الفعل الفلسفي لا يمنع الإنسان من إبداء الرأي بحرية، لا تضع الفلسفة الحدود والموانع أمام حرية التفكير، رهانات الفلسفة عديدة في واقع يعج بالتناقضات، ويحمل الواقع في طياته بذور الهدم، لكل عصر أزماته ومشكلاته، لابد أن يكون للفلسفة نصيب في الحل بطرح الأسئلة المحرجة، الإيمان بالنسبية في المعالجة...
البيئة العربية صحراوية بامتياز، والصحراء مكان طبيعي تقدم تجربة حياتية وجودية، الصحراء وطن للسكن والهدوء، الصحراء في تجربة الروائي إبراهيم الكوني تجربة حية تتجاوز الميتافيزيقا أو التفكير الفلسفي المجرد لأنها فضاء للعيش والتأمل، تجربة الإنسان مباشرة في غمار الطبيعة القاسية، تعزز بناء الإنسان في بعده الروحي من خلال وهج الذات وسعيها الدائم نحو الكمال والصفاء، إنسان الروح بوصفه العابر والمهاجر، والباحث في ثنايا الوجود والحقيقة، مكان للتعبير وفضاء للتأمل في ملكوت الله وسائر الموجودات.
منها يشعر الفرد بانتمائه للمكان، ومنها كذلك نلقي نظرة على الفضاء الشاسع والرحب، في ليل يتميز بالهدوء والسكينة، في ليل الصمت، تحاول الذات أن تشق طريقها نحو الحرية والحقيقة، تحاول الذات القبض على معالم الروح من خلل التأمل العميق في الذات والوجود، التفكير العميق في مغزى الحياة، واللغز الدفين، بناء على الربط المتين بين الإنسان والمكان، وبين الإنسان والزمان، وبين الإنسان والهوية والمصير.
إنسان الصحراء أقرب للفلسفة والتفلسف، وليست الفلسفة كما قال "هايدغر" سوى التفكير في الموت، والعيش من خلال تجربة القلق، عندما يواجه الإنسان فنائه، ويلقي على نفسه مجموعة من الأسئلة القلقة التي تعبر عن التناهي مما يدفعه للتفكير في الوجود الأصيل، واختيار نمط وجوده، والمعنى الكامن وراء العدم. فلا يسعى الإنسان لتقديس الموت والدعوة للتدمير، بل التفكير في الموت والفناء كمدخل للعيش بسلام وأمان بعيدا عن الرتابة والضوضاء، بعيدا عن الالتباس والثرثرة والفضول، يعني الاقتراب أكثر من الحرية الذاتية، الاقتراب من الحقيقة، في نفاد الإنسان نحو ذاته، في محاولة العيش مع الآخر من أجل بناء عالم مشترك ترسمه الذات بحرية.
العالم العربي اليوم في حاجة للفلسفة والتفلسف، مهمة الفلسفة علاجية، وصفة طبية فكرية في عالم صعب ومعقد، من التحديات السياسية والاجتماعية، عالم الحياة السائلة، والخوف من المجهول، عالم يتخلخل ويتفكك، يتوارى الواقعي ويحل المصطنع، عصر الصورة والذكاء الاصطناعي، حيث تصير الأشياء والأفكار معولمة، كذلك تتدفق الصور، ويكتسب الوعي الجمعي النمطية والتكرار، ويغيب بذلك التفكير النقدي السليم، هنا يحاول الفيلسوف المتشبع بروح التفلسف الانفلات من التنميط والتبعية، الانفلات من الصورة والمزيف.
الفلسفة علاجية، وقائية، ونوع من التدريب والتمرين على التأمل والتفكير، طريقة حياة تروم الفهم وتحقيق السكينة والهدوء للنفس لما تتضمنه الفلسفة من أدوات في التفكير، وتمنحه من إمكانيات للإنسان في التساؤل، والكشف عن التناقض، والظفر بالمعنى، الغاية من الفلسفة البحث عن الحقيقة، الهدف الأسمى من التفلسف الوصول للغايات، وأبرزها الحرية، والتحرر من القهر والظلم.
المجتمع العربي في حاجة للحرية والتحرر من الطائفية والمذهبية، والغلو بأشكاله الديني والسياسي، المجتمع العربي في حاجة للاستقرار النفسي والفكري، عندما تشتد الحروب، وتتصاعد النزاعات يكون المجتمع في حاجة للصفوة من الناس، للحكماء الذين يديرون الأزمات بروية، أولئك الذين ينشدون الخير والصلاح، يتأملون في العواقب والنتائج، يفهمون سبل النجاح، ومفتاح العبور بالمجتمعات نحو الفلاح والخير العميم.
الصفوة من خيرة القادة الذين تمرسوا في الحكم والقيادة، تزودوا بالحكمة، وعملوا على تقليب الأفكار، وحاولوا بوعيهم اليقظ وقدرتهم على فهم المشكلات، يقدمون لشعوبهم خيارات بديلة عن القوة بدهاء وذكاء، النأي كذلك عن تأجيج الأزمات، وتغليب الطائفة أو المذهب، يعملون على نقل المجتمع من الفوضى وشحنات العواطف الجياشة الميالة للتغلب والاستبداد نحو بناء الأوطان على القيم السمحة في الدين، وعلى القيم العالمية، تلك المبادئ التي تصون التعايش، وتعلي من الاعتراف والاختلاف، تبيح للمجتمعات أن تنقل تقاليدها بحرية وأمان نحو العالمية، ونحو آفاق أرحب.
الفلسفة بالمعنى اليوناني في المذهب الرواقي والابيقوري، وفي الرؤية السقراطية علاج لأمراض العصر، ترياق مضاد للجهل والبلادة وسوء الفهم، تكريس للعدالة والاستقامة وصفاء الذهن، الفلسفة تدريب للنفس على التأمل في الحياة والموت، علاج للأهواء والانفعالات، دواء لمن يشعر بالتوتر والغضب، فن للعيش، وأسلوب حياة خصوصا في التناسق بين الأفكار والقناعات والواقع المعيشي، أن يتحول الإنسان من الأنا الواحدية، وانغلاقية الذات نحو عالم أرحب للتلاقي والاعتراف، حوار مزدوج بين الذات وذاتها، وحوار للتثاقف بين الذات والآخر على قناعات يطبعها المنفعة وتبادل المصالح.
الأمم الآن في نزوعها نحو السلم لا تختار الحروب الدائمة، في سلام الأمم ونهضتها هناك تفكير مستمر للنأي بالذات عن الصراعات، وعدم الانجرار لها، وغالبا يكون التفاوض والتنازل، وتلاقي الأهداف والنوايا، وقديما اشترط كل من الفيلسوف أفلاطون والفارابي لإقامة المدن الفاضلة، والجمهوريات العادلة أن يكون في قمة هرم السلطة الفيلسوف الحكيم، ذو المواصفات المميزة ذهنيا وجسديا، صاحب تفكير هادف ورزين، وتفكيره قائم على الروية والتأني، كما يتحلى بصفات كالشجاعة والذكاء والبصيرة، طينة الحاكم من هذا النوع يوفر علينا الاندفاع نحو الحروب، والسقوط في أحابيل وخطط الآخر، عندما يكون الاصطفاف ضد مصلحة المجتمع، وبالتالي تنقسم المجتمعات إلى كيانات وطوائف متناحرة، ويشتد العداء، ويختفي الود والأمان.
الشرق العربي ضحية للصراعات التي تغذيها العوامل الداخلية والخارجية، الشرق العربي في حاجة إلى وصفات مهمة، منها الفلسفة، لما تقدمه الفلسفة من أدوات وتقنيات تنم عن قدرة في ممارسة السلطة، والفعل السياسي، قدرة هائلة في تحرير الوعي، والتنوير بمخاطر الانزلاق نحو التشتت والتفكك، الفلسفة ممارسة عملية ونظرية، خطاب إنساني يروم بالأساس تدريب العقول على التفكير السليم، والعيش بتناغم.
العرب كغيرهم من الأمم حاولوا استلهام الفلسفة، والعمل على تطويرها في أمل تحقيق التوافق بين الحكمة والشريعة، في محاولة جادة للنظر في النهضة وتحديات التقدم، الفلسفة كخيار لإعادة النظر في الواقع المعيش، لإعادة تصويب الفكر نحو الذات والمجتمع. هناك أعطاب وأزمات، في قوة الفلسفة تنكشف المشكلات من خلال النبش في بنية العقل العربي كما فعل الجابري، تحليل وتشخيص في بنية العقل الإسلامي مع أركون، وفي شروط النهضة والتجديد على خطى مالك بن نبي، ورواد الإصلاح من شتى التخصصات، من خلال الغوص في الثقافة، وإعادة النظر في المجتمع والتفكير بناء على أدوات تتعلق بتجديد الوعي الجمعي، وتحويل الأشياء أي اقتباس واستلهام أفكار فاعلة والنأي عن الأفكار المميتة والقاتلة، وهناك تشخيص كثير من منطلقات سياسية واجتماعية ودينية تصب في النهضة والتنوير والابتكار.
الفيلسوف صاحب رؤية، والفلسفة عندنا ليست صدى للفلسفة اليونانية، وليست نوع من الإتباع، في الفلسفة روح من التجديد، لم تكتمل لأسباب تتعلق بالدعم السياسي من الحاكم العربي، تتعلق بطبيعة الجمهور، وهيمنة الغيبيات على العقل الجمعي، لم تجد البيئة الحاضنة والمدافعة منذ البداية أو لسبب يتعلق بكثرة الملل والنحل.
وكل ما استخلصه الفلاسفة من الشريعة ينم عن رغبة في التفلسف، والنظر بحكمة للأشياء، النظر في الوجود والموجودات، الفلسفة علم يهدف إلى تحقيق السعادة من خلال الفعل والمعرفة، الفلسفة صناعة، وعلم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان، نوع من التجانس بين ما تدعو إليه الفلسفة، وما يدعو إليه الشرع، بيت القصيد هنا الحكمة والفهم والنظر في طبيعة الأشياء، هناك تحديات تواجه العقل العربي، هناك معضلات تعاني منها المجتمعات، بناء الوعي الفردي والوعي الجمعي، جوهر المشكلات في السياسة ولعل الفلسفة قدمت للغرب مبادئ ورؤى في بناء الدولة الحديثة والتنظير مستمر في الفلسفة السياسة المعاصرة، ناهيك عن حضور الفلسفة في المقررات الدراسية، وفي ميلاد التفكير العقلاني السليم.
في الغرب تنتشر المفاهيم والتيارات الفلسفية، إضافة نوعية للفكر، ونقلة مميزة في ميلاد أشكال من المذاهب والتأملات الفلسفية، هناك عودة من جديد للإرث الفلسفي اليوناني والروماني، عودة نحو المبدأ الأصيل في الفلسفة بوصفها تمرينات روحية، ورياضة ذهنية ونفسية، تعيد الاعتبار للإنسان والذات في معترك اليومي والحياة. الفلسفة في العالم العربي لا تخلو من رهانات، ليست الفلسفة ترفا معرفيا بل حاجة ضرورية وملحة في غمار النقاش الجاد من أجل الإقلاع والنهضة الفكرية والثقافية الموازية للعمران.
الفلسفة ضد الوهم، ضد العنف والشقاء، الفلسفة ضد التعصب والتطرف، الفلسفة بوصفها فن للعيش، وفن للتفكير، أفقا للحوار والنقاش، تنطوي على أدوات وتقنيات مهمة في التفلسف، وبناء الوعي الفردي والجماعي، أدوات الفلسفة من منطق وحجاج وجدال، وبرهنة وتحليل، ومناقشة وتفنيد، وشك ونقد، وبناء الإنسان العربي في وجدانه وأفعاله الحرة، تعبر عن روح الشعوب، وروح الأمم في تقاليدها وثقافتها، وتوهج الأمم الراغبة في التقدم وبناء العقول الحرة.
العرب والرهان على الفلسفة كأفق للتفكير، والبناء الفكري السليم، فلا يمكن بأي حال محاكمة الفلاسفة وإشاعة فكرة التضاد مع الدين أو إفساد الذوق وأشياء من قبيل الإساءة للفلسفة كتفكير عقلاني قائم على الحرية والاختيار، قائم على العقل والعودة للذات.
مسارات الفلسفة في الواقع العربي في خطوط غير متوازنة، منفصلة عن الواقعي والتاريخي، زمن الفلسفة لحظات قليلة في الشرق العربي من أيام ابن سينا والفارابي والكندي، ولحظة الفلسفة في الغرب الإسلامي من أيام ابن رشد وابن باجة وابن طفيل. الفلسفة في عالمنا لم يكتب لها الاستمرارية، ظلت الفلسفة خاصة بنخبة معينة، تصارع من أجل إثبات ذاتها، تحاول العبور نحو العقول.
رهانات الفلسفة في التنوير اصطدمت بجمهور واسع مشبع بالعاطفة والرفض للتجديد، ونخبة مهيمنة على الحقل السياسي والثقافي، ظلت الفلسفة فكرا دخيلا حتى أصبح العرب اليوم في حاجة ضرورية للتفكير بالفلسفة، في رغبة العرب للتزود بالأدوات الفلسفية لفهم العقليات، والحوار الهادف مع الغرب، لا يمكن معالجة أزمات ومعضلات اليوم إلا بالتفكير السليم، والحكمة من قبيل الحوار والتفاوض مع الآخر، التقليل من الأزمات ذات الطبيعة الطائفية والمذهبية، الحوار العاقل، والجدال البناء داخل المجتمع على استلهام الممكن في التفكير العقلاني للعبور بالمجتمعات نحو الأمان.
الشرع أوجب النظر بالعقل، والدين يلقي اللوم على الإنسان الراكد والخامل الذي لا يتفكر ولا يتدبر، الأمر هنا يتعلق بإعمال العقل والتروي بالحكمة، والاستنارة من التفكير السليم، رهانات الفلسفة بناء الفرد والمجتمع، رهان في تجاوز التبعية والتقليد، البناء على القيم الدينية الأصيلة، والبناء على القيم الكونية الشمولية، رهانات جمة في واقع عربي منقسم على ذاته تنخره ظواهر مرضية تتعلق بالسلطة والتسلط، أسئلة معقولة عن حال العرب الفكرية في المقارنة مع أمم قريبة انطلقت من تراثها، وحاولت الاستثمار في الإنسان، عندما تم تشكيل الوعي الجمعي من جديد على مزايا الحداثة والتنوير، مزايا العقلانية ومجتمع المواطنة، رهان الفلسفة في تجديد الوعي الديني.
كل ما تنطوي عليه الفلسفة من أساليب وإجراءات عملية في توظيف السؤال، الشك والعقل والنقد، أدوات التفلسف في فهم الذات والآخر في بعث روح التفكير النقدي، عندما يتم الغوص والعودة للوراء خصوصا العصر العباسي نعثر على المحاولات الجادة من قبل إخوان الصفا، ومن قبل فلاسفة الإسلام الأوائل، ومن قبل المترجمين، هناك مضايقات على عمل الفيلسوف، هناك فكرة التقريب بين الفلسفة والدين، هناك استلهام كبير للفكر اليوناني، من المنطق إلى السياسة والاجتماع، تأسيس بوادر للتفكير الفلسفي، والعمل على الاستمرارية دون القطع أو المنع لأن في الفلسفة دواء وشفاء للعقول والنفوس من أمراض الجهل والتخلف، دواء ضد الوهم والتسلط، وترياق مهم ضد غليان الجمهور المندفع، وضد القتل على الهوية والانتماء.
الفعل الفلسفي لا يمنع الإنسان من إبداء الرأي بحرية، لا تضع الفلسفة الحدود والموانع أمام حرية التفكير، رهانات الفلسفة عديدة في واقع يعج بالتناقضات، ويحمل الواقع في طياته بذور الهدم، لكل عصر أزماته ومشكلاته، لابد أن يكون للفلسفة نصيب في الحل بطرح الأسئلة المحرجة، الإيمان بالنسبية في المعالجة، من رهاناتها التعميم في تدرسيها، وتكريس المبادئ الفلسفية القائمة على الحرية، وبناء المجتمع الديمقراطي، والأمل في وعي اجتماعي يروم المواطنة والتعايش والتسامح، والإعلاء من ثقافة الاعتراف والاختلاف معا.
فمن أكثر التحديات عدم قبول الفلسفة، والتحريض عليها من قبل أشخاص حاقدين وناقمين على التفكير العقلاني، والحقيقة أن العرب في حاجة للتفلسف على طريقتهم، فلا تشكل الفلسفة تهديدا للدين بقدر ما تثير في الناس قضية الحرية، والبحث عن الحقيقة.
اضف تعليق