركة الحسين عليه السلام هو رفض العيش تحت نير الحاكم الظالم، فلا معنى للحياة إذا كان ثمن المحافظة عليها هو خسارة العدالة، وشيوع الجور والفساد، أو كما قال عليه السلام فإني لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا برما...

مع كل ذكرى جديدة لعاشوراء يستعاد السلوك السجالي على مواقع التواصل الاجتماعي في خطابات (المتفاعلين) مع الواقعة سواء على مستوى الرفض أو القبول، ومعه ينقسم أبناء الوطن الواحد والدين الواحد بين من يقف مع كل تفاصيل الواقعة، أو بعضها مقابل من يقف بالضد من كل التفاصيل أو بعضها، وغالبا ما يكون طرفا النزاع من الفئات المتدينة، أو ممن ينحدرون من بيئات متدينة وإن كان بعض المنخرطين في هذا السجال على المستوى الشخصي غير متدينين بالمرة، وهذه من المفارقات التي ترافق المشهد العام الذي يضم (أتباع) الديانات بصورة عامة حين يجدون أنفسهم في قلب معركة دينية ما!

 أما غير المتفاعلين فهم جمهور قادته قناعاته الخاصة لممارسة سياسة النأي بالنفس عن هذه المناسبة بصورة كلية أو جزئية، وهذا الجمهور مايزال أبعد ما يكون عن تناول التحليل المنطقي الدقيق، نظرا لانعدام أو ندرة البيانات والاستبيانات الخاصة به!  

وبقدر ما يتعلق الأمر باستعادة واقعة عاشوراء سنويا بين صفوف المختلفين فيها أو عليها فإن بؤرة الخلاف الرئيسية تكمن في شرارات الواقعة التي ينطوي بعضها على رمزيات دينية قابلة لأن تُقرأ من زوايا تحمل أبعادا استفزازية بالنسبة لهذا الطرف أو ذاك. 

وتسهم في تعميق الفجوات الاجتماعية المتولدة عن كوامن الاستفزاز هذه أطرافٌ داخلية، أو جهات خارجية تجد من مصلحتها أن تظل هذه المناسبة( الإسلامية) موسما للاحتراب المذهبي بدلا من أن تكون فرصة لمراجعة تاريخية محايدة تُقَيَّم على أساسها أدوار أصحابها، ومن ثم يجري إصدار الأحكام الاخلاقية بحقهم.

وعليه فإن بعض الممتعظين من هذا الخلاف السنوي يدعو جهرا أو من طرف خفي لإلغاء الاحتفاء بالمناسبة أصلًا درءًا للفتنة وحفظًا للنسيج الديني أو الوطني العام في العوالم الافتراضية (على الأقل)، ومن هؤلاء من ينطوي على حسن نية بصرف النظر عن الرؤية الفكرية التي يتبناها، لكنه يغفل أو يتغافل عن كون الاختلاف على مواقع التواصل الاجتماعي لا ينحصر في إحياء ذكرى عاشوراء وحدها، فالسمة التي تكاد تكون هي الغالبة على هذه المنصات الإلكترونية تتجسد في وجود الاختلاف، والانقسام في الآراء مع كل استعادة لذكرى تاريخية مثيرة للجدل العام. 

وبحدود اطلاعي وملاحظتي لظواهر الاختلاف الإلكتروني فإنها في الغالب تنتهي مع انتهاء مناسباتها ليظل المختلفون محافظين على صداقاتهم، وأظن أن ذكرى إحياء عاشوراء على وجه الخصوص لو أنها حظيت بإدارة ناجحة، وأسهم فيها أهل الوعي والحكمة والمعرفة لاسيما الأكاديميين المتجردين عن التبعية الطائفية التي تصور لهم استعادة الذكرى بوصفها تمجيدا وتبجيلا لرواية شيعية ضد رواية سنية، أو العكس لكانت هذه المناسبة تحديدا فرصة ثمينة للتعارف الاجتماعي الحقيقي، والانفتاح الفكري الحقيقي، ومظلة جامعة يأوي إليها أبناء الدين الواحد وأبناء الوطن الواحد بمحبة واحترام متبادل. 

ولكن انكفاء الشريحة الأكاديمية -بالوصف الذي ذكرناه آنفا- عن الإسهام في عملية التنوير التاريخي يترك الأبواب مشرعة أمام المدون الأمي أو شبه الأمي لملء الفراغ بسطحيته، وما تنطوي عليه نفسه من خواء، وعُقَد وتناقضات، ومن ثم يجري تحويل مسار الذكرى العظيمة بحكم أفعال هؤلاء إلى طريق مسدود، وعقبة كأداء. 

يبقى أن نقول إن المتابع للظاهرة العاشورائية يلاحظ نموا في الخطاب المناصر بقدر أو بآخر لموقف الحسين عليه السلام في بيئات علمانية مختلفة سواء ما كان منها داخل الجغرافية الإسلامية أو خارجها، فضلا عن دخول بعض التيارات السلفية لبحث هذه القضية بحثا إيجابيا يتجاوز نظرتها التقليدية التي ترى في استعادة هذه الذكرى دعوة للفرقة، والفتنة! لكن هذا الخطاب الخارج عن أدبيات الفلسفة السلفية مايزال حتى الآن في أدنى درجاته، وهو أمر لابد من تفهمه بملاحظة أن كل التيارات الدينية السلفية القديمة منها والمستحدثة تستند إلى مبدأ إرضاء ولاة الأمور بأي حال، وعلى أي حال.

إذ المتدين بالفهم السلفي للإسلام تهيمن على وجدانه غالبا فكرة الطاعة لولي الأمر مطلقا، بمعنى عدم الخروج عليه برا كان أو فاجرا، وهذه النظرية الغريبة عن روح الإسلام شكّلت عبر التاريخ جدارًا فقهيًا ونفسيًا يمنع المسلمين المعتقدين بها من قبول قيم الثورة الحسينية في الواقع السياسي والاجتماعي، وذلك لأن المبدأ الرئيسي الذي ارتكزت إليه حركة الحسين عليه السلام هو رفض العيش تحت نير الحاكم الظالم، فلا معنى للحياة إذا كان ثمن المحافظة عليها هو خسارة العدالة، وشيوع الجور والفساد، أو كما قال عليه السلام:(( فإني لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا برما)). 

اضف تعليق