في هذا المقال، سنسبر أغوار الآيات القرآنية التي تتحدث عن شهر المحرم وفضله، ونستنبط منها الدروس المعاصرة التي يمكن أن تنير دربنا اليوم. فكما أن نهر الفرات كان شاهداً على ملحمة الحق، فإن القرآن الكريم يظلّ النهر المتدفق بالحكمة الذي لا ينضب معينه...
بين ثنايا الزمن تتألق أيامٌ مباركةٌ كالنجوم في سماء الوجود، تحمل في طياتها أسراراً إلهيةً وعبراً خالدة. وشهر المحرم ذلك الضيف الكريم الذي يطلّ علينا بمطلع كل عام هجري ليس مجرد شهرٍ بين الشهور، بل هو موسمٌ للتأمل في سفر الخلود، وفرصةٌ لاستلهام الحكمة من آيات الذكر الحكيم.
فإذا كان القرآن الكريم قد خصّ الأشهر الحرم بذكرٍ عظيم، فإن شهر المحرم يحتل مكانةً فريدةً بينها، إذ سمّاه رسول الله (ص) "شهر الله" تشريفاً وتكريماً. وهو الشهر الذي شهد أسمى دروس التضحية والفداء في كربلاء، حيث ارتوت تربة الطفّ بدماء سبط النبي (ص) وأهل بيته الأطهار، فكانت كربلاء مدرسةً للحرية، ومنارةً للثورة على الظلم.
في هذا المقال، سنسبر أغوار الآيات القرآنية التي تتحدث عن شهر المحرم وفضله، ونستنبط منها الدروس المعاصرة التي يمكن أن تنير دربنا اليوم. فكما أن نهر الفرات كان شاهداً على ملحمة الحق، فإن القرآن الكريم يظلّ النهر المتدفق بالحكمة الذي لا ينضب معينه.
لنقف معاً على عتبات هذا الشهر العظيم، مستلهمين من آياته نور الهداية، ومن دروسه قوة العزيمة، لنجعل من أيامه منطلقاً لتجديد العهد مع الله، وإحياءً لرسالة الإسلام الخالدة.
المحرم في القرآن: دروس وعبر
1-تحريم الظلم وتأكيد العدالة الإلهية
يقول تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36]. هذه الآية تحمل رسالة جوهرية للمسلمين في كل العصور، حيث ينهى الله عن الظلم في الأشهر الحرم بشكل خاص، مما يدل على عظم الجرم في هذه الأيام المباركة. واقعة كربلاء تمثل ذروة الصراع بين الحق والباطل، حيث وقف الإمام الحسين (ع) أمام ظلم يزيد بن معاوية رافضاً البيعة له، مؤكداً مبدأ "هيهات منا الذلة". اليوم، يمكننا أن نستلهم من هذه الآية ضرورة الوقوف ضد كل أشكال الظلم والاستبداد في مجتمعاتنا.
2-الصبر والثبات على المبادئ
يذكر القرآن الكريم قصة النبي موسى (ع) ونجاته من فرعون في يوم عاشوراء، حيث يقول تعالى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} [طه:77]. هذه القصة تتقاطع مع ثبات الإمام الحسين (ع) وأصحابه في كربلاء، حيث فضلوا الشهادة على الرضوخ للظلم. اليوم، يمكننا أن نتعلم من هذه الدروس أهمية الثبات على المبادئ والقيم الإسلامية الأصيلة.
3-التضحية والفداء في سبيل الله
تمثل واقعة كربلاء أعظم نموذج للتضحية في الإسلام بعد تضحيات الأنبياء. يقول الإمام الحسين (ع): "إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي، فيا سيوف خذيني". هذه الروح التضحية نجدها في القرآن في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة:207]. اليوم، يمكننا أن نترجم هذه الروح في تضحيتنا من أجل إعلاء كلمة الحق ونصرة المظلومين.
كيف نستفيد من تعاليم المحرم اليوم؟
1-إحياء ذكرى عاشوراء: بين العاطفة والعمل: يؤكد الفقه الشيعي على أهمية إحياء ذكرى عاشوراء، حيث ورد عن محمد بن الحسن الطوسي في الأمالي عن أبيه: "كل الجزع والبكاء مكروه ما خلا الجزع والبكاء لقتل الحسين عليه السلام". لكن الإحياء الحقيقي لا يقف عند البكاء والعزاء، بل يجب أن يتحول إلى برنامج عملي للتغيير الإيجابي في حياتنا الشخصية والمجتمعية.
2-تعزيز الوحدة الإسلامية: شهر المحرم فرصة لتعزيز الوحدة بين المسلمين، فكما أن اليهود كانوا يصومون عاشوراء شكراً لله على نجاتهم، وصامه النبي (ص) ثم أمر بصيامه، يمكن للمسلمين اليوم أن يتقاسموا القيم الإنسانية المشتركة التي تجسدها واقعة كربلاء.
3-مقاومة الظلم والفساد: تمثل كربلاء نموذجاً خالداً لمقاومة الظلم والفساد. اليوم، يمكننا أن نستلهم هذه الروح في مواجهة الفساد الاجتماعي والسياسي، والدفاع عن حقوق المظلومين، كما يقول الإمام الحسين (ع): "«إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي".
4-التمسك بالقيم الأخلاقية: في خضم المعركة، ظل الإمام الحسين (ع) وأصحابه ملتزمين بأعلى درجات الأخلاق، حتى مع أعدائهم. هذا يعلمنا اليوم أهمية الحفاظ على القيم الأخلاقية في كل الظروف، خاصة في زمن انتشرت فيه ثقافة "الغاية تبرر الوسيلة".
المحرم مدرسة للتغيير
شهر المحرم ليس مجرد ذكرى تاريخية، بل هو مدرسة متكاملة تقدم دروساً في الإيمان، والصبر، والتضحية، والثبات على المبادئ. من خلال التأمل في آيات القرآن التي تتحدث عن الأشهر الحرم، واستحضار دروس كربلاء، يمكننا أن نصنع تغييراً حقيقياً في أنفسنا ومجتمعاتنا. كما قال الشاعر:
"كأن كل مكان كربلاء لدى *** عيني وكل زمان يوم عاشورا"
فليكن شهر المحرم منطلقاً لتجديد العهد مع الله، وفرصة لمراجعة الذات، وخطوة نحو بناء مجتمع أكثر عدلاً وإيماناً.
اضف تعليق