إنّ العراق، وسط هذه التحولات، أحوج ما يكون إلى إعادة قراءة المخاطر بمنظور وطني شامل، وإلى إعادة بناء مفهوم الدولة والسلطة بما يحافظ على التماسك الداخلي، ويؤمّن الجبهة الوطنية في مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية، ولا سيما في ظل الانخفاض المستمر لأسعار النفط عالمياً...
قبل أن تبدأ القوات الأميركية بحزم حقائبها استعداداً للرحيل، كان قطاع واسع من العراقيين يحصي الساعات والأيام منتظراً لحظة إعلان النصر وطيّ صفحة الوجود العسكري الأميركي، فيما لم يخفِ كثيرون قلقهم من هذه الخطوات المتسارعة، إذ رأوا فيها مؤشرات على دخول العراق مرحلة حرجة وقلقة.
الانقسام السياسي العميق إزاء القضايا المصيرية المرتبطة بالأمن والاستقرار يعود في جوهره إلى هيمنة التفكير الشعبوي والسطحية السياسية، وتراجع الرؤى الاستراتيجية العميقة. فالمزاج العام في كثير من الأحيان تغلب عليه الانفعالات والمشاعر أكثر من العقلانية والجدوى العملية، بينما تتراجع القراءات الرصينة ذات الأفق الواسع، التي تقيم السياسات والمواقف بعيداً عن ضجيج الحملات الإعلامية وصناعة “انتصارات وهمية”.
غياب النقاش الجاد و التفكير الرؤيوي، مقابل هيمنة المقاربات الأيديولوجية الموحى بها، أسهم في إشاعة موجة شعبوية لا تحتسب للمصالح الوطنية البعيدة، بقدر ما تلهث وراء استثمار اللحظة في لعبة الصراع على السلطة وإدارة الدولة وفق الرغبات .
تاريخياً، كان رحيل القوات الأميركية نهاية عام 2011 يعد مكسباً سياسياً واستجابة لمطلب شعبي، فضلاً عن كونه سحباً للذرائع من القوى، التي رأت في مقاومة الاحتلال واجباً سياسياً ودينياً. يومها اعتُقد أن خروج الأميركيين سيُزيح ثقلهم عن المشهد العراقي ويفتح الأفق أمام حوارات داخلية لترسيم استراتيجية وطنية تقي البلاد أزمات الأمن والاقتصاد وتوازن السلطات. غير أنّ ما حدث كان معاكساً تماماً، فبعد ثلاث سنوات فقط انزلق العراق إلى أسوأ أزمة أمنية–سياسية مع صعود تنظيم “داعش” الذي انتقل من نهج التفجيرات والقتل الجماعي إلى السيطرة على الأرض وإعلان “دولة” بمفهوم ماضوي خطير.
حينها، لم يكن أمام العراق سوى تعبئة قواه الشعبية ثم الاستنجاد بالتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لاستئصال هذا التهديد الوجودي وتحقق النجاح في ذلك، غير ان التهديد الامني لم يختف ومازالت خلايا “داعش” تنشط في سوريا وبعض مناطق العراق، ومازال الجهد الامني والاستخباري والجوي العراقي يحتاج إلى اسناد ومعونة امريكية .
بعد هزيمة “داعش” عادت المطالبات مجدداً بإخراج القوات الأجنبية، وخصوصاً الأميركية، باعتبارها تحدُّ من السيادة العراقية، وتفرض شروطها على تسليح الجيش وتنفرد بالسيطرة على الأجواء. ومنذ ذلك الحين، دارت معركة سياسية وإعلامية طويلة استهدفت إقناع الشارع بأن كل مشكلات العراق صناعة خارجية، وأنّ مجرد رحيل الأميركيين سيعيد السيادة ويصحح مسار الدولة.
اليوم، يأتي الانسحاب الأميركي الحالي ليحقق هدف القوى التي جعلت إخراج الأميركيين “غاية مقدسة”، لكنه في الوقت نفسه أثار موجة واسعة من التساؤلات والقلق حول مغزاه وتوقيته. فبحسب الاتفاقيات المعلنة، ينبغي أن يكون التعاون العسكري والأمني بين بغداد وواشنطن ثنائياً ومبنياً على احتياجات العراق. لكن السؤال الأعمق هو: ما مصلحة الولايات المتحدة في ذلك؟ فالدول الكبرى لا تدخل في شراكات إلا ضمن حسابات استراتيجية واضحة، ومصلحة واشنطن تكمن في ضمان ألا يتحول العراق إلى عنصر تهديد لاستراتيجيتها الإقليمية، خصوصا وانها تخوض صراع نفوذ ضد ايران وكلاهما يعتقد ان العراق جائزة مهمة في هذا الصراع ، تقوم امريكا بجهد كبير لاحتواء إيران، وتصفير مشروعها النووي بالقوة وتتمنى استسلامها وتراجعها، كما تقوم بدفع مسار التطبيع العربي–الإسرائيلي، وإبقاء الهيمنة الأميركية على الإقليم برمته لمنع تمدد الحضور الصيني منافسها الجديد، وفق هذه المعطيات كيف يمكن الحفاظ على المصالح الوطنية والحذر من الانزلاق في مهاوي المواجهات والتعرض للهجمات والاذى في وضع احسن ما يوصف بأنه هش على جميع الصعد؟ لا خيارات مفتوحة لتكون المواجهة بوابة لتحقيق وتصحيح ميزان القوى المختل أساسا.
من يريد الدخول في مواجهة مفتوحة مع “التسلط الأميركي–الإسرائيلي” كما تفعل إيران، عليه أن يحسب حساب كلفة هذه المواجهة على جمهوره واقتصاده ودولته. التجربة الإيرانية بعد حرب “الأيام الاثني عشر” كشفت جدلاً داخلياً بين تيار متشدد يدفع باتجاه التصعيد وردّ الحرب بالحرب، وآخر أكثر براغماتية يوازن بين بقاء النموذج واستمراره، أو الدخول في مواجهة مفتوحة بلا أفق.
المحور المتحالف مع طهران – من حزب الله في لبنان إلى فصائل العراق وأنصار الله في اليمن– يواجه اليوم تحديات داخلية عميقة، جعلت هذا المحور في وضع دفاعي خطير، لا يهدد كياناته وحدها، بل يهدد أيضاً حواضنه الاجتماعية وبيئاته السياسية. وأي حرب إقليمية واسعة قد تندلع قريباً –وفق المعطيات الحالية– ستكون حرباً كبرى وحاسمة تعيد رسم خريطة المنطقة على نحو يتماهى مع الرؤية الأميركية– الإسرائيلية، وصولاً إلى تفتيت الدول إلى كيانات مذهبية وعرقية يسهل التحكم بها.
إنّ العراق، وسط هذه التحولات، أحوج ما يكون إلى إعادة قراءة المخاطر بمنظور وطني شامل، وإلى إعادة بناء مفهوم الدولة والسلطة بما يحافظ على التماسك الداخلي، ويؤمّن الجبهة الوطنية في مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية، ولا سيما في ظل الانخفاض المستمر لأسعار النفط عالمياً. فالمعادلة الجديدة تتطلب عقلانية ورؤية استراتيجية تتجاوز الانفعال والشعارات، لتضع مصلحة العراق العليا فوق كل اعتبار.
اضف تعليق