من سار في درب أمّ البنين والعبَّاس، سار في طريقٍ محفوفٍ بالدموع، مفروشٍ بالألم؛ لكنه الطريق الذي لا يُنسى فيه الاسم، ولا يُدفن فيه الأثر. وهناك؛ إذ لا يُمحى النور، يقف الإمام شاهدًا، يضمُّ أرواحهم إلى قلبه، ويجعل من خدمتهم تاجًا، ومن غربتهم وسامًا، ومن فناءهم قربًا لا يزول...
أن تكون إنسانًا عاديًا، فهذا ما تسمح به لك الحياة… لكن أن تكون إنسانًا استثنائيًا، فهذا ما تفتحه لك المعرفة بالإمام المعصوم (عليه السلام)، والحبّ للإمام، والخدمة في سبيله، والذوبان فيه (عليه السلام).
في عالمٍ تذوب فيه الهويَّات، وتُستبدل القيم بالشَّهوات، ويضيع النَّاس في متاهات الأنا والغرائز، تبرز نماذج خالدة لم تكن استثنائية لأنَّها امتلكت القوَّة أو المال أو النفوذ؛ بل لأنَّها امتلكت النُّور الذي لا يُشترى، ولا يُنتزع؛ وإنَّما يُلقى في قلوبٍ طاهرة، صادقة، رأت الإمام بعين اليقين، وعاشت له، وماتت له، وخلدت به.
وهذا المقال هو رحلة في نور الإمام الحسين (عليه السلام)، نتعلَّم فيها كيف يكون الإنسان استثنائيًا بالانصهار الكامل في خطِّ الإمام (عليه السلام). وقد اخترنا شخصيتينِ تمثِّل القمَّة في كلِّ محور: السيِّدة أم البنين والعبَّاس بن علي (عليهما السلام)، ليكونا نوافذ نطلُّ منها على عظمة من أحبَّ الإمام حقًّا، وعرفه، وخدمه، وذاب فيه، حتَّى أصبحوا استثنائيينِ.
المحور الأوَّل: المعرفة بالإمام (عليه السلام) بوَّابة التميُّز الحقيقي.
الإمام المعصوم (عليه السلام) ليس شخصيَّة نقرأ عنها في كتب التَّاريخ، ولا رجلًا فاضلًا نكرِّمه كما نكرِّم العظماء؛ وإنَّما هو حُجَّة الله (تعالى) على خلقه، ومظهر أمره في أرضه، وواسطة النُّور بين الله (تبارك وتعالى) والنَّاس؛ هو مظهر الأسماء الإلهيَّة وصفات الجلال والكمال؛ به يُعرف الحق من الباطل، وبه تستقيم سُبل الهداية. والإمام (صلوات الله عليه) هو قلب الزَّمان وروح الوجود، وهو السراج الذي لا يُطفأ، والميزان الذي يُوزَن به الإيمان واليقين.
من عرف الإمام بحق عرف الله (سبحانه) على بصيرة، ومن أنكر منزلته أو جهل حقَّه حُجب عن معرفة الله (تعالى)، مهما ادَّعى؛ فالله (تبارك وتعالى) لا يُعرف إلَّا عن طريق من جعله لسان حكمته، وعين رحمته، وباب هداه؛ قال الإمام الرضا (عليه السلام) في حديث طويل يصف الإمامة: "الْإِمَامُ كَالشَّمْسِ الطَّالِعَةِ، الْمُجَلِّلَةِ(1) بِنُورِهَا لِلْعَالَمِ، وَهِيَ فِي الْأُفُقِ بِحَيْثُ لَا تَنَالُهَا الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارُ.
الْإِمَامُ الْبَدْرُ الْمُنِيرُ، وَالسِّرَاجُ الزَّاهِرُ، وَالنُّورُ السَّاطِعُ، وَالنَّجْمُ الْهَادِي فِي غَيَاهِبِ(2) الدُّجى، وَأَجْوَازِ(3) الْبُلْدَانِ وَالْقِفَارِ، وَلُجَجِ الْبِحَارِ.
الْإِمَامُ الْمَاءُ الْعَذْبُ عَلَى الظَّمَا، وَالدَّالُّ عَلَى الْهُدى، وَالْمُنْجِي مِنَ الرَّدى.
الْإِمَامُ النَّارُ عَلَى الْيَفَاعِ(4)، الْحَارُّ لِمَنِ اصْطَلى(5) بِهِ، وَالدَّلِيلُ فِي الْمَهَالِكِ، مَنْ فَارَقَهُ فَهَالِكٌ"(6).
إنَّ المعرفة بالإمام (عليه السلام) ترفع الإنسان من عبودية العادة، ومن أسر التَّقاليد، ومن الانشغال بالتَّفاصيل الصغيرة، وتدخله في عالم العبوديَّة النورانيَّة؛ إذ لا يرى إلَّا وجه الله (تعالى)، ولا يتبع إلَّا من اختاره، ولا يُضحِّي إلَّا لما يُرضي؛ ولذلك، من أراد أن يكون مميزًا في هذا العالم، فلا طريق أمامه إلَّا المعرفة الحقيقيَّة بالإمام. ولا يكفي أن نعرف أسماءهم؛ وإنَّما المطلوب أن نذوب في ولايتهم (عليهم السلام)، وأن نرى فيهم حقيقة التَّوحيد، وأن نُوقن أنَّهم باب الله (جلَّ جلاله) الذي لا يُؤتى إلَّا منه؛ قال الإمام الهادي (عليه السلام): "مَنْ اَرادَ اللهَ بَدَأَ بِكُمْ، وَمَنْ وَحَّدَهُ قَبِلَ عَنْكُمْ، وَمَنْ قَصَدَهُ تَوَجَّهَ إليكُمْ"(7).
وبمقدار ما نمتلك من معرفة عن الإمام المعصوم (عليه السلام)، تتبدَّل معاييرنا في الحياة كلِّها. ولا تعود الرَّاحة غاية، ولا المال معيارًا، ولا الشهرة مطلبًا. وتصبح الأولويَّة للحقِّ وللإمام الذي هو مِصداق هذا الحقّ، وتصبح الغاية هي أن نكون حيث يريد الإمام، ونموت حيث يرضى.
وهذا التحوّل الجذري نراه متجسّدًا في السيِّدة أم البنين (عليها السلام)؛ تلك المرأة العارفة بالإمام وولايته، التي لم تَعرف في حياتها قيمةً تُقاس بالمال أو الأبناء؛ وإنَّما عرّفت كلّ شيء بمعيار القرب من الإمام الحسين (عليه السلام).
ومن قلب هذه المرأة العظيمة خرج العبَّاس (عليه السلام)؛ الذي لم يكن يرى في نفسه إلَّا ظلًّا لحبيبه الحسين (عليه السلام)، ولم تكن البطولة في عينيه غاية، ولكن كانت وسيلة لخدمة الإمام. وكان يمكن أن يطلب لنفسه المجد، أو يبحث عن موقع في الحرب؛ لكنَّه ما أراد إلَّا أن يكون خادمًا للحقّ.
حين تنكشف لنا حقيقة الإمام (صلوات الله عليه)، تتغيَّر نظرتنا إلى الدنيا وما فيها. ولا نعود نبحث عمَّا نأخذه؛ بل عمَّا نقدّمه في سبيله. وتتحرَّر نفوسنا من حب الذَّات، وتمتلئ باليقين والولاء، فنصبح أحرارًا من كلِّ قيد؛ لأننا اخترنا أن نكون مع الإمام، لا حيث تميل الأهواء.
وهنا يتجلَّى سرُّ العظمة في أبطال كربلاء؛ الذينَ ما خرجوا طلبًا لثواب، ولا هربًا من عقاب؛ بل لأنَّهم أبصروا وجه الله (سبحانه) في إمامهم، فرأوا الطَّاعة له طاعة لله (تعالى)، والوفاء له وفاء للدِّين، والثَّبات معه ثباتًا على الصراط؛ فكانت كربلاء ميدان صدق، لا موضع شعارات، ومحراب يقين، لا حسابات.
وقد يسأل سائل ما هو الطريق إلى معرفة الإمام (عليه السلام)؛ والجواب على ذلك؛ هناك خطوات عدَّة لنيل هذه المعرفة؛ وأهمُّها:
الخطوة الأولى: التّأمُّل في أوصاف الإمام كما وردت في القرآن الكريم والروايات الشريفة.
إنَّ التَّأمّل في أوصاف الإمام المعصوم (عليه السلام) هو سلوك معرفي عميق يستهدف النفاذ إلى حقيقة الإمام كما أرادها الله (تعالى) أن تُدرَك، وكما قدَّمها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في بيانه النبوي، لا كما يتصوّرها النَّاس من خلال عدساتهم البشريَّة القاصرة، أو وفق مقاييسهم الاجتماعيَّة المحدود؛ ذلك أنَّ الإمام، في الرؤية القرآنيَّة والحديثيَّة، تعرض صورته ضمن أفقٍ أعلى، باعتباره مخلوقًا استثنائيًا اختُصَّ بعناية ربَّانيَّة، وجُعل محورًا للهداية، وواسطة للفيض الإلهي، وامتدادًا للنبوة في بعدها الباطني العميق؛ وهذا ما يتطلَّب من الباحث أو المؤمن أن يتجاوز القراءة التقليديَّة للنصوص، نحو قراءة تأمُّليَّة كاشفة، تسبر أغوار الكلمات، وتصل من خلالها إلى المعاني التي تُضيء الوعي، وتعيد تشكيل البصيرة.
من بين جميع الوسائل المعرفيَّة التي توصل الإنسان إلى فهم الإمام المعصوم (عليه السلام)، تبرز الزيارات المأثورة، وفي مقدِّمتها "الزيارة الجامعة الكبيرة"، كأحد أنبل المسالك وأصدقها أثرًا في بناء التصوّر الوجداني والعقلي عن مقام الإمام (عليه السلام)؛ فهي وثيقة معرفيَّة ربانيَّة، صيغت بألفاظ دقيقة، لتكون بوَّابة يدخل منها السالكون إلى عالم أنوار الإمامة، وكنه وجود المعصوم؛ فالزيارة الجامعة تكشف عن بنيته النورانية، ودوره في التكوين، ووظيفته في الهداية، وعلاقته بالله (عزَّ وجلَّ)، وعلاقته بالمؤمنين، وعلاقته بالكون بأسره.
إنَّ التأمل في كلَّ لفظ في الزيارة الجامعة يفتح على أفق معرفي، وكل كلمة تُشير إلى مقام، وكل وصف يُضيء طريقًا لفهم نور الإمام، وعصمته، وولايته، وعلمه، ورحمته، وحضوره في عالم التكوين والتشريع.
الخطوة الثَّانية: الاعتقاد بأنَّ الإمام (عليه السلام) هو جوهر التوحيد والعقيدة.
أن يوقن الإنسان بأنَّ الإمام المعصوم (عليه السلام) يُمثّل لبّ العقيدة وجوهر التوحيد، ولا تتحقَّق العبادة الحقيقية لله (تعالى) إلَّا من خلال معرفة الإمام الذي جعله الله (سبحانه) حجَّةً فاصلة بينه وبين عباده؛ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: "ذِرْوَةُ الْأَمْرِ وَسَنَامُهُ وَمِفْتَاحُهُ وَبَابُ الْأَشْيَاءِ وَرِضَا الرَّحْمنِ -تَبَارَكَ وَتَعَالى- الطَّاعَةُ لِلْإِمَامِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالى- يَقُولُ: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً)"(8)، في إشارة إلى أنَّ أعمال الإنسان مهما كثُرت، من صلاة وصيام وخدمة، تبقى منقوصة ما لم تصدر عن بصيرة في معرفة الإمام (عليه السلام).
الخطوة الثَّالثة: الدعاء.
المعرفة يمكن أن تلقى في القلب من عند الله (تعالى)، ويمكن أن تُنال بتزكية النفس، وصفاء السريرة، والتوجّه الصادق إلى الله (سبحانه وتعالى)؛ فإنَّها عطيَّة إلهيَّة، ومنحة ربَّانيَّة، لا يُدركها القلب إلَّا إذا تهيأ لها بنور الإخلاص وصدق الطلب؛ ومن أعظم مصاديق هذه المعرفة، وأشرف مراتبها، أن يُعرِّفنا الله (تعالى) بنفسه، وبنبيه (صلى الله عليه وآله)، وبحجَّته في هذا الزمان، إمامنا المنتظر (أرواحنا له الفداء).
ولأجل هذا المقام العظيم، نوجّه وجداننا، بقلوبٍ مفعمة بالشوق والتسليم، إلى باب الدعاء، نستجدي منه هذه المعارف؛ كما علَّمنا دعاء الغيبة: "اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي نَفْسَكَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لَمْ أَعْرِفْ نَبِيَّكَ؛ اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي رَسُولَكَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي رَسُولَكَ لَمْ أَعْرِفْ حُجَّتَكَ؛ اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي"(9). وكلَّما ازددنا شوقًا لمعرفته، وصدقًا في طلبه، وإلحاحًا في الدعاء إليه، زاد الله (سبحانه) في بصيرتنا، ونفذ نوره في أعماقنا، حتَّى نبلغ اليقين.
المحور الثَّاني: مودة الإمام... حين يصبح القلب ساحةً للفداء، والحبّ طريقًا للانقياد.
"المودَّة في القربى" التي نصَّ عليها القرآن الكريم بقوله (تعالى): (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ)(10) هي تكليفٌ تعبّدي يجمع بين الحبِّ والمعرفة والطاعة؛ فالمودّة ـ بحسب بيان الأئمة (عليهم السلام) لا تنفصل عن الاتباع العملي(11)، وتُشكّل جامعًا بين الانجذاب القلبي والانقياد السلوكي، ولذلك اعتُبرت معيارًا دقيقًا للقبول عند الله (تعالى).
وفي هذا السياق تتجسّد سيرة أبي الفضل العبَّاس (عليه السلام) تجلٍّ لمودّة لا تعرف التردّد، وطاعة لا يشوبها تردّد؛ فحين بلغ الماء وقد أضناه العطش، مدَّ يده إليه، لكنه لم يشرب. لا لأنَّ الشرب محرَّم عليه؛ بل لأنّ المودّة جعلت إحساسه متّصلًا بعطش الحسين (عليه السلام)، فأنكر على نفسه أن ترتوي قبل إمامها، وقال يخاطبها:
يا نَفسُ مِن بَعدِ الحُسينِ هونى --- وَبَعدَهُ لا كُنْتُ انْ تَكونى
هذَا الْحُسَيْنُ شارِبُ الْمَنونِ --- وَتَشْرَبينَ باردَ الْمَعينِ
هيهاتَ ما هذا فِعالُ دينى --- ولا فعالُ صادقِ الْيَقينِ(12)
لقد عبّر قمر بني هاشم (عليه السلام) عن أسمى مراتب الولاء، وأشد درجات الوفاء، وأصدق تجليات الفناء في إمامه (صلوات الله عليه؛ إنَّه هنا يهزُّ ضمير البشريَّة بهذه الكلمات الخالدة. ويقول لها:
أتهنئين بالحياة بعد الحسين؟
أتشربين الماء والحسين يُقتل ظمآن؟
لا والله، إن كان الحسين سيموت عطشانًا؛ فالماء عليّ حرام، والحياة بعده هوان لا يُحتمل.
وكم في قوله "هيهات ما هذا فعال ديني" من ثبات عقائدي عظيم! فهو يتحرَّك من منطلق الإيمان؛ إذ يرى أنَّ السكوت عن نصرة الإمام الحسين (عليه السلام) خيانة للدِّين، وأنَّ الراحة في زمن استغاثة الإمام لا تليق بمَن صدق الله الوعد.
هنا يبلغ العباس (عليه السلام) ذروة المجد، ويُسطِّر للأجيال معنى أن تكون مؤمنًا حقًا بفعلٍ يترجم كل ما تؤمن به، حتَّى لو كان الثمن روحك ونبضك ودمك.
فهذا الموقف، الذي تنبض فيه كلمات العباس بدمه لا بحبره، يُعدُّ من أعظم ما قيل في ملحمة كربلاء، ويُجسّد لماذا أصبح العباس (عليه السلام) رمزًا للبطولة، وبابًا للحوائج.
ومن هذا العمق تنبثق سيرة أمّه، السيدة الجليلة أمّ البنين (عليها السلام)، التي ربَّت أولادها على البطولة وعلى المودَّة التي تتجسَّد في تقديمهم واحدًا بعد آخر فداءً للإمام (عليه السلام)؛ وهي القائلة:
لا تَدْعُونِّي وَيْكِ أُمَّ البَنِينِ --- تُذَكِّرِينِي بِلُيُوثِ العَرِينِ
كانَتْ بَنُونَ لِي أُدْعى بِهِمْ --- وَاليَوْمَ أَصْبَحْتُ وَلا مِنْ بَنِينِ
أَرْبَعَةٌ مِثْلُ نُسُورِ الرُّبى --- قَدْ واصَلُوا المَوْتَ بِقَطْعِ الوَتِينِ
تَنازَعَ الخِرْصانُ أَشْلاَهُمْ --- فَكُلُّهُمْ أمْسى صَرِيعاً طَعِين
يا لَيْتَ شِعْرِي أَكَما أَخْبَرُوا --- بِأَنَّ عَبّاساً قَطِيعُ الَّيمِينِ(13).
نعم، إنَّ أولياء الله يُعرفون بمدى حضور الإمام في وُجدانهم العملي، وفي التزامهم، وصبرهم، ومواقفهم، وترتيب أولوياتهم؛ ولهذا من قدَّم راحة الإمام على راحته، ورضاه على شهواته، فقد صدق في مودَّته. ومن أراد أن يبلغ هذا المقام، فلينظر في قلبه:
هل يسكنه نور الإمام؟
هل يراه سبيل النجاة؟
هل يقدّمه على النفس والمال والهوى؟
فإن وجد ذلك، فليحمد الله على هذه النعمة. وإن لم يجده، فليدعُ الله (سبحانه) أن يرزقه المودَّة الصادقة، كما رزقها للعبّاس وأمّه (عليهما السلام)، وأن يُذيقه حلاوة القرب من الإمام، كواقعٍ يضيء القلب، ويقود العمل.
المحور الثَّالث: الخدمة بين يدي الإمام... لغةُ الولاء التي لا تعرف الانطفاء.
الخدمة في ساحة الإمام الحسين (عليه السلام) هي انصهارٌ كامل في مشروعه الإلهي، وذوبانٌ في غايته الكبرى، وتحويل شامل لمسار الإنسان يجعل كلَّ أبعاده وطاقاته مسخَّرةً لنصرة الحقّ، بما هو حقّ، لا بما يوافق الهوى أو الانتماء.
فخدمة الإمام في معناها الحقيقي هي نهج حياة، تصوغ الإنسان جنديًا في جيش الهداية؛ سواء كان موقعه في ساحة القتال، أو في ساحة الكلمة، أو في محراب الفكر، أو بين النَّاس بلسان النصح والوعي؛ فمن خدم الإمام بعلمه، فهو من ورثة الأنبياء. ومن خدمه بماله، فهو ممن جاهد في سبيل الله. ومن خدمه بدمه، فهو شهيد. ومن خدمه بصبره وبصيرته، فهو من قادة النهضة.
والعبَّاس بن علي (عليه السلام)، على الرغم من شجاعته النَّادرة وقوّته المذهلة، لم يرَ نفسه فارسًا بقدر ما كان يرى نفسه خادمًا للإمام الحسين (عليه السلام)؛ لأنَّه كان يعلم أنَّ خدمة الإمام انتماء للحقّ الإلهي؛ ولهذا، حين قُطعت يداه تألَّم؛ لأنَّه لم يعد قادرًا على نصرة الإمام بالشكل الذي كان يرجوه؛ فلم يكن الألم الجسدي هو ما شقَّ عليه؛ بل الإحساس بالعجز عن الاستمرار في الخدمة.
إنَّ الخدمة تعني أن تُسخِّر كلَّ ما تملك: علمك، وفكرك، وصوتك، وقلمك، وعلاقاتك، وطاقتك، ودمعتك، في سبيل مشروع الإمام. وأن تجعل الإمام قطب رحى حياتك، وهدفك الأسمى، ومنطلق قراراتك، وأن تُلخِّص رسالتك بعبارة: "أين يكون الإمام، هناك أكون"؛ فالخادم الحقيقي يُذيب كيانه في سبيل أن يظلّ النور مضيئًا، وإن انطفأ جسده.
يا من تبحث عن معنى لحياتك، لا تجهد في البحث كثيرًا. اختر أن تكون خادمًا صادقًا لمشروع الإمام، فإنَّ الخادم –في موازين السماء– أعظم من كلّ المتفرجين، وأقرب إلى الله (تعالى) من كلِّ من وقف على الهامش يراقب ولا يقدِّم. واعلم أنَّ كلَّ لحظة تُبذل في خدمة الإمام الحسين (عليه السلام)، هي لبنةٌ في بناء الخلود، وسطرٌ يُكتب بنورٍ في صحيفة الأعمال.
واجعل أمامك أمَّ البنين (عليها السلام) قدوةً ونموذجًا؛ فقد أدركت بصدقٍ أنَّ أعظم ما يفعله الإنسان أن يجعل نفسها وجوارحه وفلذات كبده شهداء لنصرة الإمام؛ فهي لم تفتّش عن ذاتها في الأبناء، ورأت ذاتها في خدمة الإمام الإمام الحسين (عليه السلام).
إنَّها خادمة، لكن بأيّ مستوى؟
خادمة بلغت أعلى المراتب؛ لأنَّها تعاملت مع الإمام كإمام مفترض الطاعة، ورمزٍ للحقّ الذي به تُعرف سائر القيم؛ فارتقت بخدمتها، ورفعت أولادها بخدمتهم، وسُطّرت سيرتها بحروفٍ لا تمحوها الليالي، ولا تُطفئها السنون.
المحور الرَّابع: الذوبان في الإمام… أن تحيا به وتموت لأجله.
ثمَّة مقامات في الولاء، ومراتب في الحبِّ، ودرجات في المعرفة… لكنَّها كلّها، مهما سمت، تصبّ في ذروةٍ واحدة، لا يبلغها إلَّا من صفَّى قلبه، ونقَّى سريرته، وخرج من دائرة "الأنا" إلى ساحة "هو"؛ تلك الذروة هي الذوبان في الإمام (عليه السلام).
الذوبان هو الانمحاء الحقيقي، حين لا يعود للإنسان معنىً مستقل، ولا قيمة لحياته خارج دائرة الإمام. وحين تصمت الأنا، ليبقى صوت واحد فقط في القلب: الإمام.
في هذا المقام، يحسب الإنسان عمره بما بذل من نفسه في طريق الإمام. ويقيس نجاحه بما تركه من أثرٍ في مشروع الإمام. ويعرف قيمة وقته بمقدار ما اقترن بخدمة الإمام؛ وبذلك، تصبح الحياة بأسرها انعكاسًا لنورٍ واحد، والذات ظلًا باهتًا يدور حول شمس الإمام.
تأمّل العبّاس في كربلاء... حين بلغ الماء، وكانت الشفاه تتلوّى من العطش، وامتدَّت يده لترتوي؛ في لحظة، صرخ قلبه قبل لسانه:
يا نفسُ من بعد الحسين هوني --- وبعده لا كنتِ أن تكوني
أيّ قلبٍ هذا الذي يرى العيش بلا الإمام موتًا، والموت بين يديه حياة؟!
لقد ذاب العباس في الحسين... ذاب حتَّى ما عاد يشعر بنفسه. ما عاد يرى أنّ له حقًّا في شربة ماء، لأنّ الحسين لم يشرب.
وهكذا كانت أمّ البنين... لم تكن فقط أمًّا لأبطالٍ قُتلوا في كربلاء؛ بل كانت أمًّا لقضيةٍ، وركنًا في مشروعٍ إلهيّ.
كان كلّ نبضٍ فيها كان يقول: إنْ عاش الحسين، فكلّ المصائب تهون. وإنْ فقدنا الحسين (عليه السلام)، فكلّ شيء يفقد معناه؛ هذا هو الذوبان في الإمام... وبقيت تبكي عليه حتَّى فقدت بصرها(14).
وختامًا...
من أراد أن يُصبح استثنائيًا، فليبدأ من هنا... لا من صخب الألقاب التي تزول؛ وإنَّما من مقام الفناء في الإمام، حيث تُمحى الأنا، ويولد المعنى. وهناك، لا تُعدّ الأعمار بعدد السنين، بل بخطوات القرب، ودموع الشوق، وساعات الخدمة الخالصة.
فلنبدأ من اليوم…
لنُنقِّ قلوبنا من كلّ ما يشغلها عن الإمام، ولنُوجّه أرواحنا إلى حيث يكمن جوهر الحياة.
فلنقتدِ بأمّ البنين، التي لم تُرِد شيئًا من الدنيا، وأرادت أن تعرف مصير إمامها الحسين (عليه السلام) قبل مصير أولادها. لم تبحث عن عزّ في اسمها، وجعلت مجدها أن تكون أمًّا لخادم الحسين (عليه السلام).
ولنتمثَّل أبا الفضل، الذي لم يعرف للراحة طعمًا ما دام الإمام ظامئًا. خدم فذاب، وذاب فخلد، وخلد فصار بابًا من أبواب الله (تعالى).
من سار في درب أمّ البنين والعبَّاس (عليهما السلام)، سار في طريقٍ محفوفٍ بالدموع، مفروشٍ بالألم؛ لكنه الطريق الذي لا يُنسى فيه الاسم، ولا يُدفن فيه الأثر.
وهناك؛ إذ لا يُمحى النور، يقف الإمام شاهدًا، يضمُّ أرواحهم إلى قلبه، ويجعل من خدمتهم تاجًا، ومن غربتهم وسامًا، ومن فناءهم قربًا لا يزول...
في هذا الدرب، لا يُنتظر جزاء؛ لأنَّ القرب من الإمام هو الجزاء بعينه، ولأنَّ نظرةً واحدة من عين أبي عبدالله الحسين (عليه السلام) تُغني عن كلِّ ما في الدُّنيا.
اضف تعليق