إن الفروقات العقلانية بين الحرية والعبثية تكشف أن الأولى قيمة سامية ترفع من شأن الإنسان، بينما الثانية انحراف يهدر طاقته ويفكك المجتمع، الحرية مسؤولية قبل أن تكون امتيازًا، وممارسة رشيدة قبل أن تكون اندفاعًا، أما العبثية، فهي الوجه الآخر للفوضى، ومتى ما خلطناها بالحرية، ضاعت القيم وتلاشت الضوابط...
يُعَدّ مفهوم الحرية من أعظم القيم التي سعت الإنسانية لترسيخها عبر العصور، غير أن هذا المفهوم كثيرًا ما يُساء فهمه أو يُشوَّه في الممارسة، إذ يختلط عند البعض معنى الحرية بالعبثية، فيُختزل الحق في الاختيار إلى انفلات من كل قيد أو مسؤولية، ومن هنا تبرز الحاجة إلى تمييز عقلاني بين الحرية باعتبارها قيمة إنسانية وحقًا أصيلًا، وبين العبثية التي تمثل انحرافًا عن المعنى الحقيقي للحرية.
الحرية ليست مجرّد نزوة فردية، بل هي حق عقلي وأخلاقي وقانوني يقوم على مبدأ أساسي هو قدرة الإنسان على الاختيار الواعي، وتتجلى أهم ملامحها في الارتباط بالعقل فالحرية تعني اتخاذ القرار في ضوء العقل والتمييز، لا تحت تأثير الأهواء العابرة، وفي المسؤولية إذ لا تُتصور حرية بلا مساءلة عن النتائج، أيضًا في الانسجام مع القانون فالحرية لا تُمارس في الفراغ، وإنما ضمن منظومة قانونية تنظّم العلاقات وتحمي الحقوق، كذلك في البعد الإنساني فهي وسيلة لتحقيق الكرامة الإنسانية، لا مجرد فعلٍ فرديٍ منفلت.
والعبثية ليست حرية موسّعة، بل هي انفلات من الضوابط العقلية والأخلاقية، وغالبًا ما تؤدي إلى التنكر للمعنى حيث يصبح السلوك غاية في ذاته بلا هدف أو قيمة، الفوضى الاجتماعية لأن العبثية تتجاهل حقوق الآخرين وتنسف قواعد التعايش، انعدام المسؤولية فالفرد العبثي يرى نفسه غير ملزم بنتائج أفعاله، وفي انهيار القيم حيث تتراجع الكرامة والعدالة أمام نزوات وقتية، وبذلك فالعبثية هي نقيض الحرية الحقيقية، لأنها تحوّل الإنسان من كائن مسؤول إلى كائن عابر بلا بوصلة.
يمكن تلخيص الفارق الجوهري في المعادلة الآتية: (الحرية = اختيار + عقل + مسؤولية)، أما (العبثية = نزوة – عقل – مسؤولية)، فالحرية تنطلق من قدرة الإنسان على التمييز، بينما العبثية تلغي تلك القدرة لصالح الاندفاع غير المحسوب، كما أن الحرية تُبنى على مراعاة الغير في توازن مع الذات، في حين أن العبثية تُقصي الغير وتختزل الوجود في الأنا، وفي زمن يتسارع فيه الخطاب عن الحرية الفردية، يصبح التمييز بين الحرية والعبثية ضرورة لحماية المجتمعات من الفوضى، فالدساتير والقوانين تُقرّ بالحقوق والحريات، لكنها في الوقت ذاته تؤكد على احترام النظام العام والآداب العامة ومن ثمّ فإن الحرية الحقيقية هي تلك التي تُمارس في إطار يضمن العدالة، التعايش، وصون الكرامة الإنسانية.
ختامًا- إن الفروقات العقلانية بين الحرية والعبثية تكشف أن الأولى قيمة سامية ترفع من شأن الإنسان، بينما الثانية انحراف يهدر طاقته ويفكك المجتمع، الحرية مسؤولية قبل أن تكون امتيازًا، وممارسة رشيدة قبل أن تكون اندفاعًا، أما العبثية، فهي الوجه الآخر للفوضى، ومتى ما خلطناها بالحرية، ضاعت القيم وتلاشت الضوابط، وعليه يبقى جوهر التمييز في أن الحرية تُبنى بالعقل، بينما العبثية تنقض العقل وتستبدل به النزوة.
اضف تعليق