الاستفزازات والضغوط والتهميش لن يكون مبرراً للانطواء والانعزال في مدرسة أهل البيت، عليهم السلام، بل العكس؛ يكون مدعاة لمزيد من العمل في المجالات كافة لنشر العلوم والمعارف بين افراد الامة، فالإمام العسكري لم يُترك ليمارس حياته الطبيعية، فان وجوده بالأساس في سامراء لغرض المراقبة المستمرة...
ما أحوجنا اليوم الى عَلمٍ هادٍ يُحيي في نفوس افراد الأمة اليوم قيم الأخلاق والدين المُحمديين! الإمام أبو محمد، الحسن بن علي العسكري، عليهما السلام، الذي نعيش هذه الأيام ذكرى استشهاده، خاض الجهاد بالكلمة لإعادة روح الإسلام الى الأمة رغم كل الجهود المبذولة من قبل الدولة العباسية، ومن قبلهم الدولة الأموية للإبقاء على "القالب الرسمي" لفهم الدين في مقابل القالب الرسالي –السماوي الأوسع في أبعاده الإنسانية والحضارية، فكانوا يريدون مظاهر الدين –الصلاة والصيام والحج- الى جانب الغناء والإباحية، وقتل روح المسؤولية، وعبادة الذات، والإثراء والتسلّط بكل الوسائل.
الامام العسكري ولد سنة 232 للهجرة في مدينة جدّه المصطفى، كما هو حال جميع الأئمة المعصومين، ما عدا أمير المؤمنين المولود في الكعبة المشرفة، والإمام الحجة المنتظر المولود في سامراء، بمعنى أن أكثر من قرنين من الزمن مضت على هجرة الرسول الأكرم، وتأسيسه النظام الإسلامي المتكامل، بيد أن واقع الامة كان بعيداً –وما يزال- عن روح هذا النظام النموذجي والاستثنائي، مما استدعى إجراءات وقائية سريعة وشجاعة منه، عليه السلام.
التقويم
وهي عملية ملازمة لكل مسيرة حضارية، لاسيما الحضارات القائمة على الدين بقيادة الرسل والانبياء، فان الظروف الاجتماعية والسياسية لها تأثيراتها السلبية على هذه المسيرة نظراً لتغير الثقافات والامزجة ومستويات الوعي والفهم مع مرور الزمن بما يشكل بمجموعه؛ الإيمان، يكفي الإشارة الى صعوبة المقارنة بين الذين كانوا يؤمنون بالقيم والاحكام التي جاء بها نبي الله عيسى، عليه السلام، وهو على قيد الحياة، والذين يدّعون اليوم الإيمان بالديانة المسيحية بعد تعرضها للانحراف بسبب التثليث، فأحياناً تتكلل هذه العملية التقويمية بالنجاح كما حظيت به الأمة الإسلامية بفضل جهود وتضحيات الأئمة المعصومين، عليهم السلام، فيما تتعرض للفشل في محاولات أخرى.
و أول خطوة في هذه العملية؛ التصدّي للشبهات العقدية، والاكاذيب والمفتريات على الأئمة المعصومين، وايضاً على رسول الله، صلى الله عليه وآله، "ذلك أن طغاة بني العباس ضيقوا على معادن العلم وأهل بيت الوحي، ومنعوا الناس من الاستفادة من علوم آل محمد، صلوات الله عليهم، بالمقابل قام بعض المشعوذين من غير المسلمين بتضليل المسلمين وإفساد عقيدتهم". (من حياة الامام العسكري- المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي).
وأكثر ما يحزّ في نفس الأمام العسكري أن يكون من بين الكذابين والوضاعين؛ من دعاة التشيع واتباع الامام العسكري، مثل عروة بن يحيى الدهقان البغدادي –يقول الامام الشيرازي في مؤلفه- فقد "كان يكذب على ابي الحسن علي الهادي، وعلى ابي محمد الحسن بن علي العسكري من بعده، وكان يختلس الأموال التي ترد للإمام، عليه السلام، من شيعته ويكذب عليه، وقد لعنه الأمام وأمر الشيعة بلعنه والبراءة منه لئلا يُفسد عقيدتهم".
ويبدو أن هذه كانت مرحلة متقدمة في المواجهة بين الأنظمة الحاكمة والمسيرة الرسالية المتمثلة بأئمة أهل البيت، عليهم السلام، ففي البداية كان وضاعوا الروايات من وعاظ السلاطين، وأشباه العلماء والمحدثين، كانوا يتقاضون أجورهم من الحكام والأمراء لقاء الكذب على رسول الله بروايات تشرّع افعالهم وجرائمهم، بينما في عهد الامام الحسن العسكري، حيث توسعت القاعدة الشيعية في الامة، فان الحكام تمكنوا من اختراق المجتمع الشيعي و تغرير ضعاف النفوس والايمان لارتكاب هذه الجريمة، مما ضاعف الجهد على الإمام العسكري، عليه السلام، ليواجه عدواً على الجبهة الخارجية، و يواجه عدواً على الجبهة الداخلية ايضاً.
يحمي دين جدّه وهو معتقل
لنتصور الامام العسكري وهو معتقل في سامراء بأمر من المعتمد العباسي، ثم يأتي نفس هذا الحاكم ليطلب من الامام المساعدة لمواجهة خطر خارجي يهدد الإسلام بشكل عام، عندما حدثت الضجة والتشكيك عند الناس بوجود شخص نصراني يرفع يده الى السماء فتهطل مطراً على الفور، وكانت سامراء وأمصار أخرى تشكو الجفاف وشحة المطر، وكان المسلمون يذهبون الى صلاة الاستسقاء دون جدوى، فأخبروا الحاكم العباسي بالأمر، فعجز عن الحل، فلم يجد بُداً من اللجوء الى الأمام العسكري.
وقبل إخراج الامام من السجن، طلب الافراج عن جميع المعتقلين الشيعة، وتم له ذلك، وعندما خرج الناس لصلاة الاستسقاء وكان بينهم الراهب النصراني، اقترب منه الأمام العسكري، وما أن رفع يده الى السماء أمر بالقبض على يده وأخذ ما فيه، وإذا بها عظم آدمي، فأخذه منه، ثم قال له: ارفع يديك وادعو الله، فلم تتأثر السماء بشيء، فقال لهم الامام، "هذه جزء من عظام نبي وجدها هذا الراهب في احدى المقابر، وما كُشف عظم نبي تحت السماء إلا وهطلت بالمطر"، وفي الرواية التي ينقلها الامام الشيرازي في كتابه، أن الامام العسكري "صلّى بالناس، فمطرت السماء وارتفع القحط والغلاء".
الاستفزازات والضغوط والتهميش لن يكون مبرراً للانطواء والانعزال في مدرسة أهل البيت، عليهم السلام، بل العكس؛ يكون مدعاة لمزيد من العمل في المجالات كافة لنشر العلوم والمعارف بين افراد الامة، فالامام العسكري لم يُترك ليمارس حياته الطبيعية، فان وجوده بالأساس في سامراء لغرض المراقبة المستمرة، فكان بين الاعتقال في الزنزانات المظلمة، وبين الافراج عنه مع الإقامة الجبرية والمراقبة من عيون وجواسيس للتعرّف على اتباع الإمام في الامصار الإسلامية، ومن يُرسل الحقوق الشرعية (الأموال)، ومن يتلقى منه التوجيهات والاوامر.
ولو من الصعب الختام بالحديث عن سيرة الامام الحسن العسكري، عليه السلام، بيد أن "ما لا يُدرك كله لا يترك جلّه"، على قدر المستطاع نقتبس من ضياء أهل البيت ما يفيدنا في حياتنا اليومية في ظل عالم التطور والتقدم العلمي، فالامام العسكري وضع النقاط على الحروف لابناء الأمة في زمانه ولأهل زماننا ايضاً، مؤكداً على وجوب الالتزام بمنهج أهل البيت، عليهم السلام، ومما روي عنه في هذا السياق: "قد صعدنا ذُرى الحقائق بأقدام النبوة والولاية، و نوّرنا السبع الطرائق بأعلام الفتوة، فنحن ليوث الوغى، وغيوث الندى، وفينا السيف والقلم في العاجل، لواء الحمد والعلم في الآجل، وأسباطنا خلفاء الدين، وحلفاء اليقين، ومصابيح الأمم، ومفاتيح الكرم"، والرواية طويلة، لمن يريد المزيد في كتاب سماحة الامام الشيرازي الراحل.
وبذلك يحدد الامام العسكري الخط والمنهج الصحيح والمتكامل لمن يريد النجاة والنجاح في حياته.
فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّا.
اضف تعليق