إن زخم الدعاية الانتخابية المفرط لبعض الكتل ليس مجرد تفصيل بصري عابر، بل هو مؤشر سياسي واقتصادي عميق، يستحق التدقيق من قبل الهيئات الرقابية والرأي العام، فالديمقراطية لا تُقاس فقط بعدد المرشحين أو صناديق الاقتراع، بل أيضا بعدالة المنافسة ونزاهة الموارد التي تُستخدم لخوضها...
مشهد انتشار بوسترات الدعاية الانتخابية في المدن العراقية، يبدو في ظاهره تنافسا ديمقراطيا طبيعيا، الا انه يكشف في عمقه عن اختلال واضح في العدالة الانتخابية، ويشير بصمت إلى وجود موارد غير متكافئة، بعضها قد يرتبط باستخدام المال العام أو قنوات تمويل غير مشروعة.
الدعايات الانتخابية وضمن وظيفتها الرئيسية تسعى لكسب الأنظار قبل الأصوات، وتحاول الاستحواذ على الرأي العام بصورة أولية، لكنها أعطت انطباعات كبيرة عن حجم الفساد والسيطرة على المال العام من قبل الأحزاب المتنافسة على السلطة والمؤثرة في الساحة السياسية.
لا يحتاج المار في شوارع المدن العراقية إلى كثير من التدقيق ليدرك أن بعض الكتل الانتخابية تهيمن على المشهد البصري بالكامل؛ فبوستراتها تنتشر بكثافة على أعمدة الكهرباء، والجدران، واللوحات الإعلانية الضخمة، حتى تكاد تطغى على مظاهر الحياة اليومية، في المقابل تبدو دعايات منافسيها محدودة وباهتة، وكأنهم ينافسون في ميدان غير متكافئ.
هذه الهيمنة الدعائية لا يمكن تفسيرها فقط بالحماسة الانتخابية، بل تعكس غالبا خللا في مصادر التمويل، فحملات بهذا الحجم تتطلب مبالغ مالية ضخمة تشمل استئجار المساحات الإعلانية، وطباعة آلاف الصور، وتوظيف عمال لتثبيتها وصيانتها، وفي ظل غياب الشفافية الكاملة عن مصادر تمويل الأحزاب، يصبح من المشروع التساؤل: من أين تأتي هذه الأموال؟
التجربة العراقية تشير إلى أن بعض القوى السياسية التي تمتلك نفوذا في مؤسسات الدولة أو ترتبط بعقود حكومية، قادرة على تسخير المال العام أو شبكات التمويل غير النظامي لصالح دعاياتها.
وقد تتخذ هذه الممارسات أشكالا متعددة، مثل تمويل الحملات من خلال شركات مرتبطة بعقود الدولة، أو استخدام آليات المؤسسات العامة في الترويج غير المباشر للمرشحين، وهذه الظاهرة وإن لم يُعلن عنها رسميا، إلا أن مخرجاتها واضحة في الشارع.
الاختلال الدعائي وعدم المساواة في الساحة الاعلانية، في الغالب يشكل تهديدا مباشرا لمبدأ تكافؤ الفرص الانتخابية، وهو أحد الأعمدة الأساسية لأي عملية ديمقراطية نزيهة، فحين تحتكر كتلة واحدة الفضاء العام وتغرقه بصورها ورسائلها، فإنها لا تروج لأفكارها فحسب، بل تفرض حضورها القسري على الناخب، وتضع خصومها في موقع الضعف، حتى لو كانوا يمتلكون برامج أكثر إقناعا.
ويحدث هذا عندما تغيب الرقابة الصارمة على تمويل الحملات الانتخابية، اذ يُفتح الباب أمام تحول العملية الانتخابية إلى ساحة نفوذ مالي، لا ساحة تنافس سياسي، الامر الذي ينعكس سلبا على ثقة الجمهور بالعملية الانتخابية نفسها، إذ يشعر الناخب بأن النتائج تُحسم مسبقا لصالح من يملك المال لا من يقدم الحلول.
في النهاية، فإن زخم الدعاية الانتخابية المفرط لبعض الكتل ليس مجرد تفصيل بصري عابر، بل هو مؤشر سياسي واقتصادي عميق، يستحق التدقيق من قبل الهيئات الرقابية والرأي العام، فالديمقراطية لا تُقاس فقط بعدد المرشحين أو صناديق الاقتراع، بل أيضا بعدالة المنافسة ونزاهة الموارد التي تُستخدم لخوضها.
اضف تعليق