الطواغيت ولذّة الاستبداد

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

إن الاستبداد هو نوع من الشهوة، وهي تلازم الطواغيت وتدفع بهم نحو الملذات، فالشهوة تلاصق الاستبداد وتدفع بالمستبد نحو لذة الرأي المستبِد، ولذة الحكم المستبد، ولذة الحكم الظالم، لذلك فإن الطواغيت عاجزون عن التخلص من الاستبداد كونهم يبحثون عن الملذات المحرّمة، ويفشلون دائما في تحييد هذه الشهوات...

(كل إنسان عليه أن يعرف ما مدى طاعته للطاغوت)

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله

إن السمة الغالبة على الطواغيت هي تعلّقهم الشديد بالاستبداد، لدرجة تصل إلى مرتبة المرض، ولهذا يوصف الطاغية بأنه إنسان مريض، يعاني من إشكالات ومشكلات نفسية نتيجة للتربية الخاطئة وللبيئة الاجتماعية المتزمتة والمتطرفة، ومن غرائب الأمور حقا أن هناك طيفا من الناس يؤازرون الطغاة كي تكون قبضة الاستبداد عندهم أقوى وأشدّ.

نعم هنالك بشر يساعدون الطاغية لكي يكون مستبدا، وهؤلاء هم الذين يستسيغون الطغيان، وربما يستلذون به كما يستلذ به الطاغية نفسه، أما الطاغية نفسه فهو بطبعه يشعر باللذة عندما يزيد طغيانه واستبداده على الناس، وهو لا يشعر بنقيض ذلك، بل على العكس عندما لا يمارس الاستبداد لا يشعر باللذة وكأنه يفتقد شيئا مهما.

والطامة الكبرى أن هنالك من الناس يدفعون الطاغية نحو الاستبداد، حين عندما لا يعرفون حجم أو مقدار الطاعة له، ومدى شرعية هذه الطاعة وهل تأتي في حدود السقف المشروع أم أنها أكثر من اللازم، حيث تنقلب حينذاك من إيجابية الطاعة)، إلى التشجيع على الطغيان والاستبداد الذي يجعل من الحاكم أو صاحب السلطة مريضا بلذة الاستبداد، لهذا يجب على كل إنسان أن يعرف مدى طاعته للطاغية.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، يقول في سلسلة نبراس المعرفة: محاضرة العصيان والغضب الإلهي:

(كل إنسان منّا رجلاً كان أو امرأة، وشاباً أو فتاة، وشيخاً أو شیخة، وعالماً أو جاهلاً، وغنياً أو فقيراً،‌ ومثقفاً أو أميّاً، يجب عليه أن يعرف في حياته ما مدى حبّه للدنيا وما مدى طاعته للطاغوت).

من الأمور المعروفة والطبيعية أن الإنسان بطبعه يميل إلى الدنيا، فهذه قضية مخلوقة معه، أي أنها قضية تكوينية، أي أنها من الأمور المسلَّم به، ولا مشكلة في ذلك، لكن عندما تفرض الدنيا سلطتها التامة على الإنسان، هناك ستكون مشكلة، بمعنى على الإنسان أن يتحكم بدرجة حب الدنيا، ولا يترك الأمر سائبا أو بلا حدود.

حب الدنيا بحدود الأحكام الشرعية

فليس المطلوب من الإنسان أن يلغي حبه للدنيا، هذا أمر مستحيل لأنه شيء تكويني مخلوق مع خلْق الإنسان، لكن المطلوب هو أن يكون حبه للدنيا منسجما مع الأحكام التي تحدد مستوى هذا الحب، بحيث لا يتحول إلى نوع من التعلّق والتمسّك بحيث يتجاوز الحلال إلى الحرام، هناك واجبات لا يصح لحب الدنيا أن يمنع الإنسان من أن يؤديها ويقوم بها، لأن حب الدنيا يلهي الناس عن واجباتهم كالصلاة أو صلة الرحم أو سوى ذلك.

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله يشير إلى هذه النقطة فيقول:  

(بلى إنّ الإنسان في طبعه يميل بعض الشيء‌ الى حبّ الدنيا، لكن الإشكال يكون في مستوى هذا الحبّ ومقدار التعلّق بالدنيا، فهل حبّ الدنيا يمنعه من صلاته الواجبة؟ وهل يترك بسبب حبّ الدنيا صلة الأرحام الواجبة، ولا يهتمّ بسببها بعقائده الخاطئة والفاسدة ويتركها من دون تصحيح، ثم يتبع بسبب هذا الحبّ أوامر الطاغوت).

ولكن أليس من الواجب علينا أن نعرف ما ومن هو الطاغوت، لأننا إذا لم نعرف الشيء سوف نجهله، وبذلك لا يمكننا أن نتعامل معه بالطريقة الصحيحة، أما إذا عرفنا الطاغية وأساليبه وأحابيله، حينئذ سوف نعرف كيفية التعامل الصحيح معه.

فهناك أنوع ووجوه عديدة متباينة للطواغيت ومسمياتهم وتصرفاتهم، فيمكن جدا أن يكون الطاغية مفكرا متشبثا برأيه، ولا يسمح لآخرين أن يفندوا أفكاره أو يختلفوا معه، إنه يبلغ من التزمت والتطرف حدا يمنع فيه أي رأي آخر يختلف معه، مع أن المعروف عن الآراء بأنها إذا اختلفت صحَّتْ، لهذا ليس صحيحا أن تمنع الآراء التي تختلف معك.

هناك قول ذائع الصيت لشاعر فرنسي راحل يقول فيه (أنا أختلف معك في الرأي ولكنني مستعد أن أقاتل معك كي تقول رأيك)، والسبب في ذلك ان الآراء إذا تباينت تكون أكثر فائدة من سواها، ولهذا السبب أصبح الاستبداد بالرأي أو في سواه غير مرغوب به، لأنه أسلوب يعكّر صفو الحياة لدرجة أن الاستبداد يجعل الحياة لا تُطاق.

يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:

(الطاغوت له وجوه مختلفة، فقد يكون حاكماً ظالماً مستبّداً برأيه، وقد يكون مفكّراً وصاحب نظرية في الإسلام، وقد يكون عالماً وحافظاً للقرآن، وقد يكون من الأصحاب المنافقين الذين سمعوا كلام رسول الله وعاشوا الى جنبه طيلة عشرين سنة أو أكثر).

الإنسان مزروع بالشهوات المنفلتة

من المهم لنا جميعا أن نفهم ونعرف بأن تأييد الطواغيت مسألة تقف بالضد من الحياة السليمة، وعلينا أن نعرف بأنهم على أنواع مختلفة، لهذا مقدار الطاعة يجب أن يكون معروفا بالنسبة لنا، ولا نطيعهم للحد الذي يجعل منهم متنمّرين، يتجاوزون حدودهم، ولا نُسهم بصناعة الطغيان لأنه يخرّب حياتنا، ويدمر حاضرنا ومستقبلنا.

لهذا فإن كل من يطيع الطواغيت يكون معرَّضا للعقاب والعذاب الدنيوي والأخروي، والسبب الرئيس في إبداء الطاعة للطغاة هو تعلق الإنسان بالدنيا، وزيادة حبه للدنيا أكثر من المقدار الصحيح، ويمكننا هنا أن نضع معادلة كالتالي: كلما ازداد حبك للدنيا، تزداد أخطاؤك.

لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله: 

(هناك طيف متنوّع من الطواغيت، ولابدّ من معرفة مقدار الطاعة إلى هؤلاء، فالطاعة للطواغيت وتمكينهم من الناس هو عصيان لله تعالى. فالإنسان الذي يطيع الطواغيت يُبتلى بالعذاب في الدنيا والآخرة. وقد ندّد القرآن الكريم وفي أكثر من مكان بطاعة الطاغوت وبحبّ الدنيا، ففي الحديث الشريف: حبّ الدنيا رأس كل خطيئة).

لذلك وصلنا إلى الاستنتاج التالي، وهو أن الإنسان مزروع بالشهوات، وهو يحب الدنيا، لأن الله تعالى خلق الشهوات في الإنسان لا لتجعل من حياته أفضل وأجمل، فليس هذا هو الهدف الإلهي لخلق الشهوات في الإنسان، وليس الهدف منها التعامل الحلال أو الحرام، بل الهدف الإلهي هو اختبار الإنسان في الدنيا، ومدى استحقاقه للثواب الأكبر أو العكس.

وهنا تتضح أهمية سيطرة الإنسان على شهواته، لأنه إذا ترك لها مركز القيادة سوف تأخذه نحو ملذاتها وهي ملذات بلا حدود فيسقط في الحرام ويكون عذابه أمرا مؤكَّدا في الدنيا وفي الآخرة، لكنه إذا قام بتوظيف هذه الشهوات في حدود المعقول والمقبول شرعا وعُرفا وقانونا، فإنه سوف يستفيد من هذه الشهوات ويستمتع بملذاتها، لأنه يتحكم بها وليس العكس.

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله يشرح هذه النقطة فيقول:

(أمّا بالنسبة إلى حبّ الدنيا، فكل إنسان مادام في الدنيا فهو يحبّ الشهوات، لأنّ الله تعالى خلقها في الإنسان لا ليستفيد منها حلالاً أو حراماً بل ليختبر الإنسان بها، فيستفيد من شهواته بمقدار الحلال وبمقدار ما أذن الله تعالى له. فحبّه للدنيا يكون بمقدار ماهو حلال من ملذّات هذه الدنيا ولا ضير في ذلك، لكن الخطر يكمن في عدم تجنّب الحرام).

ختاما، إن الاستبداد هو نوع من الشهوة، وهي تلازم الطواغيت وتدفع بهم نحو الملذات، فالشهوة تلاصق الاستبداد وتدفع بالمستبد نحو لذة الرأي المستبِد، ولذة الحكم المستبد، ولذة الحكم الظالم، لذلك فإن الطواغيت عاجزون عن التخلص من الاستبداد كونهم يبحثون عن الملذات المحرّمة، ويفشلون دائما في تحييد هذه الشهوات، لذلك تقضي عليهم في نهاية المطاف.

اضف تعليق