المعارضة الحزبية لا تزال هي الأخرى في طور التكوين والنشوء؛ إذ يُفترض وجود معارضة داخل الأحزاب اليوم، وهي معارضة قد تسهم كثيراً في نضوج العمل الحزبي في العراق، وهو النضوج الذي يقود بدوره إلى نضوج العملية الديمقراطية في البلد. فبدون نضوج العمل الحزبي، والوصول إلى مرحلة البلوغ وكمال العقلية...
ناقش مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات في ملتقى النبأ الأسبوعي موضوعا تحت عنوان (تقييم الانتخابات العامة في العراق 2025، واهمية التأسيس لمعارضة بناءة)، بحضور عدد من الأساتذة ومدراء المراكز البحثية والأكاديميين، وقد جاء في الورقة التي تلاها الأستاذ الدكتور علاء الحسيني في مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات بالقول:
نناقش في هذا اليوم موضوع ما بعد الانتخابات، والتقييم الذي يمكن أن نخرج به إزاء النتائج، وبحث إمكانية تأسيس معارضة بناءة عقب انتخابات العراق لعام 2025.
ولا بد من التذكير بأن التجربة الانتخابية تُعد بوابة من أهم بوابات النظام الديمقراطي في أي بلد في العالم، وهي تجربة جديرة بالاهتمام والتدقيق في كل جزئياتها، والتركيز على ما شابها من سلبيات؛ بغية تسليط الضوء عليها -إن وُجدت- لمعالجتها أو تجنبها في المناسبات القادمة؛ كون هذه الآلية هي الوسيلة الديمقراطية الوحيدة التي يمكن أن ينعم بها المواطن في ظل الدستور والقانون العراقي، ليكون شريكاً في بناء السلطة والشأن العام.
وفي حقيقة الأمر، قد شابت الانتخابات بعض ما يمكن تسميته بـ (الهفوات)، والتي لعلها كانت غير متعمدة من قبل بعض الجهات التي أسهمت في هذه العملية؛ إذ إن هذه العملية ليست أحادية الجانب، وإنما هي عملية ذات جوانب متعددة."
"هناك أولاً الجانب الرسمي متمثلاً بالمفوضية العليا المستقلة للانتخابات، إضافةً إلى بعض الجهات الحكومية الساندة؛ مثل هيئة المساءلة والعدالة، ووزارة التعليم العالي، وغيرها من الجهات المعنية بتدقيق شروط المرشح والناخب، وإعداد القوائم الخاصة بكلا الطرفين.
وهناك أيضاً الطرف الآخر، وهو الجانب الحكومي المسؤول عن توفير التخصيصات المالية وما شابه ذلك.
أما الطرف الثالث فهو الناخب، ويُعد الطرف الأهم الذي يُؤمّل منه أن يكون على بصيرة من أمره حين ينطلق صبيحة يوم الانتخابات؛ ليدلي بصوته لأحد المرشحين ممن يؤمن بقدراتهم، أو ببرنامجهم الانتخابي المطروح.
ومن الأمور التي لاحظناها غياب التنافس على مستوى البرامج الانتخابية؛ إذ كان التنافس شخصياً وقائماً في كثير من الأحيان على مسائل ذاتية. كما أن الحملة الإعلامية والدعائية التي شهدتموها كانت -في الحقيقة- حملة مشوهة، أساءت لوجه المدن والقرى والقصبات العراقية، وأضرت بالمال العام والذوق العام.
ولكن، من الممكن تجنب هذه الأمور في المناسبات القادمة إن شاء الله، فهي واحدة من الإفرازات السلبية التي رصدناها خلال تلك الفترة".
"كذلك، كانت هناك بعض الممارسات غير المشروعة التي انطلت على بعض الناخبين للتأثير على إرادتهم بشكل أو بآخر. وهي ممارسات لا تكاد تكون مؤثرة كثيراً على المشهد العام؛ باعتبار أن الناخب حين يتوجه إلى صندوق الاقتراع لا رقيب عليه سوى الله وضميره. نعم، لا نستطيع إنكار أثرها، لكن تأثيرها ظل محدوداً إلى حد ما.
ومن المنغصات التي شابت العملية الانتخابية أيضاً، اعتماد المفوضية الكبير جداً على البطاقة البيومترية، في وقت لم تهتم فيه كثير من الشرائح الاجتماعية بمسألة تحديث البيانات؛ مما أدى إلى حرمان شرائح معينة من ممارسة حقها. وهذا بطبيعة الحال إجراء رسمي قد تتذرع المفوضية بأنه يحد من حالات الغش والتزوير وما شابه ذلك.
لقد كان أملنا -ولا يزال- أن تُعتمد البطاقة الوطنية الموحدة فقط -وهي أيضاً من البطاقات الذكية- أساساً لممارسة حق الانتخاب؛ لضمان عدم حرمان أحد. إذ قد يكون البعض غير مقتنع بالعملية السياسية، ولكنه يكتسب قناعة معينة صبيحة يوم الانتخابات ويرغب في ممارسة حقه الدستوري والقانوني، وهذا ما كفله الدستور والقانون والمنطق.
كانت هذه بعض الملاحظات التي حصلت، والتي قد تجول في أذهان السادة الحضور، وبالتأكيد فإن الحديث يطول في كثير من تفاصيلها، لكننا نكتفي بهذا القدر اختصاراً".
"ننتقل الآن إلى الشق الثاني، وهو المتعلق بالتأسيس لمعارضة بنّاءة.
في الواقع، لم تعد مرحلة ما قبل الانتخابات محط اهتمامنا، نظراً لأننا أصبحنا الآن في مرحلة ما بعد الانتخابات. إن ما يهمنا كثيراً في هذه المرحلة هو التأسيس لمجلس نيابي، وانعقاده بأسرع وقت ممكن فور انتهاء الدورة الخامسة الحالية؛ لتبدأ الدورة السادسة وتشرع عجلة الدولة بالدوران من جديد، وذلك عبر تشكيل السلطتين التشريعية والتنفيذية وفق نتائج الانتخابات التي أعلنت عنها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بشكل مبدئي قبل يومين.
أما فيما يخص إمكانية التأسيس لمعارضة بنّاءة؛ فالمعارضة في حقيقتها ليست مجرد حركة سياسية، أو تعبير عن موقف أو توجه سياسي فحسب، وإنما هي دعامة من دعائم النظام الديمقراطي في أي بلد ديمقراطي، أو يدعي الديمقراطية، أو يسير في اتجاهها.
لذا، لا بد من وجود معارضة تؤدي دورين أساسيين ومحوريين:
الدور الأول هو (التقييم)؛ أي تقييم السياسات والأداء، ورصد السلبيات، وتأشير المخالفات. ومن هنا ينشأ الدور الآخر والوظيفة المكملة، وهي (التقويم)؛ حيث ينطلق المعارضون صوب تصحيح تلك الأخطاء، وتعديل الاعوجاج الذي قد يشوب ممارسة السلطات العامة، ولا سيما السلطتين التشريعية والتنفيذية".
"تتعدد أنواع المعارضة؛ فهناك المعارضة السياسية، والمعارضة المسلحة، والمعارضة الحكومية، إضافة إلى المعارضة الحزبية. ورغم تعدد هذه الأنواع التي يطول الحديث عنها، والتي قد توجد بعض ملامحها في العراق، إلا أن كثيراً منها لم ينضج بعد حتى اليوم، أو لم يتحول -في الواقع- إلى معارضة حقيقية قادرة على مواكبة الوضع العام، ومسايرة الظروف، وفهم البيئة العراقية، ولا سيما بيئة العمل التشريعي والبرلماني والحكومي؛ لتكون مؤهلة لإحداث التغيير الإيجابي المنشود، وألا تكون معارضة لمجرد المعارضة.
فالمعارضات التي شهدناها -وخاصة المعارضة السياسية السابقة في بعض الأحيان، أو المعارضة المسلحة التي عارضت نظام الحكم بحجج واهية كوجود المحتل الأمريكي وما شابه- لم تستطع أن تنضج وتتحول إلى معارضة سياسية حقيقية قادرة على النهوض بالوظيفتين اللتين أسلفنا ذكرهما.
كما أن المعارضة الحزبية لا تزال هي الأخرى في طور التكوين والنشوء؛ إذ يُفترض وجود معارضة داخل الأحزاب اليوم، وهي معارضة قد تسهم كثيراً في نضوج العمل الحزبي في العراق، وهو النضوج الذي يقود بدوره إلى نضوج العملية الديمقراطية في البلد. فبدون نضوج العمل الحزبي، والوصول إلى مرحلة البلوغ وكمال العقلية الحزبية والعمل الحزبي الحقيقي، لن نتمكن من استكمال متطلبات النظام الديمقراطي، وعملية التبادل السلمي للسلطة، وما شابه ذلك".
"لهذا، نحتاج فعلاً إلى ترسيخ ثقافة المعارضة في العراق، وهي ثقافة ينبغي التركيز عليها في الأوساط المعنية، وخصوصاً أوساط المثقفين، ومراكز البحث والتفكير؛ حتى نتمكن من الإسهام -ولو بشيء بسيط- في تنميتها.
ونعني بذلك ثقافة المعارضة الإيجابية بالطبع، وليست المعارضة بقصد المعارضة، وإنما أن تكون هناك معارضة تهدف إلى التقييم والتقويم، وتصحيح الاعوجاج والميل إذا ما حصل، أو إذا وقعنا -لا سمح الله- في المشكلات.
أضف إلى ذلك، حين نتحدث عن معارضة سياسية أو برلمانية، يُفترض أن هذه المعارضة قد كفل لها المشرع الدستوري الكثير من الضمانات. وأولى هذه الضمانات المادة الأولى من الدستور العراقي، التي تنص على أن جمهورية العراق دولة واحدة ذات سيادة كاملة، ونظام الحكم فيها جمهوري نيابي ديمقراطي.
وكلمة (الديمقراطي) تقودنا إلى تبني النظام الديمقراطي في المادة الخامسة، حينما ينص المشرع على أن السيادة للقانون، وأن الشعب مصدر السلطات وشرعيتها؛ فسيادة القانون هي التي تكفل لأحزاب المعارضة وللأفراد المعارضين حرية العمل السياسي والحزبي وغيرها.
كذلك عند الذهاب إلى المادة (6) الخاصة بالتداول السلمي للسلطة، والمادة (14) التي تكفل المساواة بين العراقيين دون أي تمييز. وفي المادة (18) حظر المشرع إسقاط الجنسية عمن والداه عراقيان بأي حال من الأحوال.
وفي الحقيقة، استُعملت الجنسية سابقاً كأسوأ سلاح بيد الأنظمة الاستبدادية في العراق؛ إذ كانت تُسقط عن المعارضين -لا سيما السياسيين- كأداة قمع. واليوم كفل المشرع الدستوري هذه المسألة وحظر إسقاط الجنسية نهائياً؛ لتكون هذه أيضاً دعامة من دعامات إقامة معارضة حقيقية في العراق.
كما كفل المشرع الدستوري حرية تأسيس النقابات والأحزاب؛ ففي المواد الدستورية كفل حرية العمل الحزبي، وتأسيس الأحزاب، والانتماء إليها، والانسحاب منها، وهي حرية مكفولة.
وكذلك كفل المشرع الدستوري حرية الرأي والتعبير. كما كفل النظام الداخلي لمجلس النواب حرية التعبير عن الرأي، ومنح حصانة للنائب ليدلي بأقواله وفق القانون. وأيضاً قانون مجلس النواب العراقي رقم (13) لسنة 2018، في المادة (26) وما سواها، كفل للنائب حرية الرأي والتعبير.
إن هذه كلها ضمانات من شأنها أن تكفل لنا وجود بوادر فعلية لمعارضة برلمانية بنّاءة، قادرة على أن تشخّص وتعالج، وتبادر إلى تصحيح السلبيات التي ترافق عمل الحكومة والبرلمان".
"ليس المقصود بالمعارضة أن تكون موجهة للحكومة فحسب، بل ينبغي أن تُبنى داخل المجلس النيابي نفسه؛ فبما أن المجلس يتكون من أحزاب وكتل وجماعات سياسية، فإن هذه الجماعات إن تُرِك لها العمل دون معارض حقيقي، ستميل إلى الاستبداد لا محالة. فالاستبداد -كما نعلم جميعاً- جزء من طبع الإنسان ومجبول عليه، ويميل إليه في رأيه وقراره وعمله، سواء شاء أم أبى، وشعر بذلك أم لم يشعر.
لذا، فهو يحتاج إلى من يذكّره؛ ولهذا جعل الله سبحانه وتعالى سلطان الضمير أو الذات -أو ما يُسمى في العرف الديني بـ (النفس اللوامة)- لتصحح مسارات الإنسان، وكذلك وجود الواعظين المعارضين لكل حالة فساد أو انحراف عن المقاصد الشرعية والقانونية والعرفية؛ مصداقاً لقوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ).
إن هذه المؤشرات تقودنا إلى القول بضرورة وجود المعارضة؛ لبناء نظام سياسي وديمقراطي حقيقي، ولتأسيس حكومة عراقية قادرة على النهوض بواجباتها.
وفي الواقع، للوصول إلى بناء هذه المعارضة، هناك مقومات وأسس كثيرة يجب توافرها في الجماعة السياسية ليصح تسميتها (معارضة)، ومن أهم هذه الأسس: التنظيم".
"في الحقيقة، شهدنا خلال الدورة الخامسة بعض بوادر المعارضة من قبل نواب أخذوا على عاتقهم مسؤولية المعارضة، والقيام بأنشطة حاولوا من خلالها الكشف عن بعض الملفات التي شابتها شبهات فساد أو ما شابه ذلك.
كما حاولوا ممارسة الدور الرقابي عبر مساءلة بعض المسؤولين في الدولة، وفعلاً تم استجواب عدد منهم -وإن كان عدداً قليلاً جداً في هذه الدورة- إلا أنها تظل بوادر جيدة.
ولكن، ما شاب عملهم هو الطابع الفردي؛ فالعمل الفردي غير المنظم لا يمكن أن يقود إلى نتائج ملموسة، ولا يمكن أن يؤسس لعمل تنظيمي حقيقي ومعارضة قادرة على تحقيق الغايات المرجوة.
لذا، فإن الخطوة الأولى هي التنظيم، وهو لا يتأتى إلا من خلال نظام داخلي أو أعراف راسخة، كالنموذج البريطاني القائم على الأعراف البرلمانية في مجلس العموم، حيث ينقسم المشهد إلى جبهتين (كالعمال والأحرار)؛ إحداهما تمسك بالسلطة التنفيذية، والأخرى تقود دفة المعارضة.
ومن هنا تأتي التقاليد البرلمانية ومفهوم (حكومة الظل)، التي تكمن غايتها في معارضة الحكومة الماسكة للسلطة، وتقفّي أثرها ومراقبة أعمالها؛ بهدف الإمساك بالخيوط التي تمكّن المعارضة من التأثير في الرأي العام، أو تشكيل رأي عام معارض، أو التأثير في قرارات واستراتيجيات الحكومة".
"في الواقع، ما زلنا في العراق نفتقد إلى مسألة التنظيم، ونفتقد إلى ثقافة المعارضة وتقاليدها الراسخة. وهي تقاليد يُفترض أن تُورَّث؛ بمعنى أنه عندما يخرج حزب من جبهة المعارضة ليدخل في جبهة الحكومة أو الموالاة، يُفترض أن يحل محله من يتبع نفس التقاليد والأعراف التي كانت سائدة.
وهذا هو العنصر الأول المهم الذي نفتقده كثيراً، وهو التنظيم.
أما العنصر الثاني، فهو (الأيديولوجية) أو الفكرة الرئيسة السامية والقائدة، التي يُفترض أن تؤثر على هذه الجهة وتقودها باتجاه التصحيح والتصويب والإصلاح.
إن أحزابنا اليوم تفتقد كلها إلى الأيديولوجية أو الفكرة الحقيقية؛ فلو سألت كبار المسؤولين في الأحزاب العراقية: بماذا تؤمنون؟ فإنهم لا يملكون إجابة دقيقة؛ قد يعرف أحدهم أنه ينتمي لحزب إسلامي أو علماني أو شيوعي، لكنه يجهل الأفكار الرئيسة التي يقوم عليها الحزب أو العمل الحزبي، وتغيب الأيديولوجية المشتركة التي يؤمن بها جميع الأعضاء ويسعون لتحقيقها.
ونقصد بالفكرة السائدة أو (الفكرة القائدة) تلك التي تحركهم، سواء كانت إسلامية، أو علمانية، أو اقتصادية، أو أن تكون -في أضعف الإيمان- رؤية واضحة لدى الحزب.
وحتى التحالفات والقوائم التي خاضت غمار الانتخابات، هي في حقيقتها تحالفات مصلحية أكثر من كونها تحالفات حقيقية تهدف للحكم وقيادة الدولة؛ إذ إنها قائمة على تقاسم المغانم والأوزان وغيرها من التفاصيل الصغيرة.
إذن، هذا العنصر الثاني غير موجود لدينا أيضاً".
"أما العنصر الثالث، فهو التقبل الجماهيري أو القاعدة الشعبية؛ إذ لا وجود لمعارضة حقيقية دون قاعدة شعبية. فلا يمكن أن تكون مؤثراً، أو أن يكون صوتك مسموعاً، أو رأيك فاعلاً لدى صانع القرار -سواء التشريعي أو التنفيذي- ما لم تستند إلى قاعدة شعبية، وما لم تكن مؤثراً في الرأي العام، وقادراً على إحداث تغيير في توجهاته أو صناعته.
وفي الواقع، تمتلك الأحزاب اليوم القدرة على التأثير في الرأي العام من خلال أدواتها الإعلامية؛ فهم يمتلكون القنوات الفضائية، والجيوش الإلكترونية، و(المزارع الإلكترونية) التي سادت في هذه الانتخابات، وكشفت عنها وسائل الإعلام.
وقد رُصد أحد الأحزاب وهو يجند ما يقارب مليوناً ونصف المليون هاتف في مكان واحد لتوجيه الرأي العام. وكان الأجدر، بدلاً من استخدام هذه الهواتف للرد التلقائي، كسب قناعة مليون ونصف المليون مواطن بأفكار الحزب ورؤاه.
وعليه، يُفترض أن يمتلكوا قاعدة شعبية تؤمن بآراء الجهة الحزبية وتوجهاتها.
وهناك أيضاً كثير من الأسس الأخرى التي يضيق المجال بذكرها جميعاً لتأسيس المعارضة السياسية الحزبية أو البرلمانية.
وفي هذا السياق، يؤمن بعض السياسيين بفكرة (المعارضة من داخل الحكومة)؛ لذا يشتركون فيها لغرض المعارضة من الداخل. وهذا خطأ كبير؛ لأن وجود المعارضة داخل الحكومة لا يقود النظام السياسي إلى الاستقرار، ولا يحقق الوضوح والنضج في السياسات الحكومية، كما يعيق القدرة على التغيير السريع، والتغلب على المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فضلاً عن مواجهة المخاطر الإقليمية والدولية الكبيرة التي تحيط بالبلد".
ولاستكشاف المزيد من الأفكار حول هذا الموضوع نوجه الى الاخوة الباحثين الأسئلة التالية:
السؤال الأول: كيف يمكن تأسيس حكومة أغلبية برلمانية في العراق عابرة للعناوين الفرعية؟
السؤال الثاني: متى نصل إلى تأسيس معارضة برلمانية وسياسية حقيقية بناءة وإيجابية في طرحها وعملها؟
السؤال الثالث: ما الوظيفة التي يمكن ان يمارسها المواطن العراقي خلال السنوات الأربع القادمة؟ وكيف يمكن توظيف الفضاء الإلكتروني لتحقيق مقاصد المعارضة الشعبية الإيجابية القادرة على التصحيح والتقويم؟
المداخلات
الدروس المستفادة
- الدكتور خالد العرداوي؛ مدير مركز الفرات للدراسات والتنمية الإستراتيجية:
"من أبرز الدروس المستفادة من هذه العملية الانتخابية هو أن الانسحاب من الساحة السياسية لا يحقق أهداف إصلاح السلطة. وهنا أشير إلى (التيار الصدري)؛ إذ كان الاعتقاد بأن انسحابه من العمليتين الانتخابية والسياسية سيصحح المسار، إلا أن الوقائع أثبتت أن الإصلاح يتحقق عبر المشاركة في السلطة لا اعتزالها؛ لأن الاعتزال يفسح المجال للخصوم لإدارتها بالكامل. وهذا هو الدرس الأول.
أما الدرس الثاني، فيتمثل في أن العملية الانتخابية حين تُدار بوجود أحزاب السلطة، فإن هذه الأحزاب تتمكن من توظيف العملية لصالحها. وقد لاحظنا كيف أدارت هذه الأحزاب المشهد وفق رؤيتها، محققةً نتائج لم تكن غريبة، بل كانت متوقعة لدى الجميع.
والدرس الثالث يكمن في أن عدم الاستقرار التشريعي للعملية الانتخابية يصب في مصلحة السلطة لا في مصلحة الشعب. ويتجلى ذلك في عدم استقرار القوانين الناظمة؛ كقانون الأحزاب، وقانون الانتخابات، وقانون المفوضية العليا، فضلاً عن قانون الحملات الدعائية الذي لم يحظَ بالاهتمام. إن عدم الاستقرار في هذه المفاصل الأربعة يُوظَّف دائماً لخدمة أحزاب السلطة وتحجيم المعارضة السياسية.
وفي هذا السياق، أود الإشارة إلى نقطتين؛ الأولى: بصفتي أستاذاً للنظم السياسية في كلية القانون منذ أكثر من عشرين عاماً، وندرس الأنظمة الديمقراطية (الرئاسية، والبرلمانية، وحكومة الجمعية، والمختلطة)، أجد أن نظامنا البرلماني في العراق (نظام مشوه)، لا يستند إلى القواعد التقليدية للنظم البرلمانية القائمة أساساً على ثنائية (السلطة والمعارضة).
ففي النظم المستقرة، كبريطانيا وغيرها، توجد حكومة ومعارضة، أما في العراق -وهي حالة فريدة- فالكل يسعى للمشاركة في الحكومة والمغانم، حتى وإن حصل على مقعد واحد، ولا أحد يرغب في الاصطفاف مع المعارضة. والحال أن المعارضة هي التي تصنع النظام الديمقراطي، وتقوّم مسار السلطة، وتؤسس للحكم الرشيد.
وحتى التيار الصدري عندما قرر المعارضة، اختار الخروج من العملية السياسية برمتها وترك مقاعده لخصومه بدلاً من ممارسة المعارضة من داخل السلطة التشريعية، وهو مؤشر سلبي يدل على أن الجميع يريد السلطة ولا أحد يريد المعارضة، وتلك مشكلة حقيقية.
النقطة الأخيرة التي أختم بها: طالما وُجد مشرع برلماني مستعد للمساومة على نفسه، فلن تكون هناك معارضة حقيقية. فمع احترامنا للأشخاص، إلا أن كثيراً من البرلمانيين دخلوا قبة البرلمان وخضعوا لعمليات البيع والشراء والمساومات للحصول على امتيازات مادية. وهذا أمر خطير للغاية؛ فبهذه العقلية لا يمكن أن تنشأ لدينا معارضة حقيقية.
فوز (الزبائنية) بشكل مرعب
- الأستاذ محمد علاء الصافي؛ باحث في مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث:
"انتهت الانتخابات، وشخصياً لا أعتقد أنها أفرزت مخرجات تختلف عن سابقاتها. إن أهم ركيزة يمكن الاستناد إليها لإحداث التغيير من داخل العملية السياسية، وبناء مخرجات صحيحة، هي وجود قانون انتخابي منصف وعادل، يؤسس لهذه المرحلة التي تتطلب معارضة بنّاءة وحكومة أغلبية.
لكن القانون الانتخابي الحالي، الذي شرّعته الكتل السياسية في الدورة الخامسة عبر تعديل القانون السابق، أعادنا إلى نظام يؤدي إلى إنتاج كتل كبيرة ومتوسطة، مع تشتت كبير في عدد المقاعد. وهذا الأمر يجعل من المستحيل إنتاج حكومة أغلبية برلمانية؛ إذ قد يفرز أصواتاً معارضة فردية هنا وهناك، لكنه لا يؤسس -بل يستحيل أن يؤسس- لحكومة أغلبية.
فالنظام الانتخابي يجب أن يعتمد على دعم الكتل؛ إذ خلصتُ منطقياً إلى نتيجة مفادها ضرورة إنتاج كتل كبيرة، وإجبار الأحزاب على التحول إلى تحالفات حقيقية تتشابه في الأفكار والرؤى والبرامج.
أما التحالفات الموجودة اليوم فهي مجرد (تحالفات انتخابية)؛ إذ نجد أن الأحزاب المنضوية ضمن الائتلاف الواحد تتحارب فيما بينها أثناء الحملات الانتخابية، بصراع وتسقيط يصل إلى مستويات حادة، وضرب للمرشحين من القائمة نفسها. أي أنه ليس صراعاً مع كتل أخرى فحسب، بل هو صراع داخلي يصل مرحلة التسقيط، وهذا وضع غير سليم.
لذا، فإن القانون الانتخابي هو الذي يؤدي إلى مخرجات سليمة وتأسيس معارضة برلمانية. وحتى مع وجود بعض النماذج التي ظهرت في الدورة الخامسة، كأصوات المستقلين أو الكتل الناشئة التي حاولت ممارسة معارضة بنّاءة بمفردها، إلا أن ذلك لا يكفي؛ إذ تحتاج المعارضة إلى مقومات، أهمها مساندة الرأي العام.
والسؤال هنا: هل الرأي العام في العراق مساند للصوت المعارض أم لقوى السلطة؟ شخصياً، أرى أنه مساند لقوى السلطة؛ لأن قوى المعارضة لا يمكنها تقديم خدمات للمجتمع أو تلبية المطالب الشخصية -لنكن واضحين-، بينما من هم في السلطة يمكنهم تلبية تلك المطالب وكسب رضا الجمهور.
والمؤشر الخطير جداً الذي رصدته في الانتخابات الحالية هو فوز (الزبائنية) بشكل مرعب؛ تلك العلاقة القائمة بين المجتمع والمسؤولين عبر ضخ الأموال وشراء الأصوات، أو من خلال تقديم خدمات سابقة لفئات معينة، وهو ما حقق الفوز. حتى إن الصوت العشائري تراجع؛ إذ لم يتمكن كثير من شيوخ العشائر من الوصول للبرلمان، بل صعد فقط أصحاب الأموال، أو من استغل وجوده في السلطة والمنصب لتحقيق الفوز.
كذلك نعاني من عدم مساندة بقية مؤسسات الدولة للعمل الرقابي أو النيابي المعارض. فما الذي يمكن للنائب تقديمه؟ إنه يكشف ملفاً ويتابع حيثياته، ثم يوصله إلى الهيئات المعنية كهيئة النزاهة أو القضاء، وهنا يتجمد الملف وينتهي الموضوع دون نتائج فعلية.
ولهذا، أصبح يُقال لمن يعمل في ملف الرقابة والمعارضة داخل البرلمان: (أنت نائب فيسبوكي)؛ ترفع كتاباً أو تصور مقطع فيديو لـ (الترند)، ثم يُهمل الملف. وفي الحقيقة، إن من يعمل بأمانة لا ينسى الملف، ولكن دوره ينتهي عند عرض الملف وتسليمه للجهات المختصة، التي غالباً ما تفشل في معالجته بسبب الضغوط السياسية؛ مما يُفشل العمل الرقابي داخل البرلمان.
وأعتقد أننا خسرنا بانسحاب التيار الصدري من البرلمان (بين عامي 2021 و2022) فرصة حقيقية لبناء معارضة برلمانية بنّاءة، بحكم الثقل النيابي الكبير الذي كانت تتمتع به الكتلة الصدرية، وما كان يمكن أن تناله من تأييد الكتل الناشئة والمستقلين، فضلاً عن الرأي العام المساند لها. فالكل يريد السلطة، ولا أحد يريد المعارضة، وهذه مشكلة كبيرة جداً.
الناخب تفاعل مع المنجزات الظاهرية
- الدكتور علاء الكاظمي؛ باحث وأكاديمي:
"لدي نقطتان بخصوص تقييم الانتخابات العامة في العراق:
أولاً: في تصوري، إن الهدوء السياسي الذي شهدناه بعد انسحاب التيار الصدري من المعادلة، بعث برسائل راحة واطمئنان للشارع العراقي؛ مما دفعه للتفاعل في هذه الانتخابات. وقد لاحظنا ارتفاع نسب المشاركة مقارنة بالدورات السابقة، وأعزو ذلك إلى حالة الاستقرار السياسي الذي عشناه خلال السنوات الأربع الماضية، وهو ما شجع الناس على الاقتراع.
ثانياً: ما دفع الناس أيضاً للمشاركة هو الأعمال الخدمية التي أنجزتها الحكومة. ورغم إدراكنا لما قد يترتب عليها من آثار وتبعات مستقبلية سندفع ضريبتها لاحقاً، إلا أن الناس عادةً لا تلتفت إلى تلك التبعات، بل تتفاعل مع المنجزات الظاهرية (كالتبليط وحركة الإعمار)؛ مما حفزهم على المشاركة في العملية الانتخابية. هذان هما العاملان الأساسان اللذان شجعا الجمهور على المشاركة.
أما فيما يخص التساؤل حول كيفية تأسيس حكومة أغلبية؛ ففي الواقع، نحن نتحدث أحياناً بشكل افتراضي عن نصوص قانونية ومواد دستورية، لكن الواقع يختلف تماماً. هناك بون شاسع بين الثوابت القانونية وبين التطبيق العملي. فنحن نشهد في كل دورة تفسيرات جديدة للمواد القانونية والدستورية، تتمخض عنها حكومات تخالف كل الأعراف والأنماط المعتادة.
إذ من غير المعقول أن تُشكَّل الحكومة قبل الانتخابات! وقد سمعنا تصريحات علنية تشير إلى الاتفاق على ثلاثة أو أربعة أسماء لرئاسة الوزراء قبل ظهور النتائج. وهذا يعني بوضوح أن الحكومة مُشكلة مسبقاً بغض النظر عن نتائج الانتخابات، مما يفرغ الدستور والقانون من محتواهما مع الأسف.
وفيما يتعلق بتأسيس معارضة برلمانية وسياسية؛ فباستثناء الدورة التي شارفت على الانتهاء، لم نلحظ وجود معارضة حقيقية داخل البرلمان سابقاً. كان المشهد عبارة عن صراعات (إطار وتيار، سنة وشيعة، عرب وأكراد)، ولم تكن هناك معارضة تمتلك أدوات ورؤية ومنهجاً.
لكن في الدورة الأخيرة، وبفضل القانون الانتخابي الذي كان منصفاً نوعاً ما، صعدت شخصيات جديدة ومستقلة، ورأينا -وإن كان العدد قليلاً- بوادر معارضة حقيقية.
وفي تصوري، حتى وإن أُغلق هذا الباب بالعودة إلى قانون (سانت ليغو)، إلا أن النواب الجدد الذين صعدوا -والذين أُعيد انتخاب بعضهم- قد فتحوا باباً جديداً في العملية السياسية. وإذا ما مارسوا دورهم بنفس الآلية مع زخم إعلامي أكبر، فقد نشهد في الانتخابات القادمة اتساعاً في دائرة المعارضة.
أما وفق القانون الحالي ومع صعود الوجوه والكتل ذاتها، فمن الصعب تصور وجود معارضة؛ إذ لم نعهد أن يدخل شخص نزيه ضمن قائمة حزبية تقليدية ثم ينشق عنها ليصبح معارضاً. هذا أمر نادر الحدوث، ولا نراه إلا في القوائم المستقلة البعيدة عن الأحزاب التقليدية".
ترسيخ القواعد السيئة في العملية السياسية
- الشيخ مرتضى معاش:
"بالنسبة للتقييم والدروس التي يمكن استخلاصها من هذه الدورة الانتخابية، نلاحظ الآتي:
أولاً: أثبتت هذه الانتخابات قوة (الإطار التنسيقي)، ومكنته من أن يكون الحزب الحاكم والمهيمن في البرلمان. وتُعد هذه النتيجة انعكاساً واقعياً لغياب المعارضة، مما أدى بالتبعية إلى هيمنة قوى الإطار على الحكومة.
لقد تمكّن هؤلاء من السيطرة بفضل عاملين أساسيين -إضافة إلى غياب المعارضة- وهما: الخبرة والمال.
فالخبرة المتراكمة لديهم عبر عشرين عاماً من الانتخابات، منحتهم معرفة دقيقة بنفسية الناخب، وأساليب الدعاية، وطرق بناء المنظومة والقواعد الانتخابية؛ وهو ما أكسبهم هذه القوة.
كما نلاحظ أن المال السياسي كان له دور بارز؛ إذ اتفقوا فيما بينهم واستطاعوا بناء قواعد انتخابية ثابتة وفق ما نسميه (الجغرافيا الانتخابية)؛ حيث كان كل شيء محسوباً بدقة، بما في ذلك حساب الأصوات المدفوعة بالمال السياسي.
ونتيجة ليأس الناخب العراقي من جدوى التغيير أو أهمية صوته، لجأ إلى بيع صوته، فتمت عمليات شراء الأصوات ضمن جغرافية انتخابية محددة. وقد استطاع كل طرف الحفاظ على جانب معين من الناخبين، وعبر حسابات رياضية متكاملة، وصلوا إلى هذه النتيجة وتمكنوا من المشهد.
وهذا يقودنا إلى الدرس الأهم: لا يمكن لأي طرف يرغب في المشاركة مستقبلاً أن ينجح دون امتلاك قواعد انتخابية.
نعم، لقد منحتهم المشاركة في الحكومة قوة إضافية؛ والسبب يعود إلى أن عقلية المواطن لا تزال ملتصقة بالحكومة بوصفها (الراعي) أو (الأب) على مر التاريخ. لذا نجد حتى الموظف ينتخب الحكومة وينقاد خلفها؛ لاعتباره إياها الجهة الراعية والمسؤولة عن صرف راتبه.
وبالنتيجة، فإن هذه العقلية -إلى جانب غياب المعارضة الفاعلة والحقيقية التي يمكن أن تكون بديلاً- هي التي مكنت هؤلاء من السيطرة".
"الدرس الأهم هنا هو أنهم أسسوا لقواعد سيئة ولمستقبل غامض، و(كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ). إن هذا الارتهان للقواعد السيئة سيقود حتماً إلى نتائج سيئة.
فمن هو في السلطة اليوم يتوهم أن اللعبة لعبته وحده، والحال أنها ليست كذلك؛ بل هي لعبة تشترك فيها جميع القوى الدولية والإقليمية والداخلية. وهذا الطغيان الذي يتملكه يجعله لا يحسب حسابات المستقبل، ويفتقر إلى المرونة في توزيع الأدوار وفسح المجال للآخرين.
ومن الأمور التي قد تكون سبباً في نهايتهم: (الاستبداد التشريعي).
ويتحقق هذا الاستبداد حين تكون لهم سيطرة مطلقة على البرلمان، فيشرعون القوانين وفق مقاساتهم ومصالحهم، مما سيؤدي بالنتيجة إلى مآلات سيئة؛ ومن أمثلة ذلك انقسام العراق إلى طبقتين: طبقة موالية لهؤلاء تحصل على الامتيازات، وطبقة معارضة محرومة منها.
وهذا أحد النتائج المتوقعة؛ لأن العراق لن يستمر في منح الامتيازات لجميع الناس، فهناك حد معين ستتوقف عنده الأمور.
في الفترة الماضية -وبسبب الأحداث التي مرت مثل قضايا تشرين والتيار الصدري- انتفع الجميع وصعدت الأصوات. أما الآن، وبعد هذه المرحلة، فسيؤدي الانقسام إلى تشكّل طبقتين: طبقة منتفعة وأخرى متضررة بحكم الأمر الواقع؛ لأن العراق لا يملك إمكانيات وموارد كافية لإشباع كل الشعب. وهذه قضية جوهرية يجب أن نلاحظها في المستقبل".
"وهنا يكمن الغموض؛ إذ يصف الكثير من الكتاب والمحللين هذا الهدوء بأنه (هدوء خادع). وهو لا يعني الاستقرار الحقيقي، بل قد يكون استقراراً شكلياً ناتجاً عن وضع المنطقة والعراق.
ورغم أن الشعب قد يبدو منسجماً مع هذا الوضع ومتكيفاً معه، إلا أنه بحسب المعادلات والسنن والقواعد القائمة، فإن هذا الاستقرار خادع، وهناك متغيرات كثيرة قد تطرأ كما حدث سابقاً في العراق.
وأتصور أنهم أسسوا لقواعد سيئة، وسيكونون أول المتضررين منها؛ إذ ستبتلعهم هذه القواعد. وكما ورد في القرآن الكريم: (كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَآثَارًا). فبالنتيجة، وإن كان هؤلاء اليوم في قمة سلطتهم وقوتهم، إلا أن استنادهم إلى قواعد سيئة في العملية السياسية يجعل مستقبل (الإطار التنسيقي) وباقي التحالفات غير واضح.
إذ تثار تساؤلات عدة: من سيقود الإطار؟ وما هو دور إيران فيه؟ وما طبيعة علاقتهم مع أمريكا؟ ومن هو رئيس الوزراء القادم؟
فلو أنهم عمدوا إلى تأسيس قواعد جيدة ورصينة لكان الوضع مختلفاً، لكنهم لا يفعلون ذلك؛ لأنه يتعارض مع مصالحهم السلطوية والمحاصاتية.
لذا، فالأمر المطلوب هو تغيير عقلية المواطن؛ لينظر إلى المستقبل ويفهم واقعه. وتغيير عقلية المواطن أمر صعب جداً إن لم يكن مستحيلاً. وقد رأينا أن المعارضات الشعبية في العالم -التي يقودها المواطن البسيط والشباب خصوصاً- غالباً ما تكون ذات مطالب شخصية، كالحصول على وظيفة.
وهذا ما حدث في حركة (تشرين)؛ فبمجرد أن حصل البعض على تعيين، أو حين اصطدموا بعدم القدرة على التغيير، أصابهم الإحباط واليأس، أو اندمجوا مع النظام القائم.
وأتصور أن هذه عملية خطرة جداً؛ إذ كنا نأمل أن يُحدث صوت الناخب التغيير المنشود، ولهذا شجعنا على المشاركة".
"إن المقاطعين هم من تسببوا في الوصول إلى هذا المسار. والمقاطعون على نوعين: نوع قاطع فعلاً لعدم إيمانه بالعملية السياسية، ونوع آخر -وهو مقاطع في الواقع- هو من باع صوته بالمال؛ إذ تنازل عن إرادته الحرة قائلاً: (لماذا يذهب صوتي سدى؟ فلأستفد منه مالياً).
وبالنتيجة، يؤدي هذا كله إلى غياب الدافع الحقيقي لدى المواطن. يقابل ذلك أحزاب سلطوية طغت ووصلت إلى مرحلة (فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)؛ مما جعل المشهد ضبابياً، وهذا الغموض يشكل خطراً.
والغموض الأخطر يكمن في: ماذا سيفعل التيار الصدري؟ هل سيستمر في السكوت ومقاطعة النظام السياسي بعد أن لم تجدِ المقاطعة الشعبية نفعاً؟ وهل يعقل أن يبقى ساكتاً؟
فإذا استمر هذا السكوت، ستبدأ الكتل الأخرى بالتهام القواعد الانتخابية للتيار الصدري؛ خاصة حين يرى جمهوره أنهم لم يحصلوا على شيء.
لذا، أتصور أن الغموض في موقف التيار الصدري أمر خطير للغاية، ويستدعي الانتباه وتدارك الأمر؛ لأن الاستمرار بهذه الطريقة -التي يمكن تسميتها (الاستنزاف)- هو ما أوصلنا إلى هذه المرحلة، كما شهدنا طوال الفترة الماضية.
مفهوم المعارضة على مدى تاريخنا
- الأديب علي حسين عبيد؛ باحث وكاتب في شبكة النبأ المعلوماتية:
"في الحقيقة، لدي وجهة نظر تميل نحو التفاؤل أكثر. ورغم أن معظم المداخلات أشارت بعمق إلى الجوانب السلبية -وهي جوانب حقيقية لا تُنكر- إلا أن نسبة المشاركة التي تجاوزت (55%) أو (56%) أو أكثر، هي أمر يبعث على السرور لي ولكثير من الناس أيضاً.
فنحن دائماً ما نكرر القول بأن التجربة الديمقراطية في العراق لا تزال غضة، وهي كذلك بالفعل؛ إذ لا يمكن لتجربة عمرها (25) سنة أن تنضج حقيقةً إلا بعد المرور بمخاضات كثيرة.
أما بالنسبة للمعارضة، فنحن نعاني -بصراحة- من مشكلة متجذرة؛ فتاريخنا السياسي القديم والحديث والحالي يفتقد بشكل كامل لقضية المعارضة. وثقافتنا الاجتماعية والأسرية تفتقد ذلك أيضاً، بما في ذلك النخب المثقفة وأصحاب الكلمة والأدباء. فحين نراقب -مثلاً- انتخابات اتحاد الأدباء، نجد أن الجميع يسعى للمنصب، وتفتقد هذه المؤسسة المهمة لمفهوم المعارضة. لذا، يجب على كل من يشعر بالمسؤولية -وخاصة أصحاب القلم- التصدي لمعالجة هذه القضية.
ثقافة المعارضة عمل بعيد المدى
- الكاتب محمد علي جواد تقي؛ شبكة النبأ المعلوماتية:
فيما يتعلق بالديمقراطية، فهي في كل مكان عبارة عن (تجربة سياسية)، وليست منزلة من السماء (لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها). وأمامنا فرنسا -الداعية لحقوق الإنسان ذات التاريخ المجيد في الديمقراطية- كيف سُجن فيها رئيس جمهورية بسبب فضيحة. وكذلك في الولايات المتحدة الأمريكية -راعية الديمقراطية- نسمع عن التزوير وشراء الأصوات. فهذه هي طبيعة الديمقراطية في كل مكان.
وفي العراق، فإن تجربتنا فتية وغضة. فالشعب العراقي مر بمئة عام من الاحتلال والانقلابات، بل عاش قبل ذلك حالة يمكن وصفها بـ (العبودية) في ظل الأنظمة المتعاقبة.
والآن، رغم الشعارات الديمقراطية الجميلة (صوتك يقرر، أنت تختار)، والتي قد تكون مجاملة أو تمريراً لمرحلة التجربة، إلا أنه لا بد من وجود نواقص.
ولكن، وبكل الأحوال، عندما نرى (12) مليون إنسان يخرجون من بيوتهم للانتخاب -وقد شاهدت ذلك بنفسي، وبالأخص النساء اللواتي يحملن أطفالهن وهن ذاهبات لمراكز الاقتراع وكأنهن ذاهبات لاستلام راتب أو منفعة مادية- فإن هذا المشهد له دلالاته.
وقد ذكر السادة المتداخلون دوافع مختلفة للمشاركة (المال، التوظيف، وغيرها). ورغم أن هذه الدوافع كانت موجودة سابقاً، إلا أننا لم نشهد هذه الأرقام. ففي الدورة الماضية، ورغم وجود الاحتجاجات والثورة، كانت النسبة (40%)، وتساءلنا: أين الثوار؟ أما الآن، ودون ثورة، وصلت النسبة إلى (56%) وبمشاركة (12) مليوناً. وهذا يدل على أن الإنسان يريد أن يتحرك ويجرب، وإن اختلفت الدوافع؛ فمنهم الواعي المقتنع بشخصيات معينة، ومنهم من له قناعات ودوافع أخرى. وحقيقةً، تقييمي أنها حركة ناجحة وخطوة تبشر بخير لدورة مقبلة، نأمل أن تكون المشاركة فيها أوسع، وأن يفي الممثلون بوعودهم ويكونوا نواباً حقيقيين عن الجماهير.
بالنسبة للسؤال الأول: نأمل أن يكون الحل هو تأسيس حكومة (تكنوقراط)، قائمة على الكفاءة والنزاهة والمواصفات العالمية، وبعيدة عن العناوين الفرعية (الانتماءات الطائفية).
أما السؤال الثاني المتعلق بتأسيس المعارضة، فأراه سؤالاً صعباً أيضاً؛ لاشتراطه أن تكون (بناءة، وإيجابية، وحقيقية)، واجتماع هذه الشروط صعب لسبب بسيط، وهو أننا نفتقد لـ (ثقافة المعارضة) سواء لدى الجماهير أو النخبة السياسية.
فالنخبة السياسية -حتى وإن تبعت أجندات فئوية أو خارجية- فهي تعكس وجه المجتمع العراقي؛ إذ لم يأتوا من الخارج، بل هم هنا منذ (25) سنة ويعبرون عن روح المجتمع.
والإنسان العراقي بطبعه لا يميل للمعارضة، بل يميل للسلطة التي تقضي حاجته وتوفر مصلحته الآنية. بينما ثقافة المعارضة هي عمل بعيد المدى.
وهنا يأتي دور المثقفين والمؤسسات الإعلامية لتثقيف المجتمع بأن المعارضة هي التي تحقق المطالب على المدى البعيد، وتضمن استمرار تلبية الحاجات المتجددة عبر المراقبة والنقد المستمر، بخلاف السلطة التي قد تعطي (منفعة وقتية) لتنهي المطالبة.
للأسف، ثقافة المعارضة غير موجودة أساساً في المجتمع؛ فالناس تفضل الحاكم الذي بيده المال ويعطيها لينتهي الأمر".
الدور المؤسساتي واستكمال الدور الرقابي للنائب
- الأستاذ حامد الجبوري؛ باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية:
"مبدئياً، أود التعليق على المداخلة التي طُرحت أكثر من مرة بخصوص انسحاب التيار الصدري.
من وجهة نظري، أتوقع أن التيار الصدري انسحب بهدف توسيع قاعدته الجماهيرية؛ لأننا نعلم أن سهام النقد كانت تُوجه إليه دائماً بصفته مشاركاً مستمراً في السلطة، سواء كان في الحكومة أو المعارضة.
لذا، أتوقع أن انسحابه في الدورة السابقة والدورة الحالية سيؤدي إلى زيادة رصيده الجماهيري، مما سيمكنه من الدخول بقوة في الانتخابات القادمة، وتحقيق عدد مقاعد برلمانية أكبر، وهو ما قد يؤهله لتشكيل حكومة أغلبية وطنية. هذه نقطة فيما يخص هذا الموضوع.
أما بخصوص الشروط التي تفضلتم بذكرها دكتور، فأتوقع وجود ثلاث نقاط إضافية مهمة، وهي:
أولاً: ما يتعلق بالحرية الفكرية والإيمان بمبدأ الاختلاف، فنحن حالياً كمجتمع نفتقد لحرية الاختلاف أو ثقافة المعارضة اجتماعياً وشعبياً. إذ إننا نرفض صعود شخص كفوء وحر ويمتلك هدفاً وطنياً لمجرد أنه يختلف معنا في المعتقد أو الانتماء (ليس من جماعتنا)، ونفضل شخصاً آخر يتفق معنا في المعتقد وإن كانت كفاءته أقل. وبصراحة، فإن مسألة الحرية الفكرية مهمة جداً لتحقيق أغلبية وطنية نهائية لبناء لاحق في البرلمان.
ثانياً: مسألة الاقتصاد الحر، تُعد هذه النقطة جوهرية في بناء حكومة أغلبية وطنية؛ لأن السلطة تستثمر الأموال عادةً لشراء الأصوات، مما يجعل صوت الناخب غير حر. لذا، فإن توزيع الموارد وخلق استقلال اقتصادي للمواطن بعيداً عن الحاجة للسلطة، سيجعل صوته حراً في اختيار من يشاء دون ضغوط اقتصادية.
ثالثاً: المؤسساتية، نحن نرى دائماً أن البرلماني -حتى المعارض- حين يؤدي دوره في كشف الملفات أو المراقبة والرصد، لا تأخذ جهوده دورتها الكاملة للوصول إلى نتائج. ولو أننا امتلكنا مؤسسات قوية تضمن إكمال الدورة الرقابية، بحيث يؤدي كشف الملفات إلى معالجة الفساد أو التصحيح أو التشريع، فإن ذلك سيخلق ثقة لدى الجمهور، ويوسع قاعدة المعارضة، مما يسهم مستقبلاً في التأسيس لحكومة أغلبية وطنية.
التصويت الانتخابي والعناوين الفرعية
- الباحث حسين علي حسين عبيد؛ مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية:
"إجابة باختصار على السؤال الأول: تكمن المعضلة في مسألة إيجاد حكومة أغلبية عابرة للعناوين الفرعية، وفي وضع الشخص المناسب في المكان المناسب بناءً على إمكانياته لا انتماءاته. فما نحتاجه أساساً هو توعية الشعب بضرورة انتخاب الشخص (العراقي) الصحيح؛ فليس شرطاً أن يكون شيعياً في منطقة شيعية، أو سنياً في منطقة سنية.
والملاحظة هنا، هي أن أي حزب تسأله يدّعي أنه (عراقي)، بينما الواقع يشير إلى أن كل حزب ينتمي لجهة معينة أو لدولة أخرى؛ فمن هو العراقي الحقيقي بينهم؟ لا نعلم.
أما الإجابة عن السؤال الثاني المتعلق بتأسيس المعارضة البرلمانية: فإن أي تغيير في نظام الحكم غالباً ما يأتي من خلال الثورات. وعلى سبيل المثال، ما حدث لدينا في احتجاجات تشرين؛ إذ قامت ثورة، وتكونت بعدها مجموعة أحزاب رشحت للحكومة، وحصلت على نسبة من المقبولية.
وعليه، من الممكن أن تتشكل المعارضة أساساً خارج البرلمان عن طريق الاحتجاجات، وإذا ما لاقت مقبولية جماهيرية، يمكنها لاحقاً الانتقال لتمارس دورها داخل البرلمان.
حكومة أغلبية برلمانية
- الدكتور خالد الأسدي؛ باحث في مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث:
"تكمن مشكلتنا الرئيسة في الحاجة إلى توعية المجتمع بطبيعة عمل النائب؛ إذ يجهل المجتمع دوره، ولا يدرك أن النائب ليس مدير بلدية أو وزيراً. وهذه هي المعضلة الأساس؛ فإذا لم يتثقف الشعب ويدرك أن مهمة النائب تقتصر على التشريع والرقابة، وأنه يمثل سلطة تشريعية تشرع القوانين وتراقب الأداء، فسنظل ندور في الحلقة نفسها في كل انتخابات: (من يدفع المال هو من يصعد).
وهذا ما يحدث بالفعل. ورغم أن هذه الانتخابات شهدت مفاجآت، إلا أن المفاجآت القادمة قد تكون أكبر؛ لأن الكتل التي حصلت على أعلى المقاعد بدأت الآن بالتشتت.
فعلى سبيل المثال، بدأ تحالف (الإعمار والتنمية) بالتفكك؛ إذ ذهب السيد فالح الفياض مع (دولة القانون). وتبدو كتلة السيد السوداني هي الحلقة الأضعف داخل هذا التحالف، حيث حصلت على ما يقارب 9 إلى 10 مقاعد، وربما أقل.
لذا، أعتقد أننا مقبلون على مفاجآت لم نكن نحسب لها حساباً، ومن المحتمل أن يتولى السلطة طرف لم يكن في الحسبان. هذه نقطة أولى.
ثانياً، نعم من الممكن تشكيل حكومة أغلبية برلمانية في العراق عابرة للعناوين الفرعية، وتأسيس معارضة برلمانية وسياسية حقيقية في الوقت ذاته.
ويتم ذلك من خلال جمع كافة القوائم في ائتلافين رئيسين يغطيان مساحة العراق من زاخو إلى الفاو؛ بحيث تكون لدينا قائمة (مجموعة أحزاب) أولى، وقائمة (مجموعة أحزاب) ثانية. القائمة التي تفوز تشكل الحكومة والبرلمان، والأخرى تكون معارضة فقط.
إذا تحقق هذا الأمر، يمكننا تشكيل حكومة أغلبية وطنية عابرة للطائفية؛ لأن كل ائتلاف سيضم جميع أطياف الشعب العراقي. وبخلاف ذلك، لن تكون لدينا حكومة وطنية ولا حكومة أغلبية.
وكما ترون، فقد بدأ سيناريو (شراء النواب) مبكراً، وانطلقت الزيارات والتحركات. حتى إننا نرى على (فيسبوك) زيارات لشخصيات فازت بمقعد واحد؛ فما الغاية من زيارته إن لم تكن لمحاولة استقطابه وضمّه؟
لقد بدأت هذه المفاجآت التي لا نعلم مآلاتها، ولكن من الممكن أن تبرز مجموعة من الأصوات أفضل من سابقتها، حيث كانت الأصوات السابقة قليلة، وربما تكون الآن أكثر.
ثالثاً، لا يضع البرلمانيون في حسبانهم أن للمعارض صوتاً ومكانة في المجتمع. ولكننا رأينا أن أكثر المعارضين في مجلس النواب خلال الدورة السابقة قد صعدوا مجدداً؛ مما يعني أن المجتمع يبحث عمن يطالب بحقوقه، وعمن يشرع ويكون صوته عالياً بالحق.
وإلا لماذا تخرج الناس في مظاهرات لأجل (أمير المعموري) وتتساءل عن عدم ترشحه؟ فالرجل ليس في الحكم، بل كان يسعى خلف تشريع القوانين ويعلو صوته بها، ولهذا خرجت الناس لأجله. هذا يعني أن الناس بدأت تتثقف وتعرف طبيعة عمل البرلماني، ولو كان ذلك في نطاق ضيق. نحن بحاجة إلى هذا التثقيف وهذا الدعم؛ ولذلك من الممكن أن نرى مجموعة من البرلمانيين يصدحون بأصواتهم ويشكلون معارضة حقيقية.
نتائج مرضية
- احمد جويد؛ مدير مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات:
"لم أكن أتوقع شخصياً أن تفرز الانتخابات هذه النتائج التي أعتبرها مرضية؛ فقد كانت القوائم المرشحة تضم كثيراً من الشخصيات الهزيلة، والبعض منهم -مع الاعتذار من الحضور- كانوا أشبه بـ (المهرجين) أو الشخصيات الإعلامية غير المؤهلة.
وقد بدأ الناس يدركون أن هؤلاء لا يمثلونهم ولا يعبرون عن قيمهم واعتباراتهم؛ فتوجه كثير منهم فعلاً لانتخاب الشخصيات الجيدة.
ورغم ملاحظاتنا على ما رافق الانتخابات في بدايتها من قضايا فساد، كاستخدام المال العام، والأماكن العامة، وشراء الذمم، واستغلال النفوذ والسلطة؛ إلا أننا شهدنا في الوقت ذاته وعياً جماهيرياً، حيث قيّم الناس بإنصاف من اهتموا بكشف ملفات الفساد وانتخبوهم.
ومع ذلك، لم يحالف الحظ بعض الشخصيات النزيهة التي كانت في الدورة السابقة، ليس لقصور فيهم، بل بسبب القانون الانتخابي غير العادل. فقد حصل بعضهم على آلاف الأصوات، لكنهم لم يصعدوا بسبب طبيعة القانون ونظام (الكوتا) الذي يحكم مجلس النواب بهذه الطريقة.
أما بالنسبة لتشكيل المعارضة، فالأمر مرهون بطريقة تشكيل الحكومة؛ فإذا شُكلت وفق النهج السابق القائم على مشاركة جميع الأحزاب والكتل الفائزة، فلن تكون هناك معارضة. ولكن إذا انفرز المشهد إلى كتلتين: إحداهما تشكل الحكومة، والأخرى تعارض وتراقب وتحاسب؛ فحينها سنشهد معارضة حقيقية وإيجابية.
وبالنظر إلى النتائج الحالية، فإن الوضع يختلف عن السابق؛ إذ تتعدد المزاجات والمشارب حتى داخل الكتلة الواحدة، مما سيجعل عملية تشكيل الحكومة صعبة للغاية. وسيرافق ذلك مسار طويل من المفاوضات، والضغوط الداخلية والخارجية، فضلاً عن عمليات شراء الذمم لتأمين تشكيل الحكومة.
وهنا يجب أن يكون للمحكمة الاتحادية دور، كما تقع مسؤولية أخلاقية على عاتق النواب الجدد للإسراع بانتخاب رئيس مجلس النواب ورئيس الجمهورية؛ ليتم تكليف الكتلة الأكبر، وحتى لا تبقى مصالح المواطنين معطلة في ظل حكومة تصريف أعمال قد تستمر لستة أو ثمانية أشهر لحين تشكيل الحكومة الجديدة".
فكرة المعارضة إقصاء وتصفية وليست وتصحيح وبناء
- الأستاذ عدنان الصالحي؛ مدير مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية:
"في الواقع، نحن اليوم نقترح أمراً يُعد من بديهيات العالم الديمقراطي، وهو ثنائية (حكومة الأغلبية) و(المعارضة). فالمعارضة -أو ما يُسمى بـ (حكومة الظل)- هي الجهة التي تراقب، وتكون دائماً مصدر إزعاج للحكومة التي تدير الدفة؛ لأن أي حكومة تعمل لا بد أن تقع في أخطاء وإخفاقات، وهنا يأتي دور من ينبهها ويحاسبها.
إن المشكلة لدينا اليوم في العراق تكمن في نظرة البعض للمعارضة؛ إذ يرونها وسيلة لـ (تصفية الخصوم)، وقد يكون جزء من هذه النظرة صحيحاً؛ لأن كثيراً من الأطراف تمتلك ملفات فساد وأخطاء، وحين يهدد الطرف الآخر بإحالتهم للقضاء، فهو يتحدث عن واقع حقيقي، وهم يتخوفون من واقع حقيقي.
لذا، فإن قناعة المعارضة السائدة لدينا هي أنها حالة (إقصاء وتصفية)، وليست حالة (تصحيح وبناء) أو ترميم للدولة. وبسبب الخوف من نشوء معارضة حقيقية، نجد الجميع يصعدون في (سفينة الحكومة)، وحتى من يقف في جانب المعارضة البرلمانية، تجده في الحقيقة يفتح خطوط تواصل مع الحكومة بشكل أو بآخر.
من جانب آخر، من قال إن نسبة المشاركة العالية في الانتخابات تعني بالضرورة أنها جيدة؟
لقد شهدنا في أول انتخابات حشداً كبيراً، ووصلت النسبة -على ما أذكر- إلى السبعين بالمائة، ومع ذلك لم تُحترم النتائج. فقد انتخبنا (الجعفري) وفاز بالأغلبية، لكن الانتخابات لم تُقبل وأُقصي ليأتي شخص آخر. وفي الانتخابات التالية فاز (إياد علاوي)، ولو احترمنا كلمة الناخب لمُنح فرصة تشكيل الحكومة، لكننا التففنا عليه عبر المحكمة الاتحادية وتفسير (الكتلة الأكبر).
وحين فاز (المالكي)، مُنح المساحة لتشكيل الحكومة.
والسؤال هنا: لماذا لا يُمنح الفائز المدة القانونية (30 يوماً) لتشكيل الحكومة؟ دعونا نضع بعض (الخجل) في الموضوع، فإذا فشل في نيل الثقة، ننتقل للكتلة التي تليه.
لكن ما يحدث هو العكس؛ فقد جاءت كتلة (سائرون) ولم تمنح الثقة، وكذلك الكتلة الصدرية.
وبالنتيجة، أصبحت أصواتنا يوم الانتخابات، ونسبة المشاركة -مهما علت- مجرد (مؤشر شكلي) أو رمزي وأخلاقي؛ إذ لا توجد مادة قانونية تلغي الانتخابات بسبب النسبة. والواقع أن مصير البلد يُحسم عبر التوافقات والصفقات الجانبية، حيث تُرسك الحدود والمساحات لكل طرف، ويكون الصراع على (الحدود) لا على (الوجود).
حتى إن رئيس الحكومة الحالي تحدث قبل ثلاث سنوات عن وزراء فاسدين وإحالتهم للقضاء، وانتهت الدورة دون أن يتمكن من إجراء أي تعديل.
فإذا لم يكن لكلمة الناخب احترام بعد صندوق الاقتراع، فلا قيمة للديمقراطية، والانسحاب حينها يكون أشرف وأفضل.
اليوم، لو انتخبتُ شخصاً وفاز بالمركز الأول على العراق -سواء كان من المكون السني أو الكردي أو الشيعي- فيجب أن يُسمح له بتشكيل الحكومة.
فعلى سبيل المثال، السيد السوداني -وإن كنت لا أتفق معه ولا تربطني به صلة- إذا فازت كتلته بالمركز الأول (وليس كتحالف)، فيجب أن يُعطى الفرصة لإكمال مسيرته وتشكيل الحكومة، وإذا فشل تُسحب منه الثقة.
أما أن نلغي صوته وأصوات الناخبين، ونأتي بشخص حصل على مقعد واحد لمجرد (مغازلة) جهات مقاطعة أو لترطيب الأجواء، فهذا ليس منطقاً لبناء الدولة.
نحن نتمنى تغييراً في العقلية السياسية للقيادات، بحيث تؤمن بمعارضة وأغلبية، وبالنتيجة الكل رابح. فوجود المعارضة يحميك حين تكون في السلطة وينبهك لأخطائك، وحين تكون في المعارضة يكون صوتك مسموعاً.
أقولها بصراحة: نحن الشيعة إذا لم نمتلك العقلية لاحتواء الجميع، وأن نتصرف كأصحاب وطن (أب للجميع) لنبني الدولة، فلن ننجح. أما منطق (لدي 90 مقعداً وسأكسر أنوفهم) فهو يبني سلطة لكنه لا يبني دولة، ولا يحقق عدالة، ولا يقدم خدمات، ولا يصنع سمعة دولية تجعل الجواز العراقي محترماً في العالم.
المزاج السياسي خاضع للتوافقات
- الأستاذ صادق الطائي؛ باحث وكاتب:
ان عملية الانتخاب طريقة جديدة في العراق، وهي تحتاج إلى حالة من الممارسة والإصلاح مع الواقع العراقي. يمثل البرلمان العراقي ساحة مصارعة للقوى والأحزاب الكبيرة والقوى الصغيرة، اما تجلس دون ان تتكلم أو تُنضم تحت جناح قوى أخرى كي تحافظ على دورها بشكل مؤقت... هذا يعني ان العناوين الفرعية غير عابرة إنما مؤثرة في تأسيس أي حكومة مستقبلا.
السبب هو فقدان الوعي السياسي، وقراءة خارطة في حب الوطن من اعراق وقوميات وأقليات، مثلا انتخابات (2025) قامت على أساس طائفي واضح، إذن كيف يمكنها بناء حكومة وتحقق المقاصد الشعبية الايجابية والبنائية لكل الشعب دون تميّز أو تفريق.
لذلك يمكن ان نصل إلى تأسيس معارضة برلمانية حقيقية وبناءة وكذلك ايجابية، عندما يدخل المرشح بطاقاته الايجابية لا بدوافع الفئة أو الحزب أو التيار الفلاني، إما غيرها يعدنا إلى المحن والاحتراب الداخلي والتفرق..
خلال الأربعة سنوات القادمة المطلوب من طلائع الأمة وعناصرها الواعية، ان تنشر وتكتب وتوزع أفكارها، وكذلك تعمد إلى توظيف الفضاء الالكتروني لتقديم الثقافة المطلوبة، لتكوين القدرة الايجابية لتصحيح الخطوات وبناء المستقبل المطلوب.






اضف تعليق