فما أجمل أن نعيش كما كنّا، ولو للحظات... لحظات نعود فيها إلى نقاء الفطرة، حيث كانت القلوب صافية والأنفس مطمئنة، وحيث كان الأمان يغمرنا من كل جانب، وتتجدد فينا تلك المحبة الخالدة، ويستعيد العالم جزءًا من إنسانيته التي افتقدها في خضم التقدم المادي...

في ما مضى...

كانت لنا حياةٌ عشناها بفطرةٍ سليمة في مقتبل أعمارنا؛ حياةٌ امتلأت بالراحة والأمان والمحبة والاستقرار. لم نذق طعم التعب رغم ما بذلناه من عمل، ولم نفترق مهما بلغ الخلاف بيننا. مرت أعوامٌ كان مرّها أكثر من حلوها، كنا نجتمع فيها حول مائدةٍ واحدة، تجمعنا يد أبينا وحنان أمنا، وهما يتبادلان نظرات الفخر والمحبة نحونا. كانت أعينهما تتحدث دون كلمات: لقد استطعنا، بقدرة الله ثم بقدرتنا، أن نكوّن تلك الأسرة، وأن نبقي تلك المائدة عامرة لا ينقص خيرها ولا يتفرقون الأخوة مهما تعددت الأسباب.

لقد كان في ذلك الزمن شيءٌ بسيطٌ يجلب خيرًا وفيرًا؛ فحين تشرق الشمس، يبدأ يومٌ جديدٌ تبني فيه حلمك ومستقبلك، وحين يأتي الليل، تنام مطمئنًا وأنت تنظر إلى السماء وترى خلف تلك النجوم الساطعة أمانًا دامسًا يريح بدنك. آنذاك، كان من يجلب لك الرزق هو صدقك، ومن يهبك العافية هو نقاء قلبك وخلوّه من النفاق، ومن يجعلك محبوبًا بين أهلك وناسك هو محبتك للغير.

أما اليوم...

لقد تغيّر كل شيء. أصبح الوقت أسرع من أن نلاحقه، وصارت الحياة أصعب من أن نحيط بها. انتشر النفاق والكذب، وندر الصدق. بتنا نلهث خلف مشقات الحياة وراء ما هو فانٍ وزائل، غير آبهين إن كان ما نحصل عليه حلالًا أم حرامًا؛ فالأهم عند البعض أن يراه الناس بملابس جميلة وسيارات فخمة وبيوتٍ مشيدةٍ بطرازٍ فاخر. همه الوحيد أن ينعم بالراحة، ولو على حساب القيم والمبادئ.

انقطع سبيل المعروف، وانعدمت مساعدة المحتاج. تفرّقت الإخوة، وتحطّم ما تم بناؤه في سنين. انقسمت المائدة التي كانت تجمعنا إلى أرباعٍ متفرّقة، واحتبست الشمس لتضرّ لا لتنفع، وغابت النجوم تحت غبارٍ كثيفٍ فمحا سطوعها. باتت الأعين تخاف من النظرة الصادقة، والقلوب تتوارى خلف أقنعة زائفة.

وباتت الشاشات هي محور وجودنا، تخطف الأبصار وتستعبد العقول. نضيع في زحام افتراضي لا يمت للواقع بصلة، نبحث عن صور الكمال الزائفة التي تعرضها المنصات، فنقارن حياتنا بها ويزداد شعورنا بالنقص. أصبح القرب الجسدي بعيدًا، والترابط الروحي غائبًا، نستبدل دفء اللقاء ببرودة الرسائل النصية، وصدق المشاعر برموز تعبيرية. كأن العالم بات قرية، لكن أهلها لا يعرفون بعضهم البعض حق المعرفة.

حتى أنا… لم أعد كما كنت. لازمني الصمت والرضا، وأصبحت أتجاهل كل الأمور المتعبة، طلبًا لراحة بالٍ ليس إلا. أغلقت أبوابًا كانت مشرعة للود، وتحصنت بصمتٍ يحميني من قسوة الواقع. فقدنا القدرة على التعبير عن مكنونات أرواحنا خوفًا من سوء الفهم، أو ربما لأن أحداً لم يعد يملك الوقت للاستماع.

الختام

ورغم كل شيء، سيبقى في داخلنا ذلك الطفل الذي ذاق طعم الأمان ذات يوم. ما زلنا نؤمن أن بعض الخير لم ينطفئ، وأن ما مضى قد يعود ولو بنسخةٍ أبسط، إذا صدقنا أنفسنا وأصلحنا ما حولنا.. فما أجمل أن نعيش كما كنّا، ولو للحظات... لحظات نعود فيها إلى نقاء الفطرة، حيث كانت القلوب صافية والأنفس مطمئنة، وحيث كان الأمان يغمرنا من كل جانب، وتتجدد فينا تلك المحبة الخالدة، ويستعيد العالم جزءًا من إنسانيته التي افتقدها في خضم التقدم المادي.

اضف تعليق