يشهد العراق حملة انتخابية كبيرة هي الاغلى والاعلى كلفة لاختيار نواب الدورة البرلمانية الجديدة، أكثر من ثمانية آلاف مرشح ومرشحة يتنافسون على أصوات المواطنين الذين سيدلون بآرائهم في الحادي عشر من تشرين الثاني المقبل. المثير في هذه الانتخابات التي تختلف نسبيا عن سابقاتها هو التنافس الشديد على الاصوات ذاتها...

يشهد العراق حملة انتخابية كبيرة هي الاغلى والاعلى كلفة لاختيار نواب الدورة البرلمانية الجديدة، أكثر من ثمانية آلاف مرشح ومرشحة يتنافسون على أصوات المواطنين الذين سيدلون بآرائهم في الحادي عشر من تشرين الثاني المقبل. المثير في هذه الانتخابات التي تختلف نسبيا عن سابقاتها هو التنافس الشديد على الاصوات ذاتها، التي دأبت على المشاركة دونما سعي جاد إلى اجتذاب الاصوات الجديدة.

 سواء التي كانت ترفض المشاركة أو تلك المترددة والعازفة، معلوم ان نسبة المشاركة في التصويت في آخر دورتين انتخابيتين كانت منخفضة للغاية ومثار جدل بين من يعتقد أنها دون العشرين بالمئة، وبين الأرقام التي أعلنتها مفوضية الانتخابات، لو صدقنا الارقام الرسمية لنسبة المشاركة التي لم تتجاوز الـ42 بالمئة من الذين يحق لهم التصويت، فهذا يدل على أن قرابة ثلثي المصوتين تقاعسوا عن المشاركة وعزفوا عنها كسلا أو رفضا أو لعدم ثقتهم بالأداء السياسي أو نزاهة الانتخابات. هذه النسبة الكبيرة من المقاطعين كان ينبغي أن تكون موضع عناية واهتمام القوى السياسية والمترشحين، لاجتذابهم وتحفيزهم على المشاركة. 

ثمة عوامل مؤثرة كان ينبغي العمل عليها لجعل السلوك الانتخابي للمرشحين جاذبا لأصوات المترددين أو غير المقتنعين، منها التركيز على القضايا الاساسية، التي تهم المواطنين (الخدمات، الاقتصاد، المستقبل، الامن) ومنها ايضا التركيز على خطاب التغيير والتجديد ببرامج واقعية وعقلانية تقنع الفئة العازفة، وهي الفئة الاكبر من الكتلة الانتخابية للمشاركة والاسهام في العمل السياسي الفاعل والجاد.

أغلب القوى السياسية حتى لا اقول جميعها ركزت على جوانب نفسية يفتقدها العراقي الذي تعود أن تكون السلطة حاسمة وقوية وذات هيبة لا ينافسها فيها أحد، ولا ينازعها حزب أو فصيل أو تيار في مشهد تكرر كثيرا حيث بدت السلطات وكأنها وسيط بين متخاصمين، أو غير قادرة على حسم القضايا الكبرى داخليا وخارجيا وتحتاج إلى معونة ومساعدة، لهذا وجدنا الشعار الرئيس للقوائم المتنافسة يركز على مفهوم القوة، عراق قوي، قوة وازدهار، القرار الاقوى، القضية والهوية، لكن كيف تتحقق هذه القوة؟ هذا السؤال بقي بلا جواب أو بجواب مضمر مفاده انتخبونا لنكون نحن القوة التي تنتظرونها، لكنها قوة بطبيعة الحال ناقصة وغير واقعية، فعن أي قوة تتحدث الاحزاب والقوائم التي تمثلها، وهي لا تستطيع كبح النزوع السلطوي لديها، معتمدة على (كاريزما) الوجوه الزعاماتية، الزعماء يريدون اتباعا لا شركاء، والقوة منحصرة بما يفكر به الزعيم وما يراه مناسبا، دونما وعي عميق لطبيعة المشكلات البنيوية للاقتصاد والامن والسياسة الخارجية.

النزعة السلطوية منعت احزابا وقوى كانت تتحد وتأتلف في ما سبق للحصول على تمثيل معقول لقاعدة انتخابية محدودة معروفة الثقافة والولاء والشعار والخطاب، لم تستطع هذه القوى التوحد والائتلاف في قائمة محددة رغبة منها في تأكيد حضورها وقياس مساحة تأثيرها ولإشعار الاخرين المنافسين بصوابية سياستها وخطابها.

هذا يكشف عن أن الانتخابات لا تشهد تنوعا في البرامج والرؤى والخيارات، بل تنافسا بين زعماء وقادة كل منهم يسعى لبناء شرعية انتخابية لمواقفه اللاحقة، ولهذا وجدنا أن مرشحي القوائم الكبيرة والصغيرة يضعون صورهم إلى جانب صور القادة والرموز ليقولوا لناخبيهم ومحازبيهم انكم تختارون الزعيم ليمثلكم أما نحن فسنكون ارقاما على الطريق الذي يوصلكم إلى القادة، ولأن الانتخابات تشهدا تنافسا على جمهور محدد بغياب الثقة في دفع الجمهور العازف أو المتردد للمشاركة، فقد اضطرت القوى المختلفة إلى زيادة ضخ المال السياسي ما جعل المنافسة الانتخابية تقوم على الصورة والابهار والتكثيف البصري من جهة وعلى شراء الاصوات وبطاقات الناخبين في نكسة مؤسفة للديمقراطية الناشئة التي يتوقع منها الخبراء أن تنضج وتسدد اخفاقاتها وعيوبها تدريجيا.

حضور المال السياسي الضخم الذي فاق التوقعات (قدر بحدود 2 تريليون دينار) ينذر بتحول الانتخابات إلى حلبة مالية وبورصة يستقتل فيها الطامحون إلى لعب الادوار السياسية للحصول على المال من مصادر مختلفة داخلية وخارجية، مقابل تنازلات وتعهدات وضمانات قد تكون مضرة بالدولة والاقتصاد، ما يشير إلى حجم الحضور المالي في العملية الانتخابية وتحول التمثيل السياسي (النيابي) إلى فرصة لحماية النفوذ المالي والاقتصادي عبر اندفاع رجال الأعمال ونجوم الطبقة الثرية الجديدة إلى ممارسة العمل السياسي مباشرة، من خلال النزول في قوائم معروفة بدلا من أن يكون تأثيرهم غير مباشر كما يحصل في بلدان العالم الاخرى، فالمعروف أن الأحزاب تسعى إلى التمويل عبر تمثيل مصالح الفئات والقوى الاجتماعية والاقتصادية وتدافع عنها، وغالبا يكتفي رجال الاعمال بتمويل الجهات القريبة سياسيا وبرامجيا لهم دفاعا عن مصالحهم، أما ان يندفع رجال الاعمال للتنافس الانتخابي المباشر واعتماد منطق (الحسنات والتأثير المادي) طمعا في الفوز، فهذه ظاهرة جديدة تكشف عن الولع العراقي بالسلطة والرغبة الشديدة في الوجاهة السياسية إلى جانب الوجاهة المالية، ناهيك عمّا يمثله حضور رجال الاعمال في بنية السلطة التشريعية بما يوحي باستثمار هذا الحضور لحماية مصالح الطبقات العليا تشريعا، وتنفيذا بما سيضر بالطبقات التي اعتادت على دعم الدولة وحمايتها.

قليل أولئك الذين اعترضوا ويعترضون على الانفتاح الاقتصادي ومنح الرأسمالية الناشئة مزيدا من الفرص لتحديث الاقتصاد واخراجه من ريعيته واستيعاب طالبي العمل الجدد، لكن غياب نظام ضريبي فعال وانتفاع الرأسماليين الجدد من الاحزاب والقوى السياسية للحصول على الفرص المالية والاستثمارية ينذران بتوسع الفجوات الطبقية وهيمنة متحد سياسي اقتصادي مالي مسلح بالنفوذ السلطوي على مقدرات الاجتماع العراقي، وهذه أحد المحاذير التي ينبغي للخبراء والمفكرين أن يرشدوا السلطات والامة على حد سواء، لضمان تنمية قليلة العيوب والاخطاء لا تقصي الرأسمال الوطني والاجنبي، ولكن لا تمنح امتيازات كبيرة تتحول بمرور الزمن إلى اقطاعيات مالية سياسية، توقظ روح التمرد الاجتماعي في بلد يتحفز فيه الناس إلى الاعتراض والشك بالسلطات بلا تحقق .

التوقعات تشير إلى أن بنية السلطة التشريعية الجديدة ستكون مرآة للقوى الجديدة في تحالفاتها السياسية والمالية، وسيكون تشكيل السلطة التنفيذية عرضة لمساومات وتجاذبات داخلية وتدخلات خارجية أصعب من ذي قبل.

اضف تعليق