نقترب من رؤية علمية تتجاوز الجانب الأكاديمي إلى الإنساني، إذ تبحث في كيفية بناء طالبٍ شجاعٍ فكرياً وأخلاقياً، لا يخشى الخطأ، ولا يخفي رأيه خلف واجهات التفوق المصطنع، كما نتعرف على أبرز الصعوبات التي واجهتها في تصميم أدوات القياس النفسي الملائمة للبيئة العراقية...
في عالمٍ جامعي يتزايد فيه ضغط المقارنات الاجتماعية، وتتصاعد فيه التحديات النفسية التي تواجه الطلبة بين واقع الأداء وطموح الصورة الذاتية، تبرز الباحثة بسمة برهان رشيد من كلية التربية في الجامعة المستنصرية، لتضع يدها على واحدة من أكثر القضايا عمقاً وحساسية في سلوك الطلبة الجامعيين، من خلال أطروحتها للدكتوراه الموسومة “الشجاعة الاجتماعية وعلاقتها بالتفوق الوهمي وصورة الذات الأخلاقية لدى طلبة جامعة كربلاء”.
الباحثة، التي تعمل أيضًا تدريسية في قسم العلوم التربوية والنفسية بكلية التربية للعلوم الإنسانية في جامعة كربلاء، تنطلق في دراستها من رؤية مهنية وإنسانية ترى في “الشجاعة الاجتماعية” مدخلاً لتربية جيلٍ قادرٍ على المواجهة، لا على الانسحاب، وعلى الحوار لا الصمت، وعلى المبادرة لا الخضوع.
في هذا الحوار، تكشف بسمة برهان عن الدوافع التي جعلتها تختار هذا الموضوع الحيوي، وعن تفاصيل الرحلة البحثية التي خاضتها بين ثلاث متغيرات متشابكة تمسّ عمق الشخصية الجامعية: الشجاعة الاجتماعية التي تمثل القدرة على مواجهة المواقف الصعبة والتعبير عن الرأي رغم المخاطر، والتفوق الوهمي الذي يخلق انطباعات زائفة عن الكفاءة الذاتية، وصورة الذات الأخلاقية التي تحدد مدى التزام الفرد بمبادئه في المواقف الحساسة.
من خلال حديثها، نقترب من رؤية علمية تتجاوز الجانب الأكاديمي إلى الإنساني، إذ تبحث في كيفية بناء طالبٍ شجاعٍ فكرياً وأخلاقياً، لا يخشى الخطأ، ولا يخفي رأيه خلف واجهات التفوق المصطنع.
كما نتعرف على أبرز الصعوبات التي واجهتها في تصميم أدوات القياس النفسي الملائمة للبيئة العراقية، وكيف استطاعت أن توازن بين الدقة العلمية والبعد الثقافي والاجتماعي في دراستها.
في هذا الحوار، نحاور الباحثة حول المفاهيم والمناهج والنتائج، ونتوقف عند الأسئلة الأعمق:
ما الدافع الأساسي الذي قادكِ لاختيار موضوع الشجاعة الاجتماعية وعلاقتها بالتفوق الوهمي وصورة الذات الأخلاقية؟
انطلق اختيار الموضوع من الملاحظة المهنية والتجربة المباشرة لحالات ضعف الشجاعة الاجتماعية لدى الطلبة، وما يترتب عليها من عزوف عن مواجهة المواقف غير العادلة أو المشاركة الفاعلة في الحياة الجامعية. جاءت الدراسة لمحاولة فهم الجذور النفسية لهذه الظاهرة واستكشاف دور التفوق الوهمي وصورة الذات الأخلاقية في تعزيز أو إعاقة الشجاعة الاجتماعية.
كيف تفسرين الشجاعة الاجتماعية في السياق الجامعي؟ وهل تختلف عن مفهومها في المجتمع بشكل عام؟
في الجامعة، الشجاعة الاجتماعية هي القدرة على التعبير عن الرأي، مواجهة السلوكيات غير العادلة، وتحمل المسؤولية الاجتماعية رغم المخاطر المحتملة. تختلف عن المجتمع العام بكونها مرتبطة ببيئة أكاديمية منظمة، حيث تؤثر على التفاعل مع الزملاء والأساتذة والمناهج، وتعد شرطاً للنمو الفكري والمشاركة الفاعلة.
برأيكِ، ما أبرز التحديات التي تعيق الطلبة عن ممارسة الشجاعة الاجتماعية داخل الجامعة؟
تتمثل التحديات في تضارب الهويات شخصية، اجتماعية، أكاديمية، الخوف من فقدان العلاقات أو التعرض للعقوبات، ضغوط الامتثال لتوقعات الأساتذة، وتوتر القيم الذاتية مع البيئة الاجتماعية.
كيف يؤثر "التفوق الوهمي" على العلاقات الاجتماعية والأكاديمية لدى الطلبة؟
التفوق الوهمي يدفع الطلبة لتصور أنفسهم أفضل وأكثر كفاءة من الآخرين، ما يقلل من استعدادهم للتعاون ويعزز الانفصال الاجتماعي والتعصب، ويحد من رغبتهم في تطوير الذات، وبالتالي يضعف العمل الجماعي والتكيف الأكاديمي.
ما العلاقة الجوهرية بين صورة الذات الأخلاقية وقدرة الفرد على مواجهة المواقف الاجتماعية الصعبة؟
الأفراد ذو صورة الذات الأخلاقية القوية أكثر ميلاً لإظهار الشجاعة والدفاع عن القيم، بينما الذين يمتلكون صورة ضعيفة يميلون لتجنب المواقف الصعبة، وقد ينخرطون في سلوكيات غير أخلاقية خوفًا من زعزعة صورتهم أمام أنفسهم أو الآخرين.
لماذا اخترتِ المنهج الارتباطي لبناء دراستكِ؟ وهل فكرتِ في اعتماد منهج نوعي أو مزيج من المناهج؟
لأن الهدف هو قياس مدى إسهام كل من التفوق الوهمي وصورة الذات الأخلاقية في التنبؤ بالشجاعة الاجتماعية، وهو ما يتناسب مع المنهج الارتباطي الذي يكشف العلاقات بين المتغيرات ودرجة تأثيرها.
ما التحديات التي واجهتكِ أثناء تصميم أو تبني المقاييس النفسية الثلاثة (الشجاعة الاجتماعية، التفوق الوهمي، صورة الذات الأخلاقية)؟
أهم التحديات كانت ملائمة المقاييس للبيئة الجامعية العراقية من حيث اللغة والثقافة، وضبط الصدق والثبات لضمان أنها تقيس فعلاً ما وضعت لقياسه. كما تطلب الأمر تعديل بعض البنود وتكييفها سياقيًا لتناسب عادات الطلبة.
كيف تأكدتِ من صلاحية وصدق أدوات القياس التي استعملتها؟
تم ذلك من خلال التحكيم العلمي من قبل خبراء، واستخدام الصدق الظاهري وصدق المحتوى، إضافة إلى حساب معامل الثبات باستخدام معامل ألفا كرونباخ وتحليل العوامل للتأكد من اتساق المقاييس.
أشارتِ النتائج إلى وجود علاقات ارتباطية معينة، كيف تفسرين هذه النتائج في ضوء البيئة الجامعية العراقية تحديداً؟
النتائج فسرت بأن المرحلة الجامعية انتقالية مليئة بالتحديات الجديدة التي تتطلب شجاعة اجتماعية للتأقلم، وأن دعم الأسرة والإعلام والأساتذة يلعب دوراً حاسماً في تمكين الطلبة من مواجهة هذه المتغيرات بثقة وفاعلية.
ما أكثر نتيجة في البحث شكلت لكِ مفاجأة أو لم تكن ضمن توقعاتكِ؟
أظهرت النتائج أن بعض الطلبة رغم امتلاكهم تصورات إيجابية عن أنفسهم صورة ذات أخلاقية مرتفعة)، إلا أن سلوكياتهم الواقعية لم تنسجم مع هذه الصورة، مما أبرز التناقض بين الهوية المعلنة والسلوك الفعلي.
كيف يمكن الاستفادة من نتائج البحث عملياً في تطوير برامج إرشادية أو تربوية داخل الجامعات؟
يمكن استثمار النتائج في تصميم برامج إرشادية وورش عمل داخل الجامعات لتدريب الطلبة على التعبير عن الرأي، تعزيز المسؤولية الاجتماعية، وتصحيح التقديرات الذاتية المبالغ فيها.
برأيكِ، هل يمكن للشجاعة الاجتماعية أن تُعلَّم وتُنمّى من خلال برامج تدريبية، أم أنها سمة شخصية يصعب تغييرها؟
الأدبيات تشير إلى أن الشجاعة الاجتماعية ليست مجرد سمة فطرية بل يمكن تنميتها عبر التدريب، الأنشطة اللامنهجية، وتعزيز مهارات القيادة والمسؤولية الاجتماعية.
إذا كان الطالب يمتلك صورة ذاتية أخلاقية ضعيفة، كيف يمكن معالجتها أو تقويتها داخل البيئة التعليمية؟
يتم ذلك من خلال دمج مفاهيم النزاهة والعدالة في المناهج الجامعية، تقديم أنشطة تعزز القيم الأخلاقية، وتوفير تغذية راجعة بنّاءة للطلبة تساعدهم على تحقيق توازن بين تصورهم الذاتي وأدائهم الفعلي.
كيف ترين العلاقة بين التفوق الوهمي والإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي، وهل يزيد من انتشار هذه الظاهرة بين الشباب الجامعي؟
وسائل التواصل تسهم في تضخيم التصورات الذاتية من خلال المقارنات الاجتماعية، مما يزيد من انتشار التفوق الوهمي بين الطلبة ويؤثر على قدرتهم على تقييم ذواتهم بواقعية.
ما اقتراحاتكِ المستقبلية للباحثين أو المؤسسات التعليمية لبناء بيئة جامعية أكثر دعماً للشجاعة الاجتماعية وتعزيز صورة الذات الأخلاقية؟
توصي الأطروحة بتصميم برامج تدريبية لتعزيز الشجاعة الاجتماعية، دمج القيم الأخلاقية في المناهج، تقديم تغذية راجعة بناءة، وتدريب الأساتذة على اكتشاف مظاهر التفوق الوهمي وتوجيهها نحو تعزيز الثقة الواقعية بالنفس.
في ختام هذا الحوار، يتضح أن الباحثة بسمة برهان رشيد لم تكتفِ بتناول موضوع أكاديمي نظري، بل قدمت من خلال أطروحتها للدكتوراه رؤية متكاملة لفهم العلاقة بين الشجاعة الاجتماعية والتفوق الوهمي وصورة الذات الأخلاقية، بوصفها ثلاثية تمسّ جوهر الشخصية الجامعية وتكشف ملامح تكوينها النفسي والأخلاقي.
لقد سعت إلى تجاوز حدود التحليل إلى اقتراح حلول عملية يمكن أن تسهم في بناء بيئة جامعية أكثر وعياً وثقة وعدلاً، حيث يصبح الطالب قادراً على التعبير عن ذاته ومواجهة التحديات دون خوف أو تردد.
ما طرحته الباحثة من نتائج وتوصيات يفتح الباب أمام المختصين في علم النفس والتربية لمراجعة أساليب الإرشاد الجامعي وبرامج التنمية الذاتية، بما يضمن أن لا يكون التفوق مجرد رقم في سجل الدرجات، بل سلوكاً يعكس نضجاً فكرياً ومسؤولية أخلاقية.
هكذا تؤكد بسمة برهان أن الشجاعة الاجتماعية ليست ترفاً أو صفة نادرة، بل قيمة تربوية يجب أن تُزرع وتُنمّى في نفوس الطلبة، لتصنع جيلاً قادراً على التغيير لا التبرير، وعلى الفعل لا الانفعال.
اضف تعليق