قد تتردد بعض الحكومات، خشية أن يؤدي استبدال العملة إلى تقويض فعالية السياسة النقدية المحلية. وسوف يساور حكومات أخرى القلق إزاء تسهيل غسيل الأموال، وتجنب الضرائب، والتهرب من ضوابط رأس المال. وسوف تدقق سلطات الاتحاد الأوروبي في مدى توافق العملات المستقرة المربوطة بالدولار مع أحكام حماية المستهلك وتكامل السوق...
بقلم: باري آيكنجرين

شيكاغو ــ يخضع الدولار الأميركي حاليا للتدقيق من قبل المستثمرين في مختلف أنحاء العالم. إذ يساور البنوك والشركات والحكومات التي تعتمد عليه كوسيلة دولية للدفع ومخزن للقيمة القلق إزاء سياسات الرئيس المتقلب والعدائي الذي يرفع شعار "أميركا أولا". وهم يخشون أن تُـتَّـخَذ خطوات أخرى لاستخدام العملة كسلاح. كما يشعرون بالاستياء لأن ديون الحكومة الأميركية تسلك مسارا يجعلها غير محتملة، ولأن مجلس الاحتياطي الفيدرالي، الذي بات استقلاله على المحك، سيشعر بالضغوط التي قد تدفعه إلى التخلص من تلك الالتزامات عن طريق التضخم.

قد يكون الدولار هو العملة العالمية المهيمنة في الوقت الراهن، لكن الأمر لا يخلو من تساؤلات حقيقية حول مدى دوام هذه اللحظة.

والآن تَـهُـب للإنقاذ ــ وانتظروا ذلك ــ العملات المستقرة المربوطة بالدولار، وهي عملات رقمية قائمة على تكنولوجيا سلاسل الكتل ومربوطة بالدولار بنسبة واحد إلى واحد. يَـعِـد قانون "توجيه وإنشاء الابتكار الوطني للعملات المستقرة في الولايات المتحدة" (GENIUS) الذي وقعه الرئيس دونالد ترمب في يوليو/تموز الماضي بالسماح بازدهار ألف عملة مستقرة. وسوف تنفق وزارة الخزانة الأميركية وشريكاتها من الهيئات التنظيمية العام المقبل في صياغة القواعد، وبعد ذلك ستبدأ في منح التراخيص لـمُـصدري العملات المستقرة من القطاع الخاص. وتشير كل الدلائل إلى أننا لن نشهد أي نقص في عدد المرخص لهم.

خضعت العواقب المحلية لقدر كبير من المناقشة. فهل تكون العملات المستقرة مدعومة بالكامل حقا بضمانات آمنة وسائلة، أو يظل الخاضعون للتنظيم، الذين لديهم كل الحوافز للاحتفاظ بأصول ذات عائد أعلى، متقدمين بخطوة على الهيئات التنظيمية؟ وهل يجري تبادلها دائما وفي كل مكان بواقع وحدة واحدة مقابل دولار واحد؟ وإذا حدث تهافت على استرداد الودائع، فهل تتدخل الهيئات التنظيمية مثلما تدخلت في عام 2008 لضمان التزامات الصندوق الاحتياطي الأولي، ثالث أكبر صندوق لأسواق المال في العالم؟ وهل تكون قاعدة ودائع البنوك معزولة عن طريق حظر دفع فائدة على العملات المستقرة، أو هل تتجنب جهات الإصدار هذا الحظر عن طريق توجيه مدفوعات الفائدة من خلال البورصات حيث يجري تداول عملاتها، فيهدد هذا وجود النظام المصرفي؟

هذه أسئلة جيدة، وإجاباتها ليست مطمئنة.

مع ذلك، سوف يقول بعض الناس: إذا كان الأمر ينطوي على مخاطر، فهي مخاطر تستحق أن نخوضها، لأن العملات المستقرة ستصون هيمنة الدولار العالمية. هذا زعم شخص لا يقل أهمية عن دونالد ترمب الابن في مؤتمر العملات الرقمية الذي استضافته سنغافورة في وقت سابق من هذا الشهر.

تبدأ الحجة بملاحظة مفادها أن 99% من تداول العملات المستقرة في مختلف أنحاء العالم مربوط بالدولار. وإذا احتُـفِـظ بالعملات المستقرة المربوطة بالدولار هذه واستخدمت خارج الولايات المتحدة، فإنها ستوفر مجموعة جديدة تماما من شبكات الدفع الدولية، منفصلة ومن حيث المبدأ أسرع وأرخص من الخدمات المصرفية عبر الحدود ونظام المراسلة العتيق الذي تستخدمه البنوك، سويفت (SWIFT).

إذا أدى هذا إلى تعزيز جاذبية المدفوعات بالدولار، فسوف يتشجع أمناء الخزانة في الشركات على الاحتفاظ بمخزون من الدولارات. وسو تتشجع البنوك المركزية بالمثل على الاحتفاظ باحتياطيات من الدولار، لأن هذا سيمكنها من العمل كمقرض بالدولار ومقدم للسيولة كملاذ أخير. وسوف يؤدي هذا التكامل إلى تثبيت هيمنة الدولار.

تستند هذه الحجة إلى عدد كبير من الافتراضات التي تحتاج إلى تفكيكها. أولا، تفترض فكرة جاذبية العملات المستقرة بالدولار كوسيلة للدفع أنها ستكون مستقرة بالفعل (وهنا تأتي تلك الأسئلة الجيدة مرة أخرى)، وأن حكومات أخرى ستسمح لسكانها باستخدام العملات المستقرة المربوطة بالدولار بحرية.

قد تتردد بعض الحكومات، خشية أن يؤدي استبدال العملة إلى تقويض فعالية السياسة النقدية المحلية. وسوف يساور حكومات أخرى القلق إزاء تسهيل غسيل الأموال، وتجنب الضرائب، والتهرب من ضوابط رأس المال. وسوف تدقق سلطات الاتحاد الأوروبي في مدى توافق العملات المستقرة المربوطة بالدولار مع أحكام حماية المستهلك وتكامل السوق في لوائح تنظيم أسواق الأصول المشفرة (MiCA). وقد اعتبر الاتحاد الأوروبي بالفعل عملة التيثر، وهي العملة المستقرة الرائدة، على أنها غير ممتثلة.

السبب وراء الرفض هو أن الحكومات تفتقر إلى القدرة على عكس اتجاه هذا المد الرقمي. لكن أي شخص واجه "جدار الحماية العظيم" في الصين يعرف أن السلطات الوطنية تحتفظ بسلطة كبيرة تسمح لها بالحد من معاملات مواطنيها الرقمية. صحيح أن الأوروبيين ستكون لديهم القدرة على الوصول إلى العملات المستقرة بالدولار في الخارج حتى لو جرى حظرها في أوروبا ذاتها. لكن البنوك والشركات الكبرى ستكون مترددة في الانخراط في مثل هذا التهرب التنظيمي، خاصة وأنها ستدفع ثمنا باهظا إذا ضُـبِـطَـت.

يتمثل افتراض ثالث في أن مناطق الاختصاص حيث يجري تداول عملات أخرى لن تصدر عملات مستقرة خاصة بها. لكن الصين اتخذت للتو خطوة في هذا الاتجاه، حيث اعتمدت مرسوما يجيز إصدار عملات مستقرة مربوطة بالرنمينبي في هونج كونج.

أخيرا، من المفترض أن العملات المستقرة التي تحمل علامة خاصة لن تتفوق عليها العملات الرقمية التي تصدرها البنوك المركزية (CBDCs). هذه هي في الأساس ذات الأداة، لكنها صادرة فقط عن بنوك مركزية، والتي يمكنها ضمان تحويلها إلى نقود صادرة عنها. الواقع أن أكثر من 100 من البنوك المركزية تسلك طريق العملات الرقمية التي تصدرها شخصيا. الولايات المتحدة فقط هي التي تجنبت ذلك، وهذا يعكس شكوك البلاد التاريخية في عمل البنوك المركزية، فضلا عن الضغط الذي تمارسه صناعة العملات الرقمية.

يُظهر التاريخ أن أموال البنوك المركزية تتمتع بمزايا عميقة على الأموال الخاصة. وهذا يشكل سببا وجيها للاعتقاد بأن الولايات المتحدة تراهن على الحصان الخطأ.

* باري آيكنجرين، أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، وهو كبير مستشاري السياسات الأسبق في صندوق النقد الدولي. وهو مؤلف العديد من الكتب، بما في ذلك في الدفاع عن الدين العام، وكتاب: "المال بلا حدود: العملات العالمية من كروسوس إلى العملات المشفرة"

https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق