المقاطعة هي ما ترغب به الأحزاب التي تملك قواعد انتخابية ثابتة، والسبب أن المشاركة الكبيرة في الانتخابات وخصوصا من الأغلبية الصامتة قد تؤدي الى احداث تغيرات كبيرة في موازين القوى، فالشعب يستطيع ان يمارس حقه في التصويت ومعاقبة الفاشلين والفاسدين، وهو حق ينبثق من عمق العملية الديمقراطية. فعندما يشارك...

تظل الديمقراطية، محاطة بإشكالية محورية تتعلق بمدى أهلية الشعب وقدرته على ممارسة حق الاختيار السليم. فبينما يرى البعض أن قصور الوعي الشعبي هو المسبب لاختيار شخصيات غير كفؤة، لكن التحدي الحقيقي يرتكز أساساً على غياب (الأحزاب السياسية الحقيقية) التي تملك مشروعا سياسيا. هذا الغياب يؤدي إلى نشوء نظام سياسي وانتخابي هش تحركه أهداف قصيرة المدى تؤدي الى هشاشة الديمقراطية وفشلها.

لذلك فإن إشكالية المقاطعة في انها لا تخدم سوى الفاسدين، وتُفوِّت على "الأغلبية الصامتة" الفرصة الوحيدة لاستخدام صوتها كأداة للتغيير. فالمشاركة الواعية هي المدخل لتراكم التجارب الديمقراطية السليمة، وتأمين المسار السلمي والتدريجي لبناء مستقبل مستقر.

غياب الأحزاب الراسخة

الديمقراطية ومنذ تناولها (أرسطو وأفلاطون)، تُعد مشكلةً جوهريةً؛ إذ قد يفتقر الشعب إلى (التفكير، والاختيار، والوعي، والعقلية) الكافية لاختيار أشخاص أكفاء. وعادةً ما يميل الأفراد لاختيار شخصيات غير مناسبة.

لهذا السبب، دعا أفلاطون إلى (الجمهورية الفاضلة) وإلى حكومة (أهل الحل والعقد، أو النخبة، أو الفلاسفة)، لاعتباره أن الشعب غير مؤهل للاختيار السليم. وبالتالي، فإن هذه القضية قديمة وليست وليدة اليوم. وأي دولة في العالم تشهد انتخابات تواجه الطرح ذاته الذي نناقشه حاليًا.

ولكن المشكلة ليست فقط في الناخب، بل المشكلة الأكبر في (النخب والأحزاب)، فمن ناحية الدساتير، لا يوجد دستور مثالي، وقد يكون الدستور العراقي أفضل من دساتير أخرى، وقد يتفوق النظام الانتخابي العراقي أنظمة انتخابية وان يعتبر البعض ان نظام سانت ليغو من اسوء الأنظمة الانتخابية. فالمشكلة الأساسية تكمن في غياب الأحزاب الحقيقية التي تملك مشروعا سياسيا مستداما ولها تجارب وخبرة مديدة؛ إذ لا يمكن بناء (نظام سياسي، أو ديمقراطية حقيقية، أو انتخابات حقيقية)، ما لم تتوافر أحزاب كبيرة وراسخة، ولها تقاليد وأعراف، وتجري في داخلها انتخابات حقيقية، وقواعد عمل نشطة ومتحركة باستمرار، وهذا ما لا تفعله الأحزاب الصغيرة، التي تتشكل قبل أشهر من موعد الانتخابات وتفتح مكاتبها على أمل تحقيق الإصلاح، وهو أمر غير ممكن على الإطلاق.

أما بالنسبة للمرشحين، فلا يوجد مرشح نزيه وآخر غير نزيه، فالجميع سينخرط في اللعبة، وعندما تكون قواعد اللعبة سيئة، سيصبح المرشح سيئًا، وعندما تكون القواعد جيدة يصبح جيدًا. فالمشكلة تدور حول تأسيس نظام حزبي يقوم على وجود الأحزاب كبيرة والمنتخبة ولها قواعد عمل داخلية، والخروج من هذا الإطار الحالي إلى وجود الأحزاب التي تنقسم الى الحكومة والمعارضة.

ما هو الحل للمقاطعة؟ 

إن المقاطعة هي ما ترغب به الأحزاب التي تملك قواعد انتخابية ثابتة، والسبب أن المشاركة الكبيرة في الانتخابات وخصوصا من الأغلبية الصامتة قد تؤدي الى احداث تغيرات كبيرة في موازين القوى، فالشعب يستطيع ان يمارس حقه في التصويت ومعاقبة الفاشلين والفاسدين، وهو حق ينبثق من عمق العملية الديمقراطية. فعندما يشارك الناخب في الانتخابات فهو سيهزم بصوته ذلك الفاسد بانتخاب غيره، ويفسد على الكتل السياسية قواعد اللعبة السيئة التي وضعتها، وهذا يتحقق من خلال مشاركة الأغلبية الصامتة بقوة في الانتخابات.

تراكم التجارب الانتخابية

كما ان المشاركة في الانتخابات وممارسة حق التصويت العقابي يعطي دروسا لأبنائنا في أن الانتخابات هي الطريق الصحيح لبناء المستقبل، فبعض الشباب يعتقد أن الدكتاتورية هي الحل، كرد فعل على الفساد الذي ينخر بالكتل السياسية التي صعدت الى السلطة عن طريق الانتخابات.

ان الذي يغيب عن ذهن الكثيرين ان الانتخابات عامل أساسي في امتصاص العنف واهتزاز السلم الاجتماعي، فلولا وجود انتخابات لما حصل تغيير وتداول سلمي للسلطة، وكان ذلك يؤدي الى العنف والحروب الأهلية المستمرة المتتالية، ولكن ومع كل المشكلات والاستعصاءات كان للانتخابات دور إيجابي نسبي في وقف الانقلاب العنيف في العملية السياسية والحفاظ على الاستقرار الأمني والاقتصادي.

التغيير التدريجي

 ولابد من معرفة حقيقة اساسية انه ليس لدينا تغيير فجائي ولا تغيير فوري وإنما التغيير الحقيقي للمجتمعات وتقدمها تغيير قائم على التجارب والمحاولة بالخطأ، ولابد للمجتمع ان يمارس هذه التجارب حتى يتعلم الممارسة الانتخابية بشكل صحيح، وان يفهم تـأثير الديمقراطية في حياته، فلا يمكن زراعة واستنبات الديمقراطية في الإنسان الذي تجذر في ذهنه الاستبداد، فهو في قرون طويلة قد تعود على الاستبداد والخضوع للسلطة فكيف يتم تعليمه الديمقراطية في ليلة وضحاها.

 لذلك نحتاج إلى ممارسة طويلة من التجربة الديمقراطية والانتخابات حتى تصبح ثقافة عامة تدخل في بنية المجتمع، ولا يمكن تشكيل انتخابات قوية بمخرجات قوية ما لم تكن لديك عملية تراكم طويلة المدى.

الانتخابات حق وواجب

ان الانتخابات حق يجب التمسك به، وواجب ومسؤولية يجب ادائها من خلال ما يرسخه مفهوم المواطنة وجوهر العقد الاجتماعي، والا سوف نرجع الى مربع الطغيان والاستبداد، والاشكالات الموجودة حول فساد بعض الاشخاص وسوء اداء الكتل السياسية وانتشار الفساد والمحاصصة، كلها من مسؤوليات الناخب والمواطن حيث يستطيع ان يسقط هؤلاء الفاسدين من خلال صوته. ان التفاعل الايجابي والحث على المشاركة وانتخاب الاصلح كلها عوامل تساهم في وجود انتخابات صحيحة...

كما لايجب ان تتحول الاحباطات الى طاقة سلبية يستفيد منها الفاسدون ويسقط المصلحون وتفشل الانتخابات، فالفاسدون يراهنون على احباط ويأس الناخبين للصعود مرة أخرى.

بالتأكيد. بناءً على الأفكار والتحديات التي ناقشها النص حول ضرورة التغيير التدريجي وأهمية المشاركة، إليك خاتمة مقال تتضمن توصيات عملية:

في الختام، يتضح أن أزمة الديمقراطية والانتخابات هي قضية مركبة، لا يمكن اختزالها في عيب واحد أو قانون سيئ، بل هي نتاج تراكمي لضعف البنية الحزبية وغياب الممارسة الواعية. إن التغيير الحقيقي للمجتمعات ليس فجائياً، بل هو عملية طويلة الأمد تتطلب ممارسة وتجربة مستمرة لترسيخ الثقافة الديمقراطية في الذهن الذي اعتاد على الاستبداد.

وبناءً على لابد من ايجاد مسارات عمل ايجابية للخروج من دائرة الإحباط السياسي، من خلال:

1. التمسك بحق المشاركة ورفض المقاطعة وان المشاركة القوية هي الوسيلة الوحيدة لتطبيق مبدأ "التصويت العقابي" وهزيمة الفاسدين وإفساد قواعد لعبتهم.

2. دعم بناء الأحزاب الكبيرة والراسخة وتأسيس كيانات سياسية ذات تاريخ واضح، تملك برامج مستدامة، وتجري في داخلها انتخابات حقيقية، وصولاً إلى نظام حزبي يقوم على مبدأ (الحكومة والمعارضة).

3. التوعية بأهمية التراكم الديمقراطي عبر نشر الوعي بأن الانتخابات ليست غاية فورية، بل وسيلة لامتصاص التهديدات التي تمس السلم الاجتماعي، وضمان التداول السلمي للسلطة، وتوفير تجربة مستمرة لتعليم الأجيال أن هذا هو الطريق الصحيح لبناء المستقبل، مهما كانت الإحباطات.

4. اعتبار الانتخابات واجب وطني حيث انها مثل جوهر العقد الاجتماعي ومسؤولية المواطنة.

إن رهان منظومة الفساد يقوم على يأس وإحباط الناخبين، لذا فإن تحويل هذا الإحباط إلى طاقة مشاركة إيجابية فاعلة هو الخطوة الأهم نحو إصلاح جذري ومستدام.

* مقتطفات من مجموعة مداخلات القيت في الجلسات الحوارية التي يعقدها ملتقى النبأ الاسبوعي

اضف تعليق